فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

الوضع الفلسطيني الراهن وموازين القوى الجديدة

منير شفيق

الملخّص

 عندما فشلت استراتيجية المحافظين الجدد (فی عهد بوش الابن) في احتلالها للعراق وأعلنت حکومة باراک اوباما قرارها بالانسحاب، وكذلك كان مصير احتلالها لأفغانستان، فضلاً عن فشلها في بناء شرق أوسط جديد. وتعزز بروز أدوار عالمية جديدة لدول كبرى وإقليمية مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وإيران وتركيا وجنوبي أفريقيا. الأمر الذي أوجد عالماً لا نظام عالمياً يحكمه كما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية. أي نظام يسوده تعدّد القطبية. بل هو أقرب لحالة من الفوضى العالمية.

ثمة تقدير شائع يعتبر أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية قد تراجع خلال الست سنوات الماضية، فيما انشدّ الاهتمام إلى الصراعات الداخلية، وإلى التحديّات التي نشأت في الظروف العالمية والإقليمية الجديدة. وقد أخذ اتجاه بعض الدول العربية نحو مزيد من التعاون مع الكيان الصهيوني، وإسقاطه كعدّو/ ليعزّز القول أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية قد تراجع أو حتى انقلب إلى نقيضه مع دعوات التحالف مع الكيان الصهيوني. ولکن يمكن القول بأن الكيان الصهيوني لم يستطع أن يفيد من السلبيات التي نشأت من الصراعات الداخلية العربية، كما كان يُفترض به أن يفيد. بل هنالك أبعاد في هذه الصراعات تجعله أشدّ قلقاً من المستقبل الآتي

إن موازين القوى العالمية والإسلامية والعربية والفلسطينية كما الوضع الصهيوني- الأمريكي- الأوروبي، كما الأوضاع الراهنة جملةً يجعل من الممكن للشعب الفلسطيني إذا ما اتحدّ وبادر في ظل الانتفاضة الشعبية الشاملة والعصيان المدني بأن يحقق الهدفين القابلين للتحقيق وهما دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط.  فتحرّر القدس والضفة الغربية.

عندما تسلم باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية من جورج بوش الابن كانت استراتيجية المحافظين الجدد قد فشلت في احتلالها للعراق وأعلنت قرارها بالانسحاب، وكذلك كان مصير احتلالها لأفغانستان، فضلاً عن فشلها في بناء شرق أوسط جديد-كبير. وجاءت هزيمة الجيش الصهيوني في حربه العدوانية ضدّ المقاومة الإسلامية بقيادة حزبالله، في تموز/يوليو 2006، ثم هزيمته في حربه العدوانية ضدّ المقاومة (حماس والجهاد والشعب) في قطاع غزة عام 2008/2009، ليكرّسا فشل المحافظين (إدارة جورج دبليو بوش)، وليُدخلا الكيان الصهيوني في مرحلة جديدة من موازين القوى لم يسبق لها مثيل في غير مصلحته.

 ثم جاء اندلاع الأزمة المالية العالمية 2008 لتطيح بالعولمة عملياً أو لتُدخل النظام الرأسمالي العولمي، وعلى رأسه أمريكا، في أزمة عميقة هزّته هزّاً.  هذا يعني أن نهاية العام 2010 كان مؤشراً لمعادلة جديدة في ميزان القوى العالمي، كما ميزان القوى الإقليمي في منطقتنا (إيران- تركيا- البلاد العربية). وكانت سمتها الأولى فُقدان السيطرة الأمريكية- الأوروبية على النظام العالمي. وقد عزز ذلك بروز أدوار عالمية جديدة لدول كبرى وإقليمية مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وإيران وتركيا وجنوبي أفريقيا. الأمر الذي أوجد عالماً لا نظام عالمياً يحكمه كما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية. أي نظام يسوده تعدّد القطبية. بل هو أقرب لحالة من الفوضى العالمية.

 الأمر الذي انعكس أيضاً على النظام الإقليمي الذي تشكل عندنا إثر الحرب العالمية الأولى. وتكرس بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الحرب الباردة والسيطرة الأمريكية. فقد اتسّم هذا النظام عندنا ما بعد 2010 بفقدان السيطرة الأمريكية- الأوروبية ودخول المنطقة في حالة من الفوضى، ولا سيما بعد إطاحة ثورتَيْ تونس ومصر 2011 برأسَيْ نظاميهما وكان ذلك إعلاناً عن انهيار ما عُرِف بمحور الاعتدال العربي الذي كانت مصر قاعدته وقيادته.

 هذا الاختلال في موازين القوى العالمية والإقليمية هو الذي سمح بالانتصار السريع الذي حققته ثورتا تونس ومصر إذ كانت الظروف الداخلية في كل منهما مهيّأة لهذا الانتصار السريع بسبب دخول النظامين في مرحلة شيخوخة وتناقضات في رأس الهرم (والدليل تدخل الجيش لمصلحة الشعب بعد أن فشلت القوى الأمنية أمام التظاهرات الشعبية الهائلة).

 هذان التطوّران أعادا الجميل للإختلال الذي حصل في موازين القوى فزاداه اختلالاً بدورهما. وأصبح النظام العربي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى إلى 2010، مهتزاً وواقفاً على رمال متحركة في ظل فوضى عارمة إذ سرعان ما تحركت الثورات المضادة. واشتدت التدخلات العربية والإقليمية والدولية ولا سيما بعد 3 تموز/يوليو، إثر الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في مصر.

 هذا التغيير الذي حدث في مصر في 3 تموز/يوليو 2013 أدخل الوضع العربي- التركي الإيراني في مرحلة جديدة من الإنقسام، والصراعات، غير الفوضى والصراعات اللتين عرفتهما مرحلة 2011- 2013. فكان أهم ما عبّر عنه هذا التغيير انتهاء مرحلة ما يسمّى الاحتكام الوهمي لصناديق الاقتراع، وانتهاء مرحلة صعود الإخوان المسلمين إلى واجهة الأحداث، خصوصاً في مصر وتونس والمغرب. علماً أن موازين القوى الداخلية الحقيقية في كل من مصر وتونس والمغرب، وبصورة عربية عامّة، لم تكن منسجمة مع نتائج الانتخابات. وهذا ما جعل الفترة من 2011-2013 تمرّ سريعاً، ليعود القول الفصل لموازين القوى الحقيقية داخلياً وعربياً وإقليمياً. وهو ما عبّر عنه الانقلاب العسكري في مصر. وقد هيّأت له تظاهرات شعبية واسعة. وهو ما تمّ تلافيه في تونس عبر توافق النهضة مع لجنة الحوار، فانسحبت جراءه من الحكومة. وتشكلت حكومة محايدة وأجريت انتخابات جديدة جاءت بنتائج أقرب إلى موازين القوى الحقيقية في تونس.

 المهم في المرحلة الجديدة ما بعد تموز 2013 أخذ يتكشف، أيضاً، ما حدث من اختلال كبير في موازين القوى العالمية، مثلاُ انفصال القرم عن أوكرانيا وضمّه إلى روسيا، كما التدخل الروسي الجوّي العسكري في سورية الأمر الذي يشير، مع أمثلة كثيرة، إلى تراجع السيطرة الأمريكية عالمياً وإقليمياً. ومن ثم دخول العالم مرحلة جديدة من موازين القوى.

 ولكن هذه المرحلة الجديدة أدخلت العالم في حالة اللانظام والفوضى وعدم القدرة على بناء نظام جديد. أما على المستوى الإقليمي: العربي- الإيراني- التركي. فقد اتسّعت فيه الانقسامات والصراعات المسلحة الداخلية في عدد من بلدانه، فضلاً عن التدخلات العربية والإقليمية والدولية في تلك الصراعات المسلحة. وبدا الوضع خلال السنوات الثلاث الماضية شديد التعقيد وبعيداً عن الوصول إلى نهايات سواء أكان بالحسم العسكري أم بالتوافق السياسي. ولكن هذه الصورة بدأت تُخترق في ما بدأ يتشكل من تفاهمات إيرانية- روسية وإيرانية- تركية، وتركية- روسية، وإلى حدّ ما روسية- أمريكية حول سورية. إلى هنا أُريدَ من هذه المقدمة أن تكون مدخلاً وتمهيداً للموضوع الفلسطيني. علماً أنها بحاجة، لاحقاً إلى استكمال وتفصيل.

 

في الوضع الفلسطيني  

 ثمة تقدير شائع يعتبر أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية قد تراجع خلال الست سنوات الماضية، فيما انشدّ الاهتمام إلى الصراعات الداخلية، وإلى التحديّات التي نشأت في الظروف العالمية والإقليمية الجديدة. وقد أخذ اتجاه بعض الدول العربية نحو مزيد من التعاون مع الكيان الصهيوني، وإسقاطه كعدّو/ ليعزّز القول أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية قد تراجع أو حتى انقلب إلى نقيضه مع دعوات التحالف مع الكيان الصهيوني.

 هذا التقدير للوضع الفلسطيني يركز على ما حدث من تغيير في المواقف العربية الرسمية من جهة وعلى ما فرض من انشغال في شتى الصراعات الداخلية من جهة أخرى.

 على أن الجانب الأساسي والأهم في تقدير الوضع في فلسطين يجب أن يتركز في الدرجة الأولى على تقويم وضع الكيان الصهيوني وما حدث له من تغيير في ميزان القوى. وهنا يمكن أن يلاحَظ، ويجب أن يُلاحَظ، أن الكيان الصهيوني دخل مرحلة التراجع والانحدار. وهو أضعف الآن منه في أيّة مرحلة سابقة منذ وعد بلفور، كما منذ قيام دولة الكيان الصهيوني 1948. أما علامات ذلك فهي:

 أولاً: إذا كانت أمريكا وأوروبا فقدتا سيطرتهما على النظام العالمي والنظام الإقليمي- العربي فهذا يعني فقدان العنصر الأساسي، في قوة الكيان الصهيوني، والذي كان وراء نشوئه وتشكله وما تمتع به من دعم وقوّة وحماية وتأييد، وما أُمِّنَّ له من إضعاف للفلسطينيين والعرب والمسلمين وتكبيلهم من أجل تسهيل مهمته.

 ثانياً: هُزِمَ الجيش الصهيوني في أربع حروب خلال العشر سنوات الماضية في لبنان في حرب تموز وفي قطاع غزة في حروب 2008/2009 و2012 و2014. واضطرّ إلى الانسحاب المُذِّلّ، بلا قيدٍ أو شرط، من جنوبي لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005 مع تفكيك المستوطنات منه كذلك. وقد عادَ ذلك، فضلاً عن الدور الهام للمقاومة وصمود الشعب في هذه الحروب، إلى أسباب بنيوية في ضعف الجيش وفي مقدّمها تحوّله منذ الانتفاضة الأولى 1988 إلى قوات شرطة تطارد خلايا المقاومة والانتفاضات الشعبية. مما أفقده ما تمتع به سابقاً من قدرات ميدانية وهذا الضعف ما زال قائماً ومتفاقماً.

 إن وصول جيش العدّو الصهيوني إلى حدّ لا يستطيع معه احتلال جنوبي لبنان، أو قطاع غزة، عسكرياً يعني أنه فَقَدَ الدور الذي أُعدّ له ليكون أقوى جيش في المنطقة ويستطيع أن يحتلّ بسرعة الدبابة ويتهدّد أيّة عاصمة. بل يعني أن الكيان كله يجب أن يفكر بأنه دخل في مرحلة الأفول.

 من هنا يمكن القول أن الكيان الصهيوني لم يستطع أن يفيد من السلبيات التي نشأت من الصراعات الداخلية العربية، كما كان يُفترض به أن يفيد. بل هنالك أبعاد في هذه الصراعات تجعله أشدّ قلقاً من المستقبل الآتي، بعد أن تنجلي الغيوم الراهنة إيجابياً إن شاء الله. وبالمناسبة أصبح كل همّ حكومة نتنياهو التهويد والاستيطان بلا استراتيجية على مستوى المنطقة عكس ما كان عليه الحال سابقاً.

 ثالثاً: القيادة السياسية الصهيونية في أردأ حالاتها قياساً بالقيادات السابقة. فهي من نمط متخلف وقصير نظر وقابِل لارتكاب الأخطاء والحماقات. فضلاً عما يسود بينها من تناقضات وفساد وفضائح. ويجب أن يضاف إلى كل ذلك عزلتها الدولية لا سيما في أوساط الرأي العام الغربي، وتأزم علاقاتها حتى على المستوى الرسمي الأمريكي- الأوروبي.

 رابعاً: دخل مجتمع الكيان مرحلة الترهّل وفقدان الحمية، وقد أظهر نمطاً من الفزع لم يسبق له مثيل في تاريخه حيث حكم سكان تل ابيب على أنفسهم بعدم التجوال بعد عملية الشهيد نشأت ملحم عندما قتل اثنين بسلاح بسيط (عوزي) وفرّ لمدّة أسبوع. وقد ظُنَّ أنه مختبئ في أحد الأحياء في تل أبيب. ولم تفك حالة عدم التجوال إلاّ بعد قتله حيث وجد مختبئاً في قريته. وبالمناسبة كانت تل أبيب بعد عمليات استشهادية كبيرة في الماضي ترتبك ساعة أو ساعتين ثم تعود الحياة إلى مجراها العادي.

 

اهمیة الإنتفاضة

 هذه المتغيّرات الأربعة تسمح بالقول أن من الممكن إنزال هزيمة بحكومة نتنياهو والجيش الصهيوني إذا ما طوّرت الانتفاضة الراهنة إلى انتفاضة شعبية تُغلق شوارع الضفة الغربية والقدس بعشرات ومئات الآلاف من الجماهير، وتعلنها عصياناً مدنياً سلمياً، لا ينفك إلاّ إذا دحر الاحتلال وفكت المستوطنات من القدس والضفة الغربية، وبلا قيدٍ أو شرط. تماماً كما انسحب الجيش من جنوبي لبنان وقطاع غزة. طبعاً يجب أن يصحب ذلك إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة. إن الارتفاع بالانتفاضة إلى هذا المستوى إلى جانب ما أفرزته وتفرزه   مبادرات الشباب والشابات من أشكال مقاومة، هو وحده الذي يمكن أن يحقق أوسع وحدة وطنية فلسطينية تضم كل الفصائل وكل فئات الشعب. فهنالك اتفاق عام، ويمكن أن يتشكل اتفاق عام، حول رفض الاحتلال وتفكيك المستوطنات وإطلاق الأسرى وفك حصار غزة. وبعد ذلك لكل حادث حديث. أما أي مشروع آخر مثل إقامة الدولة، أو حلّ الدولتين، أو التحرير الكامل من النهر إلى البحر فحوله اختلاف وانقسام داخليين. وكذلك بالنسبة إلى استراتيجية الكفاح المسلح طويل الأمد والمقاومة المسلحة أو استراتيجية التسوية والمفاوضات أو استراتيجية الـ "ان جي أوز" أو استراتيجية المقاطعة واللجوء إلى المنظمات الدولية ثمة اختلاف وانقسام داخليين حولها، فيما استراتيجية الانتفاضة الشاملة إلى العصيان المدني مع مختلف الأشكال العفوية في المقاومة يمكن أن يتفق عليها الجميع، خصوصاً بعد فشل استراتيجية اتفاق والمفاوضات أوسلو ودخولها في طريق مسدود. وبهذا تكون الساحة الفلسطينية قد أفرزت في المرحلة الراهنة بديلاً من استراتيجيتين متكاملتين في آن واحد: استراتيجية القاعدة العسكرية المقاومة في قطاع غزة، واستراتيجية الانتفاضة الشعبية الشاملة في الضفة الغربية والقطاع والتي يمكنها تحرير القدس والضفة الغربية وإطلاق كل الأسرى وفك حصار قطاع غزة.

 الأمر الذي سيوجد وضعاً فلسطينياً جديداً يمكنه الإعداد لاستراتيجية التحرير الكاملة. لا بأس عندئذ من أن نختلف إذ تكون القدس والضفة الغربية وقطاع غزة مناطق محرّرة بأيدينا، وتكون أعيننا إلى يافا وحيفا والناصرة من جديد.

 السؤال هل حقاً يمكن أن يُفرَض انسحاب وتفكيك مستوطنات من القدس والضفة الغربية في ظل هاتين الاستراتيجيتين وبلا قيدِ أو شرط؟

 الجواب يعتمد بالدرجة الأولى على التحليل الذي تناول وضع العدّو وضعفه ثم يعتمد بالضغط الذي يمكن أن تمارسه انتفاضة شعبية شاملة تعلن العصيان المدني بتصميم لا يعرف التراجع. الأمر الذي سيربك الجيش حين يجد نفسه في مواجهة الملايين في الشوارع لأن البطش سيؤدي إلى تحريك الشوارع العربية والإسلامية والرأي العام العالمي. ولأن إعادة الاحتلال ودخول الجيش إلى كل الأحياء والقرى والمخيمات سيُدخِله في مأزق كبير.

 ويكفي تصور جماهير القدس ومدن الضفة الغربية وقراها ومخيماتها تملأ الشوارع في مواجهة الاحتلال وتحدٍّ للاحتلال والمستوطنين لكي يمكن تصوّر المأزق الذي ستقع به حكومة نتنياهو ومأزق الحكومات العربية التي تمدّ لها يد التعاون والتطبيع ومأزق أميركا وأوروبا أمام مثل هذه المواجهة من جهة، كما يمكن تصوّر ردود الفعل الشعبية الفلسطينية والعربية والإسلامية والرأي العام العالمي من جهة ثانية.

يبدو هنا النصر، بإذن الله، محققاً.

ولكن السؤال الثاني الأهم وهو مزدوج:

أ- هل الشعب في الضفة والقدس مستعد لمثل هذا المستوى من التصعيد؟

ب- وهل فصائل المقاومة من جهة وفتح والسلطة الفلسطينية ومحمود عباس من جهة أخرى يمكن أن يتفقوا على الوحدة وتحقيق هدَفَيْ دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط، وعلى استراتيجية الانتفاضة الشعبية الشاملة والعصيان المدني السلمي؟

 أولاً: بالنسبة إلى موضوع الشعب فبين أيدينا الدلائل التالية: أولها موقف أمهات الشهداء وآبائهم وأهاليهم من استشهادهم وتعبيرهم المؤيّد لهم والمتعاطف معهم والمفتخر بهم. وثانيها: الحشود الشعبية التي سارت وراء جنائز الشهداء، ولعلّ مَثَلَها الأبرز جنازة الشهيد الشاب مهند والتي شُبِّهت بالجنازة التي سارت وراء جثمان ياسر عرفات. وهو ما يؤكده أيضاً احتجاز حكومة نتنياهو لمئات جثامين الشهداء خوفاً من الجنائز إذا سلّمتهم لذويهم. هذا ويجب أن ينوّه هنا بأهمية القرار الإيراني بالتعويض المالي لأسر الشهداء والجرحى وهدم البيوت. وثالثها: ظاهرة استمرار انتفاضة القدس من 1-10-2015 إلى اليوم. الأمر الذي يعبّر عن أزمة شعبية عامّة مع الاحتلال وإن جاءت من خلال عمليات فردية حملت سمة المبادرات العفوية. ولهذا يمكن التأكد من جهوزية الشعب لو توّفرت جهوزية قيادات الفصائل كافة. هذا وقد تظهر هذه الجهوزية في حالة ارتكاب العدو جريمة تُنْزِل الشعب إلى الشوارع أو انتهاكاً للمسجد الأقصى مستفِزاً للجماهير.

 ثانياً: لا شك في أن السؤال المتعلق بإمكان اتفاق الفصائل ابتداءً من حماس والجهاد والجبهة الشعبية والديمقراطية، ثم وصولاً إلى فتح فمحمود عباس هو الأصعب في الإجابة عنه. وقد أصبح بعد سنة من الانتفاضة الأكثر أهمية من أجل الارتفاع بالانتفاضة إلى مستوى الانتفاضة الشاملة والعصيان المدني.

 بالرغم من أن الجواب هنا يتعلق بالظروف الذاتية والقرار الذاتي للفصائل مجتمعة ومنفردة، ثم بالرغم مما بينها من تفاوت في الموقف من العدّو ومن الانتفاضة والمقاومة، إلاّ أن الجواب عنه يجب أن لا يكتفي بالاستناد إلى قراءة الظروف الذاتية والقرار الذاتي على ضوء ما هو حاصل حتى الآن. وذلك لكي يأخذ في الاعتبار ما هو آت:

 1- فشل استراتيجية التسوية والمفاوضات التي انطلقت من اتفاق أوسلو 1993 فشلاً ذريعاً أقرّ به من تولوا قيادتها وإدارتها. والأسوأ أن الحكومات الصهيونية المتعاقبة استمرت بسياسة تهويد القدس وانتهاك حقوق المسلمين بالمسجد الأقصى واستيطان الضفة الغربية. وما زالوا يصعّدون التهويد والاستيطان وانتهاك المسجد الأقصى.

 ولهذا ليس هنالك من حجّة لدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تبني تلك الاستراتيجية أو في مواصلة التنسيق الأمني لتصفية خلايا المقاومة وإجهاض الانتفاضة. فهو ضعيف جداً ويمكن أن يُضغَط عليه، أو على قيادات فتح التي ما زالت تناصره، ولا سيما من جانب الفصائل المشاركة في م.ت.ف، إذ ما زالت (م.ت.ف) تشكل غطاءً لسياسات محمود عباس وممارسات التنسيق الأمني المعيبة.

 2- إن فشل استراتيجية التسوية كما استفحال الاستيطان والتهويد وانتهاكات المسجد الأقصى، مع بروز الضعف الذي أُشير إليه أعلاه بالنسبة للجيش الصهيوني وحكومة نتنياهو، يفسّر بشكل أو بآخر، اندفاعة الشباب في خوض غمار انتفاضة القدس منذ 1/10/2015. وهو مؤشر، على كل حال، لما يجب تبنيه من استراتيجية مطوّرة إلى انتفاضة شعبية شاملة وعصيان مدني. أما عدا ذلك فالكل الفلسطيني في مأزق شديد وضياع فيما الظروف وموازين القوى تسمح بالانتقال إلى الهجوم الشعبي العام لإسقاط الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط. وبالطبع إطلاق كل الأسرى وفك حصار قطاع غزة في الآن نفسه.

 -3 إن فصائل المقاومة والحراكات الشعبية المدنية، بما في ذلك أصوات مقدّرة من فتح وم.ت.ف طالبت بتأييد الانتفاضة (بالطبع بتفاوت بين الفصيل والآخر). ولكن المطلوب أن تتحوّل الانتفاضة إلى استراتيجية النضال ليُصار إلى الانخراط الكلي فيها وتحقيق الوحدة الوطنية في ظلها. وذلك دون الحاجة إلى شرط إنهاء الانقسام بين فتح وحماس. وقد أثبتت كل المحاولات منذ العام 2007 إلى اليوم عبث هذا الشرط غير القابل للتحقيق بسبب الخلاف الجوهري الذي تشكل بين الضفة الغربية التي تطبّق سياسة التنسيق الأمني مع الاحتلال والإصرار على تبني استراتيجية التسوية والمفاوضات فيما الوضع في قطاع غزة قد تحوّل إلى قاعدة عسكرية جبّارة للمقاومة استعصت على الجيش الصهيوني في ثلاث حروب كبرى. فهي منطقة فلسطينية محرّرة بالرغم من الحصار المشترك الصهيوني من جهة والمصري من جهة أخرى.

 خلاصة، إن ما تقدّم في النقاط الثلاث أعلاه يجعل من الضروري العمل مع الفصائل للاتفاق على استراتيجية الانتفاضة الشعبية الشاملة والعصيان المدني المصمّم على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات مهما طال الزمن، والأغلب أن الكيان الصهيوني وحلفاءه ومن يتعاطفون معه لن يحتملوا مثل هذه المواجهة لأكثر من عام على أبعد تقدير.

 صحيح ثمة حجّة هنا يقدّمها البعض تشكك في التحليل المتعلق بضعف الكيان الصهيوني أو في إمكان فرض الانسحاب عليه وتفكيك المستوطنات. ولكن مع ذلك متى كان ضعف الكيان أو إمكان إنزال هزيمة به شرطاً مسبقاً لخوض المقاومة أو للانخراط في الانتفاضتين الأولى والثانية؟

 وهنالك حجّة أخرى تشكك في قدرة الشعب إذا ما نزل بقضّه وقضيضه في مواجهة العدّو. وهي حجّة لم تَعتبر بعشرات التجارب بما فيها تجربة إسقاط الشاه ودحر جيشه في إيران كما تجربة مصر وتونس مؤخراً وإن لم تصلا إلى دحر الجيش إذ انضم الجيش لهما ولكنهما هزمتا القوات الأمنية التي كانت «جيشاً» أقوى من الجيش نفسه.

 ثم هنالك من يعتبر أن المقاومة المسلحة هي وحدها القادرة على المواجهة. ولكن هذا الرأي لم يلحظ أن ثمة مقاومة مسلحة على أعلى مستوى في قطاع غزة من جهة. ولم يلحظ من جهة ثانية فشل المئات من عمليات المقاومة، منذ 2007 حتى اليوم، وهي في المهد قبل أن تنطلق في الضفة الغربية والقدس. وذلك بسبب التنسيق الأمني المتغلغل من خلال فتح وبعض الفصائل في كل العائلات والمكوّنات الشعبية، فضلاً عن الاشكالات التي ولّدها استخدام الهاتف الذكي. ولهذا ولّدت الحياة والحاجة والخبرة أشكال المقاومة الفردية العفوية باستخدام الدهس والسكاكين والعمليات العسكرية ذات الطابع الفردي-العفوي، كما ولّدت الانتفاضة المعبّر عنها شعبياً وراء جثامين الشهداء أو تأييداً واسع النطاق لهم. هذا ولم تمنع استراتيجية المقاومة من المشاركة الفعالة في الانتفاضتين الأولى والثانية. وأخيراً وليس آخراً ثمة رأي يحتج بالأوضاع العربية الراهنة وبحرمان الانتفاضة من دولة عربية حاضنة أو أكثر لاحتضانها ودعمها.

 أولاً: إن موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية اختلفت في هذه المرحلة اختلافاً نوعياً عما كانت عليه مثيلاتها في المراحل السابقة حيث كان توفّر الحاضنة العربية والدعم العربي من خلال التضامن العربي ضرورياً للصمود الفلسطيني وإحباط مخططات سحقه وتصفية مقاومته. ولكن الموقف العربي الرسمي كان عاملاً سلبياً وهو في حالة القوّة من جهة الضغط على المقاومة والتأثير في سياساتها قبل العام 1947/1948، وفي أثنائه وبعده، وبصورة عامة. وحمل كثيراً من السلبيات وهو قويّ. ولهذا فالضعف الرسمي العربي يسمح للشعب الفلسطيني أن يدخل معركة ناجحة مع ما أُشيرَ له من موازين قوى في غير مصلحة العدّو.

 أما الآن فالتحليل الدقيق لموازين القوى وللأوضاع العربية العامة تسمح للفلسطينيين بالانتقال إلى الهجوم بسبب ضعف العدّو، وبسبب تراجع السيطرة الأمريكية- الأوروبية، كما أُشيرَ إليه أعلاه. مما سيجعل الدول العربية التي تقف ضدّ الانتفاضة الشعبية أكثر هشاشة لا سيما إذا ما جذبت الانتفاضة الشعبية الشاملة تعاطفاً شعبياً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً لدعمها والوقوف إلى جانبها. الأمر الذي يفترض بأن يحسب هذا الجذب حاضنا قوياً مؤثراً ومعوّضاً في مصلحة استراتيجية الانتفاضة.

 وبكلمة، إن موازين القوى العالمية والإسلامية والعربية والفلسطينية كما الوضع الصهيوني- الأمريكي- الأوروبي، كما الأوضاع الراهنة جملةً يجعل من الممكن للشعب الفلسطيني إذا ما اتحدّ وبادر في ظل الانتفاضة الشعبية الشاملة والعصيان المدني بأن يحقق الهدفين القابلين للتحقيق وهما دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط.  فتحرّر القدس والضفة الغربية.

 وبالمناسبة هذان الهدفان سلّم العالم كلّه بعدالتهما وبوجوب تحقيقهما إذ ما من دولة أو أحد، يستطيع ألاّ يقول أن الإحتلال غير شرعي، وتجب إزالته وأن الاستيطان غير شرعي ويجب تفكيكه. وهما هدفان غير قابليْن للتفاوض وما ينبغي التفاوض حولهما. وهذا غير حال المطالبة بإقامة دولة فلسطينية أو حلّ الدولتين التصفوي لأنهما يحالان للتفاوض رأساً لتدخل قضايا الحدود والأمن والحلّ النهائي للقضية الفلسطينية.

 فهذان الهدفان من هذه الناحية قويّان جداً ولا يجوز رفضهما ويمكن فرضهما بإذن الله. ومن بعدهما لكل حادثٍ حديث.


قراءة: 934