فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

كلمة رئيس التحرير

 

كلمة رئيس التحرير

لا جدال في أنّ إخفاق مشروع القرار الأمريكي في الحصول على تأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة يعدّ حدثاً مريراً و هزيمة كبرى للولايات المتحدة، و في الوقت نفسه يكشف عن مدى العجز و الضعف الذي تعانيه إدارة ترامب المتطرفة. لقد أظهر فشل مساعي المندوبة الدائمة للولايات المتحدة في المنظمة الدولية في كسب تأييد الدول الأعضاء لإدانة مقاومة الشعب الفلسطيني و زيادة الضغط عليه و اتهام حركة حماس بالإرهاب أظهر بجلاء أنّ و ضع الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن لا يسمح بتحقيق أهدافها في مجال السياسة الخارجية حتى بالطرق القانونية و مافوق‌القانونية. و من أجل اجتياز المنعرجات الصعبة أمام المصادقة على مسودة مشروع القرار المذكور قسّمت المندوبة الأمريكية نيكي هيلي المجتمع الدولي إلى شطرين، شطر مدافع عن الإرهاب، و آخر معارض له، و بالتالي فالذين لن يصوّتوا لصالح تمرير مشروع القرار هم «حماة الإرهاب». بل إنّها ذهبت إلى أبعد من ذلك عندماهدّدت و توعدت الذين يمتنعون عن التصويت لصالح القرار بأنّ عليهم مواجهة ما سوف يترتّب على موقفهم هذا من عواقب و خيمة. و على أيّ حال، لم تفلح تهديدات البيت الأبيض في تحقيق شيء يذكر، و بذلك أضيف فشل آخر إلى سلسلة إخفاقات هذه الإدارة. و حول هذه الهزيمة المدوية التي و صفت بأنّها «صفعة لإدارة ترامب» و «نصر للقضية الفلسطينية» نجد من المناسب أن نسجّل فيما يلي عدّة ملاحظات: 
1- لقد عبّر ترامب قبل هذا أيضاً عن دعمه و مساندته للكيان الصهيوني من خلال تبنّيه لثلاث مقاربات مهمة تصبّ في إطار زيادة المعامل الأمني لـ‌تل‌أبيب. هذه المقاربات هي:
- الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي مع إيران) و توظيف القدرات السياسية و الاستراتيجية للولايات المتحدة لمواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية سعياً لكسب ودّ تل‌أبيب.
- الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني.
- الدفاع عن هذا الكيان في المحافل الدولية و على جميع الأصعدة.
 2-  لم تكن هذه أول هزيمة لإدارة ترامب في حقل السياسة الخارجية و لن‌تكون الأخيرة. فقد قُدّر لهذه الإدارة أن توضع على سكّة الهزائم المتلاحقة. هزيمتها في سورية، هزيمتها في مواجهة إيران فيما يتعلّق بالملف النووي و تطبيق عقوبات شاملة عليها، هزيمتها في تحصين أمن الكيان الصهيوني في مواجهة صواريخ المقاومة (فشل منظومة القبة الحديدية)، هزيمتها في توظيف الجماعات التكفيرية لتحقيق أهدافها في المنطقة، هزيمتها في حل الخلافات المتفاقمة بين حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة (قطر و العربية السعودية)، هزيمتها في العراق و أفغانستان ... إلخ. و من خلال الإعراب عن قلقه من هذه الهزائم يعود ترامب بذاكرته إلى مرحلة المراهقة (عندما كان طالباً في المدرسة) ليستذكر كيف كانت الولايات المتحدة في موقف المنتصر في جميع التحولات في مجال السياسة الخارجية آنذاك، لكنّها اليوم صارت تكابد الهزائم و الإخفاقات القاسية.
3-  مع مجيء إدارة ترامب ازداد الضعف البنيوي في تركيبة السلطة في الولايات المتحدة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، ليفتح ذلك الباب أمام سيل من الانتقادات ضدّ سياسات البيت الأبيض، حيث تعتقد الشريحة السياسية الأمريكية المنتقدة أنّ التيار المتطرّف الناشط في السياسة الخارجية الأمريكية يصارع العديد من الأزمات و التهديدات و لم‌يعد قادراً على تجاوزها. القضية الفلسطينية هي إحدى القضايا التي تواجه الدبلوماسية الأمريكية، و من دون حلّ هذه القضية لن يكون بمقدور البيت الأبيض ترتيب  أوضاع بقية التحولات في الشرق الأوسط. فالإدارة الحالية لم تستطع، على غرار الإدارات السابقة، إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
4- لا تتطابق رؤية الإدارات الأمريكية إزاء القضية الفلسطينية مع تصوّرات المجتمع الدولي الذي تصدّى لسياسات البيت الأبيض من خلال إدانته للاحتلال و سياسات العنف التي يتّبعها الكيان الصهيوني في بناء المستوطنات و قمع الشعب الفلسطيني.
فبالضد من توجهات و مساعي الإدارة الأمريكية، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر̸ تشرين الثاني الجاري (2018 م) قراراً شدّدت فيه على ضرورة انسحاب الكيان الصهيوني من مرتفعات الجولان المحتلة في عدوان عام 1967 م.
5-  يدرك المجتمع العالمي و زعماء البيت الأبيض تماماً حقيقة أنّ الشعب الفلسطيني و المقاومة الفلسطينية يرزحان تحت القمع و الظلم، و لكن مع ذلك لم يتخلّ هذا الشعب يوماً عن إصراره على مقاومة اضطهاد المحتلين الصهاينة و تجاوزاتهم. و بدورها تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى تزييف الحقائق من أجل ترسيخ دعائم الأمن للكيان الصهيوني. وذلك بتصوير الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال الصهيوني كإرهابيين، و المعتدين الأشرار كضحايا. و في هذا السياق، أعرب صائب عريقات رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض و عضو منظمة التحرير الفلسطينية عن إدانته لقيام المندوبة الأمريكية نيكي هيلي بطرح مسودة القرار المعادية لفلسطين على التصويت في المنظمة الدولية حيث صرّح بالقول: تأتي هذه الخطوة في إطار عملية قلب الحقائق و تزييفها، فلا ننسى أنّ الكيان الصهيوني هو الطرف الذي يقوم ببناء المستوطنات و يرتكب جرائم الحرب و يمارس سياسة العقاب الجماعي ضدّ الفلسطينيين، و بالتالي فهو الذي يستحق أشدّ الإدانات. في الحقيقة، لقد ساعدت هذه الخطوة الأمريكية الخبيثة على إعادة اللحمة الفلسطينية، و زادت من مستوى التأييد لحركة حماس و نهجها المقاوم. و حتى النخب الفلسطينية المنتمية إلى التيارات الأخرى أعربت عن إيمانها بأنّ استهداف حماس هو استهداف لكل فلسطين. و قبيل التصويت على مشروع القرار الأمريكي الداعي إلى إدانة حركة حماس طالب عريقات دول العالم بالتصويت ضدّه.
6-  إنّ النهج الذي تسلكه الولايات المتحدة إزاء الكيان الصهيوني يشير إلى حقيقة واضحة مفادها أنّ الهواجس الأمنية بشأن هذا الكيان بدأت تأخذ منحىً تصاعدياً، و يبدو أنّ هذه الهواجس هي التي دفعت نيكي هيلي إلى تفعيل مشروع القرار المذكور على عجل على الجمعية العامة للأمم المتحدة و ذلك قبل أيام من انتهاء ولايتها كمندوبة لبلادها في الأمم المتحدة للتعويض عن سلسلة هزائم الكيان الصهيوني في مقابل الفلسطينيين، و آخر حلقة فيها كانت إطلاق المقاومة الفلسطينية لرشقات الصواريخ ردّاً على اعتداءات تل أبيب، و اختراق عدد كبير من صواريخ حماس هذه لمنظومة القبة الحديدية و إصابتها لأهداف في الأراضي المحتلة.
7-  في الحقيقة، إنّ الموقف الأمريكي الأحادي المتمثل في الدفاع المستميت و اللامنطقي عن الكيان الصهيوني يقلّل من حظوظ الولايات المتحدة في رعاية أيّ مبادرة للسلام في الصراع الصهيوني الفلسطيني. إنّ البيت الأبيض بتاريخه الطويل في اتّخاذ المواقف المعادية للقضية الفلسطينية غير مؤهّل للقيام بدور الوسيط النزيه و المحايد أو صانع السلام. ناهيك عن أنّ المبادرة الأمريكية التي أعلنها ترامب و المعروفة باسم صفقة القرن لا تتضمن مبادئ مقبولة. و في هذا الإطار، علّق المفكر الأمريكي نعوم تشاومسكي على هذا الموضوع قائلاً: "لم يعلن المسؤولون الأمريكيون عن امتلاكهم أيّ استراتيجية في هذا الصدد، و حتى لوكانت هناك استراتيجية، و هي غير موجودة، فقد تكون بحسب التقارير على قدر كبير من الغرابة و السخرية. إنّ الهدف الاستراتيجي للإدارة الأمريكية هو تعزيز التحالف الموسّع بين إسرائيل و الدول العربية لمواجهة العدو المشترك، أعني إيران، التي تشكّل تهديداً للهيمنة الأمريكية في المنطقة، و تحدّ من تمادي إسرائيل في ممارسة سياسة العنف".
8- لقد اعتبرت فصائل المقاومة الفلسطينية التأييد الواسع الذي عبّرت عنه الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال التصويت على مشروع القرار المقترح من قبل البيت الأبيض بمثابة دليل على مشروعيتها، فهذه الدول قد برهنت على ثبات موقفها المتمثل في دعم المناضلين الفلسطينيين و عدم اكتراثها لتهديدات واشنطن.
9- وفي هذا السياق، وضعت مراكز الدراسات و الأبحاث في الولايات المتحدة ضمن أولويات برنامج عملها استراتيجية لتجاوز التهديدات التي تواجه هذا البلد على صعيد السياسة الخارجية أطلقت عليها «استراتيجية الانتصار»، و تتضمن هذه الاستراتيجية توظيف القدرات الفكرية للنخب السياسية لإيجاد الية كفيلة بوضع حدّ للهزائم المتلاحقة للبيت الأبيض. و على الرغم من أنّ مساعي الساسة و الباحثين الأمريكيين تتركّز في معظمها على عزو أسباب هذه الهزائم إلى العوامل الخارجية، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ عوامل الهزيمة و الفشل تكمن في صلب سياسات و سلوكيات الإدارة الأمريكية لكنّهم غافلون عنها بسبب سيادة روح الغطرسة و التعإلى و عقدة تضخم الذات.
10- إنّ طرح مشروع القرار المذكور و تصنيف المؤيّدين و المعارضين له إلى حماة و محاربين للإرهاب يعكس حقيقة أنّ زعماء البيت الأبيض، لا سيّما الرئيس و الفريق العامل في مجال السياسة الخارجية أفراد طاعنون في السنّ، بما يعني أنّهم يتعاطون مع التحولات العالمية و يوجّهونها من منطلق عوامل النوستالجيا و ذكريات مرحلة الشباب، ناسين أو متناسين أنّ معايير شعوب العالم في التعاون أو التصادم مع القوى العالمية قد تغيّرت. ففي ظلّ الأوضاع الراهنة لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض رغباتها و إملاءاتها على النظام العالمي. و هي عاجزة عن سرد الحوادث بحسب ميولها، و أوضح دليل على هذا الكلام  مقاربة وزارة الخارجية الأمريكية لحادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي المروعة على يد عناصر جهاز الأمن السعودي في قنصلية هذا البلد بإسطنبول. فعلى الرغم من المساعي الحثيثة لترامب و وزير خارجيته بومبيو لتفسير أو قل إن شئت تبرير سلوك ابن سلمان ولي العهد السعودي أمام الرأي العام العالمي، إلّا أنّهما ليس فقط لم‌ينجحا في مساعيهما تلك و إنّما أصبحا موضع سخرية و تندّر العالم. و في ذلك خير دليل على أنّه لم‌يعد بالإمكان بعد الآن إدارة التحولات المرتبطة بالأمم و البلدان بهذه الاليات البالية و المفضوحة.
وأخيراً، توضّح تصريحات المسؤولين الأمريكان و سياساتهم و ردود أفعالهم في مجال السياسة الخارجية أنّ مقاربتهم لا تصبّ باتجاه حل المعضلات و التهديدات العالمية، و أنّهم باتّخاذهم هذه الاستراتيجية المدمرة غير الواقعية بل و الظالمة إنّما يسعون إلى تحقيق مصالحهم السياسية و مصالح حلفائهم المتهالكين العاجزين و حسب، و لا يكترثون لحقوق الشعوب البتة.


قراءة: 753