فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

حلقة حوارية تخصصية؛ «صفقة القرن و مستقبل فلسطين»

الدكتور مهدي هنرمند زاده
مسؤول شؤون غرب آسيا

تلميح
منذ اغتصاب الكيان الصهيوني لأرض فلسطين و تأسيس دولة إسرائيل، طُرحت مشاريع عديدة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، أو الفلسطيني - الصهيوني، و خاصة من قبل رؤساء الولايات المتحدة. في مراحل مختلفة اعتقد هؤلاء الرؤساء أنّ إحدى مهامهم الرئيسية إيجاد حل للصراع القائم بين العرب و إسرائيل، و في الحقيقة، إنّ الدفع بمفاوضات السلام في الشرق الأوسط يشكّل جزءاً من التزام الولايات المتحدة في إطار علاقاتها الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني، و لذا فإنّ السياسة المتشدّدة التي يتبعها الكيان الصهيوني في هذه المفاوضات لا تعني معارضة جهود الولايات المتحدة بقدر ما تمثّل تكتيكاً مدروساً للاحتفاظ باليد الطولى في المفاوضات ضمن صيغ مختلفة و مشاريع متنوعة. إنّ الهدف المشترك المعلن لجميع هذه المشاريع المطروحة من قبل رؤساء الولايات المتحدة هو إنهاء الصراع في إطار إرساء أسس دولة إسرائيل و بسط سيادتها على جزء كبير من أرض فلسطين التاريخية مع إعطاء بعض الامتيازات للطرف الفلسطيني من قبيل تشكيل دولة فلسطينية لا تتوفر على المقومات الرئيسية للسيادة من أجل إقناع الفلسطينيين بقبول مشاريع الصلح. إنّ حلّ الدولتين الذي أنتجته المفاوضات عقيب التوقيع على اتفاقيات أوسلو لم يكن بصدد خلق ظروف متساوية أو ضمان الحدود الدنيا من أجل نيل الفلسطينيين لحقوقهم. لقد تناولت المفاوضات المذكورة قضايا جوهرية مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين و مصير القدس دون أيّ أفق واضح للفلسطينيين. لقد تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية عن شعارها في استعادة كامل الأرض التاريخية لفلسطين في عام 1988 م بعد قبولها بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة و مجلس الأمن الدولي المرقمة 181 ، 242 ، 338. فكانت مشاركة الفلسطينيين في مفاوضات مؤتمر السلام في مدريد و لاحقاً في المفاوضات السرية في أوسلو التي أفضت إلى التوقيع على اتفاقيات أوسلو، بمثابة القبول بالحد الأدنى أو أقل مستوى للحقوق الوطنية الفلسطينية في مقابل التنازل عن نصف الحدود التاريخية لفلسطين. هذا، في حين أنّ الكيان الصهيوني كان ينظر إلى مفاوضات السلام على أنّها مجرّد سياسة تكتيكية للتقليل من حجم الضغوط الدولية المسلطة عليه. و الحقيقة، إنّ حلّ الدولتين، عدا عن كونه يتعارض مع استراتيجية التوسّع و الاحتلال التي ينتهجها الصهاينة، فإنّ حظوظه في النجاح كانت ضئيلة نظراً للظروف الحاكمة في أرض فلسطين التاريخية إن لجهة الجغرافيا أو فقدان العمق الاستراتيجي، أو لجهة التهديد الذي تشكّله التركيبة الديموغرافية للعرب على إسرائيل، الأمر الذي يفسّر فشل الجهود المبذولة في هذا المجال حتى اليوم. و انطلاقاً من هذا التحليل كان الصهاينة، لاسيّما اليمينيون الإسرائيليون، يتبنّون دائماً رؤية أعلوية إزاء أرض فلسطين، رافضين على الدوام فكرة تقسيم القدس أو عودة اللاجئين الفلسطينيين باعتبارهما قضيتين جوهريتين، و كانوا يعتقدون بالوطن البديل للفلسطينيين كأفضل حل للصراع.
ومع وصول مفاوضات الصلح إلى طريق مسدود، و توقفها تماماً تقريباً في أواخر عهد أوباما، فشلت آخر المحاولات لإنعاش عملية الصلح القائمة على حل الدولتين. و هنا تلحّ نقطة مهمة و هي إنّ الإدارة الأمريكية قد استنتجت حتى قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض بأنّ المعادلة الحالية لحل الصراع القائمة على فكرة حل الدولتين و تقسيم الأراضي بين الطرفين لن تسفر عن أيّ نتيجة، لأنّها وصلت إلى طريق مسدود، ناهيك عن إنّ الطرف الإسرائيلي غير مستعد لأيّ انسحاب. و كان من تداعيات هذه القضية حدوث توتر في العلاقة بين أوباما و نتنياهو سببه موضوع بناء المستوطنات، من هنا، فإنّ خطة مبادلة جزء من أراضي الضفة الغربية ببعض أراضي سيناء بمصر و تأسيس كونفدرالية أردنية - فلسطينية طُرحت لأول مرة في أواخر فترة ولاية أوباما. و بعد فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية قدّمت الإدارة الأمريكية الجديدة نسخة متطرّفة و منحازة لخطة صفقة القرن. و على الرغم من موجة المعارضة التي برزت للخطة من قبل دول المنطقة و الأطراف الدولية و التيارات الفلسطينية، (بما في ذلك السلطة الفلسطينية)، عقد الأمريكان آمالاً كبرى على العربية السعودية لتطبيق تلك الخطة. و كيف كان، فالخطة بحاجة إلى دور عربي كما أنّ تطبيقها يحتاج إلى تأمين مصادر مالية كبيرة من قبل العربية السعودية؛ بالإضافة إلى ذلك و طبقاً للمعلومات المتوفرة، فإنّ مشروع صفقة القرن لا يقتصر على القضية الفلسطينية فحسب، و إنّما يشمل أبعاداً إقليمية أكبر في منطقة غرب آسيا و شمال أفريقيا.
خصّصت مجلة "طهران" لدراسات السياسة الخارجية، ندوتها التخصصية العاشرة لمناقشة موضوع «صفقة القرن و مستقبل فلسطين» و القضايا المحيطة بالموضوع على الصعيدين الدولي و الإقليمي بمشاركة عدد من الأساتذة و أصحاب الرأي و دراسة الموضوع دراسة علمية. و من الأسماء المشاركة نذكر:
1-السيد الدكتور حسين أمير عبداللهيان، الأمين العام للمؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية.
2- السيد الدكتور فتح علي، السفير السابق للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان.
3- السيد الدكتور ثابت، مسؤول ورش العمل الدراسية في مركز الأبحاث الدفاعية

فصلية طهران: في البداية نرحّب بالضيوف الكرام و نقدّم شكرنا و تقديرنا إلى الأساتذة المختصين في شؤون منطقة غرب آسيا و فلسطين، و هم كل من سعادة الدكتور حسين أمير عبد اللهيان الأمين العام للمؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية، و سعادة الدكتور فتح علي السفير السابق للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى لبنان، و سعادة الدكتور ثابت مسؤول ورش العمل الدراسية التابعة لمركز الأبحاث الدفاعية. و تم تخصيص الندوة الحوارية العاشرة التي تعقدها فصلية طهران لموضوع «صفقة القرن و مستقبل فلسطين»، أما أهم محاور هذه الندوة فهي: «التحولات الاستراتيجية الفلسطينية في ضوء الخطة الجديدة للإدارة الأمريكية»، «تقييم مقاربة الإدارة الأمريكية حول قضية فلسطين و مسيرة السلام في الشرق الأوسط»، «علاقة بلدان منطقة غرب آسيا و التيارات الفلسطينية بالخطة الأمريكية الجديدة»، «علاقة مشروع صفقة القرن بالسياسة الأمريكية العامة في المنطقة و خاصة القضايا المتعلقة بالمواجهة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية و محور المقاومة».
بعد هذه التوطئة أرجو من الأستاذ الدكتور ثابت أن يمهّد للبحث بأسئلته و استفساراته.
دكتور ثابت: بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين إنّه خير ناصر و معين. في تحليلنا لتطورات الملف الفلسطيني و اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، نفترض مسبقاً و لاشعورياً أنّ جميع الفاعلين يتصرّفون بصورة طبيعية، عدا فاعل واحد جاء للوجود نتيجة طفرة وراثية، نعم إنّه الكيان الصهيوني. و لو أنّنا رجعنا إلى التعاليم الدينية و الفلسفية و الكلامية و النصوص الصهيونية لوجدنا من زاوية معرفية أنّ طبيعة الفكر لهذا الكيان هي طبيعة تحوّلية وراثية، و دوره أيضاً دور تحوّلي وراثي. من هذا المنطلق فإنّ هذا الكيان من حيث المبدأ لا يضع مسألة بقائه و استقراره و أمنه ضمن أيّ معادلة أو صفقة، و إنّما هو الذي يصنع المعادلات و الصفقات، و من المهارات العملانية التي يتميز بها هذا الفاعل أنّه يقوم ببناء جو تحوّلي يختار في كنفه القالب الخاص به، و كذلك يشيّد بناه المعرفية و البنيوية الخاصة. أي بعبارة أوضح، ما يزال الفاعل الصهيوني و على مدى سبعة عقود بل و قبل ذلك أيضاً يعيش في معازل أو غيتوهات (Ghetto) عبر شبكة عالمية قوية، و حتى بعد تأسيس دولته، لم‌يتخلّ هذا الفاعل عن رغبته في العيش في عالم الغيتوهات و الانعزال ضمن حدوده الخاصة.
إنّنا في الشرق الأوسط نواجه في كل مرحلة حشداً من العناوين و المصطلحات الاستراتيجية، ففي كل مرة و على مدى أربعة عقود و قبلها و بحسب الاقتضاءات الزمانية و المكانية، نشهد دخول عدد من الكلمات المفتاحية الرئيسية في الأدبيات السياسية الإقليمية و الدولية، فتنشغل أذهان الكثيرين بها. في هذا السياق، لا يمكن الفصل بين العلاقات الاستراتيجية المعرفية الملغزة التي تربط الولايات المتحدة بالكيان الصهيوني. إذ إنّ إحدى الاستراتيجيات الرئيسية لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، إيلاء اهتمام خاص بالكيان الصهيوني، فيما يتعلّق ببقائه و استقراره و توسّعه الوجودي في جوانب مختلفة. خلال تحولات العقود التي أعقبت تأسيسه لم يقتصر مفهوم وجود هذا الكيان اللقيط في نطاق جغرافي محدّد، بل لاحظنا هناك توسّع وجودي مطّرد لهذا الكيان من خلال تحالفه مع الولايات المتحدة، أي خارج المنطقة و على الصعيد الدولي و الحكومات و الساحة العالمية برمتها. بمعنى، إنّ الكيان الصهيوني بما يتوفر عليه من قدرات و بنى تحتية، سعى حثيثاً إلى تعميق توسّعه الوجودي، و عدم التقيّد بالجغرافية المتمثّلة بفلسطين المحتلة فقط. أضف إلى ذلك ثمة حدث جديد وقع بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض سواء في داخل الإدارة الأمريكية أو على صعيد النظام المعرفي - السياسي في الولايات المتحدة. يبدو أنّ تحوّلاً معرفياً حدث في الإدارة الأمريكية، بصرف النظر عن القواعد الفلسفية و الفكرية و الرأسمالية لهذا التحوّل، فهذا موضوع آخر لا يسعنا مناقشته في هذا المقام. و لكن يخيّل إلينا أنّ هذا الانتخاب نابع من حصول تحوّل معرفي و فكري، و لا يقتصر الأمر على بعد ربحي تجاري و حسب. نعم، هذا ما يتبادر لأذهاننا، لا سيّما إذا عرفنا أنّ ترامب نفسه يتبع تعاليم كنيسة تربطها بالكيان الصهيوني وشائج ذات مغزى في إطار العلاقات الدينية، بالإضافة إلى مجموعات الضغط (اللوبي) التي كانت تدعمه، و ذلك الثري المشهور الذي عُدّ عرّاب الحملة الانتخابية لترامب.
السؤال المطروح الآن هو، نظراً لاستلام ترامب مقود الإدارة الأمريكية، هل يمكن القول بأنّ صفقة القرن تمخّضت عن هذه الهندسة الفكرية، أم إنّها وليدة تحولات المنطقة؟ أعني، هل تقوم هذه الصفقة على نظام معرفي قائم بذاته و ذو تخطيط هندسي محدّد أم لا؟ في الحقيقة، نحن الإيرانيون نتبنّى نموذجاً تحليلياً مفاده أنّ خصمنا يحمل في جعبته دائماً ألف صفحة من المشاريع الاستراتيجية، و هو الآن يعمل على الصفحة الخمسين، و أنّه يدفع بكل شيء إلى الأمام وفق تخطيط متقن و مدروس. ثمّة سؤال يدور في ذهني أردت أن أطرحه على السيد أمير عبد اللهيان و السيد فتح علي و هو: هل هذه الاتفاقية أو الخطة أو الفكرة التي يطرحها ترامب منبثقة عن تحول فكري حصل في البنية المعرفية للإدارة الأمريكية؟ أعني، هل إنّها فكرة استباقية للحدث أم استعادية للحدث؟ و هنا، لا بدّ من توضيح هذه النقطة و هي، إنّنا نقيّم تحولات الأزمة السورية و أحداث المنطقة على أنّها لصالح المقاومة، أي المصادرة بالمطلوب، و هو تقييم صحيح، و نعزو جزء من هذا التحوّل الاستراتيجي إلى التخطيط الهندسي المنوّه عنه للتو. فهل هذا التخطيط ناتج عن شعورهم بأنّ تحولات المنطقة و إفرازات الأزمة السورية تشكّل خطراً استراتيجياً يهدّد مصالحهم، فجاءت خطتهم كردّة فعل على ذلك؟ أم كل ما في الأمر أنّهم توصّلوا إلى قرارات حاسمة بشأن المنطقة برمتها؟
دكتور فتح‌علي: بسم الله الرحمن الرحيم. أعتقد أنّ علينا أن نفتّش عن منهجية مغايرة للنقاش. سؤالكم واضح و محدّد و هو، هل دخل ترامب مسرح الأحداث عن سابق تصميم إصرار حاملاً فكراً محدداً، أم إنّ التحولات الاستراتيجية في المنطقة هي التي أملت عليه أن يطرح هذه الخطة؟ هل كانت عملية استباقية؟ أم إنّها خطة قائمة فعلاً على فكرة معينة و محدّدة، و ربما لا تكون مانعة الجمع؟ و لكن اسمحوا لي أولاً أن أعلّق على ثلاث أو أربع قضايا طرحتموها، على سبيل المثال، مسألة الوجود التحوّلي الوراثي! في حقيقة الأمر، لقد اتّخذ الصهاينة لأنفسهم هذا الإطار، لكنّهم ميدانياً لم يستطيعوا التصرّف، و فشلوا في صنع المعادلات. النقطة الأخرى المهمة جداً بالنسبة لي هي أنّكم تعتقدون حصول تحول معرفي في الولايات المتحدة.
دكتور ثابت: قلت ربما حصل تحوّل معرفي! ألا يوجد احتمال بحصول مثل هذا التحوّل؟
دكتور فتح علي: إذن، اتّضح بأنّ الصهاينة فشلوا فعلاً في صنع المعادلات. النقطة التالية هي أنّهم في الحقيقة لم يكن لهم توسّع وجودي و إن كانوا يتوقّعون ذلك.
نعود إلى سؤالكم الأصلي و نجيب استناداً إلى المعطيات، لا إلى التحليلات، فالمعلومات الميدانية تشير إلى أنّ تحوّلات المنطقة هي التي أدّت إلى طرح موضوع صفقة القرن. قد يقال بأنّ الترتيبات الأمنية في المنطقة أصابها ضرر كبير ما يلزم استحداث ترتيبات أمنية جديدة، بمعنى أنّ جميع التحوّلات التي شهدتها منطقتي غرب آسيا و شمال أفريقيا بعد العام 2011 م تصبّ في صالح محور المقاومة، لا سيما بعد انهيار البنية الأساسية لداعش في العراق و سورية. و هنا نتساءل إن كانت صفقة القرن عبارة عن خطة أو اتفاقية تفاوض حولها اللاعبون و توصّلوا إلى صيغة مكتوبة بشأنها، أم إنّها تعبّر عن أماني و طموحات الكيان الصهيوني، بالنسبة لي، أرجّح القضية الثالثة، أعني، إنّها خطة الكيان الصهيوني منذ البداية، و الملاحظ أنّه لا يوجد تقرير موثّق يتحدّث عن تفاصيل صفقة القرن و يحدّد مبدأها و منتهاها!! لا، لا يوجد، فكل من أعلن عن شيء إنّما عبّر عن حدوسه و ظنونه استناداً إلى تصريحات بعض المسؤولين الأمريكان أو المسؤولين في منطقتنا. أمّا ما هي صفقة القرن بالضبط؟ ففي ظنّي أنّها كانت خطة الكيان الصهيوني منذ البداية، لكنّ مسؤولي هذا الكيان أدركوا بعد حروب الـ 33 و 22 و 51 يوماً عدم قدرتهم على مواصلة نهجهم التوسّعي، و عليهم بعد الآن أن ينتهجوا نهجاً دفاعياً. إنّ الكيان الصهيوني لم يجرأ طيلة الاثنتي عشرة سنة التي أعقبت حرب الـ 33 يوماً على تنفيذ أيّ اعتداء ضدّ لبنان، لماذا برأيكم؟ إنّها من إفرازات حرب الـ 33 يوماً.
دكتور ثابت: لاحظوا معي بأنّ المقصود بالتوسّع الوجودي لا يقتصر على التوسّع الفيزيائي و حسب، للتوسّع الوجودي آثار، إنّه يعني أن يكون قادراً على التأثير في المقاطع المفصلية الحسّاسة، أن يكون مؤثّراً في اتّخاذ القرارات، مؤثّراً في البنية التحتية، لذا، لا يلزم بالضرورة أن يكون التوسّع الوجودي فيزيائياً. إنّ توقّف الاعتداءات طيلة السنوات الإثنتي عشرة الماضية جاء إثر توازن القوى وهنا قد يرى البعض هذا التوازن لصالح المقاومة، و ربما يقول البعض الآخر إنّه أتاح تعزيز قدرات المقاومة.
دكتور فتح علي: نعم، بالنسبة لموضوع نظرية الردع (نقل التهديد، إضفاء الاعتبار، و إرسال الرسائل) يمكن أن نناقشه بصورة مستقلة لو أردتم ذلك، لكن ما نودّ طرحه هنا هو ما إذا كانت صفقة القرن ثمرة تخطيط أو فكر سياسي أم هي انعكاس للتحوّلات الاستراتيجية في المنطقة؟ برأينا إنّها نتيجة للتحولات الاستراتيجية التي دفعت الكيان الصهيوني إلى حالة تلزمه بمراعاة نطاق حدودي محدّد و واضح. و طبعاً إنّه عبارة عن ردّ فعل و تصرّف انفعالي. لقد أقدم هؤلاء على زجّ سورية (حيث تختلف طبيعة تحوّلاتها بصورة بنيوية عن طبيعة التحولات في سائر بلدان منطقة غرب آسيا ) في صراع عسكري - أمني سعياً لتحقيق هدفين اثنين: الأول، استنزاف محور المقاومة، و الثاني تسديد طعنة في ظهر المقاومة. لا ننسى أنّ في أحد الأيام عُقد مؤتمر لأصدقاء سورية في جنيف بمشاركة 140 دولة، و راحوا يناقشون خطط إسقاط النظام في سورية! لكنّنا نرى اليوم ما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد. طبعاً، ربما يقول البعض إنّ الكيان الصهيوني هو الذي خلق هذه الأزمة في سورية لكي يستنزف الجيشين السوري و العراقي! و لكن في المقابل يجب أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا و هي إنّ الجيش السوري استطاع أن ينتقل من أقصى اليأس إلى الأمل، و بدوره، نجح محور المقاومة بقيادة حزب الله في امتحان حرب المدن. في وقت حشّد كلّ العالم جميع قدراته اللوجستية و المالية لمواجهة هذا المحور الذي استطاع الصمود على مدى سبع سنوات و إدارة الأزمة بكفاءة عالية و القضاء عليها. و بالنسبة لداعش فإنّ تأسيسه لم يكن محض صدفة! حقّاً لقد كانت فرصة استثنائية عندما قرّروا خلق هذا التنظيم. إذن، هذه التحوّلات هي التي دفعتهم إلى طرح موضوع صفقة القرن.
دكتور ثابت: السيد أمير عبد اللهيان، و أنتم تجيبون عن السؤال الأول، لا بأس من أن تشيروا أيضاً إلى خصوصيات ذلك التحول الاستراتيجي. إنّنا نقول بأنّ التواجد الفعال للمقاومة، و تشكيل جبهة المقاومة و صمود نظام الرئيس بشار الأسد بوصفه قلعة الصمود بالنسبة للمقاومة هو الذي دفع الطرف الآخر للتفكير في طرح مبادرة جديدة للمنطقة، و لكن أرجو أن تتفضلوا بالإشارة إلى العناصر غير العادية و الاستراتيجية و الخصوصيات التي تعتقدون أنّها كانت المحرّك و الدافع وراء هذه الفكرة.
دكتور أمير عبد اللهيان: بسم الله الرحمن الرحيم. لقد أفدت كثيراً ممّا طرحتم في هذه الندوة و كذلك آراء الدكتور فتح علي، و أودّ أن أجيب بإيجاز عن السؤال الأول. ثم بعد ذلك أقدّم تفسيري للإجابة. بحسب اعتقادي إنّ سياسة ترامب غير متأثّرة لا بظاهرة و عمليات تخطيط و هندسة فكرية معقدة، و لا هي وليدة مجموعة من التحولات في المنطقة. باختصار أقول، إنّ قاعدة لعبة ترامب في القضايا الإقليمية و الدولية، كما تدلّ على ذلك تصرّفاته، هي الارتجالية و اللاقاعدة. لذا يمكن القول إنّها خطوة مدروسة و مخطّط لها سلفاً، أو ردّ فعل على تحولات المنطقة و هو أمر كان حاضراً دائماً في النهج العام للولايات المتحدة، و في الوقت نفسه، يمكن أن نشير إلى أنّ ترامب انخرط في هذه اللعبة بحسب ما تقتضيه حالته النفسية و السياسية، أي الحالة الارتجالية و اللاقاعدة. إنّني لا أجد في تصرّفات السيد ترامب أو صهره السيد كوشنر فيما يتعلّق بصفقة القرن أي إشارة تنمّ عن تعقيد أو حسابات دقيقة أو حكمة، لماذا؟ 
لأنّه في العقود الأربعة الماضية حدث أمر مهم على صعيد النظام الدولي و الإقليمي، أعني، ظاهرة الثورة الإسلامية، هذه الظاهرة أطاحت بجميع الترتيبات الأمنية و السياسة التي جعلت من الشاه شرطي المنطقة قبل الثورة. بيد أنّنا و بعد مضي هذه العقود الأربعة و على أعتاب الذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية لا نجد أي ترتيبات أمنية و سياسية جديدة في منطقتنا، هذه النقطة الأولى، و النقطة الثانية أنّ العقد الأخير شهد ثلاثة تطورات رئيسية مهمة يمكن من خلالها أن نتأمّل طبيعة سياسات الولايات المتحدة ونحلّلها على ضوء ذلك. التطور الأول على صعيد الفاعلين، و التطور الثاني على صعيد الأفعال، و التطور الثالث هو بيئة تلك الأفعال. فبالنسبة للتطور الأول، كان الفاعلان في فترة الحرب الباردة و هما الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة يلعبان لعبة واحدة خطرة للغاية هي لعبة استخدام السلاح النووي، طبعاً كان لهذه اللعبة قواعدها الواضحة و الثابتة و البسيطة نوعما، لدى كلا الفاعلين. لكنّنا اليوم نعيش نظاماً دولياً و إقليمياً تعدّد فيه الفاعلون لم‌يعد الاتحاد السوفيتي و الولايات المتحدة وحدهما في الساحة، بل الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ظهور بعض البلدان الأوروبية و بعض البلدان الصغيرة كفاعلين في النظام الدولي و المنطقة المحيطة بنا. فمثلاً بلدان مجاورة مثل قطر أو دولة الإمارات العربية المتحدة تشكل وحدات سياسية مستقلة، و إن لم تتوفر على بعض المعايير الحقيقية للدولة، لكنّها مع ذلك كوحدات سياسية أصبحت تخوض، على الأقل، مستوى معيناً من الفعل في سورية سواء كان ذلك في الجانب الإيجابي أو السلبي. و إلى جانب هؤلاء الفاعلين، هناك فاعلون غير حكوميين في مجموعتنا، مثل حزب الله و حركة حماس و الجهاد الإسلامي ... و غيرهم في الجانب الإيجابي، أمّا في الجانب السلبي فلدينا تنظيمات من أمثال داعش و أخواتها. لكلّ من هؤلاء مستوى عالٍ من التأثير في الساحة، على الرغم من أنّها ليست دولاً. إذن، تنوّع الفاعلين و تعدّدهم يشير إلى: أولاً، لم تعد الولايات المتحدة وحدها الفاعل الرئيس و الحاسم في الساحة. ثانياً، لقد تغيّرت طبيعة الفعل، ففي أيام الحرب الباردة كان الفعل سياسياً في مجمله، مع مسحة من الفعل الأمني على هامشه، بالتوازي مع التحولات السياسية، بينما في ظروفنا الراهنة أصبح الفعل في بيئتنا يتّسم بخصوصيات مفرطة في أمنيّتها و عسكرتها، و المثال الأوضح على ذلك الأرقام المهولة لأعداد القتلى في العراق و اليمن و سورية و ليبيا و مصر ... و غيرها من الدول في السنوات الأخيرة في عصر الصحوة الإسلامية و ما بعدها. و لا بدّ من القول إنّ بيئة الفعل بمنطقتنا ما تزال في بعض جوانبها تتميّز بطابعها العسكري و الأمني.
آخر تحوّل طرأ على بيئة الفعل كان في أيام الحرب الباردة التي امتازت باستقرار نسبي، قياساً بالبيئة الراهنة في عالم اليوم، التي تعبّر عن مزيج من الهلامية و التخلخل و عدم الاستقرار. هذه التحولات الثلاثة المهمة في مجال الفاعلين، الفعل و بيئة الفعل و طبيعة الفعل، تأخذنا إلى موضع لا تعود فيه الولايات المتحدة الفاعل الوحيد في الساحة. لذا، عندما نتحدّث عن فلسطين و صفقة القرن و عمّا إذا كانت الولايات المتحدة قد دخلت حقّاً هذا المضمار عن تخطيط و برنامج مسبق، أم إنّ وضعها كان ممتازاً بحيث أنّ المخرجات المتلاحقة لهذه التحولات أدّت إلى خلق ظروف أتاحت لها أن تفيد من الوضع أقصى استفادة بما يحقّق مصالحها و مصالح حلفائها من القضية الفلسطينية؟ هنا لا بدّ أن نضع نصب أعيننا عدّة نقاط، أولاً، إنّ الولايات المتحدة ليست الفاعل الوحيد، خصوصاً إذا علمنا بأنّها تمر بأسوأ الظروف التاريخية فيما يتعلّق بملف القضية الفلسطينية و صفقة القرن. ثانياً، إنّ المقاومة و بعيداً عن الشعارات، تعيش اليوم أحسن حالاتها و تتربّع على قمة الهرم بالمقارنة بفترة تأسيسها و حياتها السابقة، و أنّ الولايات المتحدة في أضعف حالاتها. ثالثاً، يواجه بعض حلفاء الولايات المتحدة مثل العربية السعودية التي دخلت اللعبة في السنوات الأخيرة تحديات خطيرة على صعيد النظام السياسي و البلد و المنطقة أيضاً. إذ يكفي القول إنّه لم يعد للعربية السعودية اليوم أيّ جانب إيجابي مشرق حتى في أوساط البلدان العربية و مجلس التعاون الخليجي. فصار اسم هذه الدولة يستحضر مفاهيم الاضطهاد و المال و الأسلحة و الرعب و الخوف. و فيما يتعلّق بترامب فإنّ سياسته بشأن القضية الفلسطينية تتمثّل في مبادرة صهره كوشنر. تعلمون أنّ بعض الوثائق و المعلومات تحدّثت عن العلاقة الحميمة التي تربط كوشنر بنتنياهو (أعتقد لدى الدكتور فتح علي معلومات أدقّ بخصوص هذه العلاقة) لدرجة أنّ نتنياهو عندما كان يزور الولايات المتحدة في فترة ما قبل تولّي ترامب مقاليد الأمور فإنّ منزل كوشنر بوصفه يهودياً يعيش في الولايات المتحدة كان أحد مراكز إقامته. كانت علاقتهم على درجة كبيرة من الصداقةالحميمة. على أيّ حال، فكونه صهر الرئيس ترامب وفّرت له مزية خاصة، بالإضافة إلى بعض الحوافز الشخصية و القومية التي يمتلكها.
من ناحية ثانية، ينظر ترامب إلى السياسة الخارجية على أنّها حزمة تجارية، ولاغرابة في ذلك فهو تاجر و سمسار. و يدل على ذلك الاسم الذي اختاره أمريكيو عصر ترامب لمشروع حل مشكلة فلسطين  الممتدة لأكثر من سبعين سنة، أعني "الصفقة"! أو "صفقة القرن"! و هو ما أشار إليه الدكتور فتح علي في حديثه. إذن، لننتظر و نرى إن كانت هذه الصفقة عبارة عن عقد أو اتفاقية. من وجهة نظر ترامب إنّها عقد تجاري، فصفقة القرن هي صفقة تجارية business! فحتى عندما تراجع بنود هذه الصفقة تجد 70 في المئة منها تجارة، وهذا يحاكي إلى حدّ بعيد الكلام الذي يروّجون له داخل الرأي العام في بلدنا، عندما يقول بومبيو و ترامب ما حاجتكم للسلاح؟ ما حاجتكم للصواريخ بعيدة المدى؟ ما حاجتكم للسلاح النووي؟ دعوا عنكم هذه الأمور. نفسها الوعود بالرفاهية الاقتصادية التي تُعطى للشعب الإيراني، تُعطى للشعب الفلسطيني، و كانت تُعطى للشعب المصري أيام الرئيس مبارك، فهذا الأخير كان يقيم أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة و الكيان الصهيوني، و كان من المفروض أن تمتلك مصر، أهم دولة عربية في المنطقة، الاقتصاد الأكثر انتعاشاً! و لكن ماذا كانت النتيجة، عندما كنت تزور مصر في عهد الرئيس مبارك تجد ثلاثة ملايين مصري يسكنون في أكبر مقبرة في قلب العاصمة المصرية القاهرة، هذا ذروة الانتعاش الاقتصادي الذي وعدت به الولايات المتحدة حليفها الاستراتيجي في المنطقة. هذا الاستطراد هو للتأكيد على القاعدة التي يتبعها ترامب في سياسته، أقصد الارتجالية و اللاقاعدة. في السابق كان الرئيس بوش يقول إذا أردنا أن نخلق نظاماً في المنطقة فلا مفرّ من نسف الأوضاع الحالية لبلدان المنطقة، ندمر أفغانستان، ندمر العراق، ندمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية! بعد ذلك ستكون هناك فرصة كافية لإعادة ترتيب الأوضاع من جديد حسبما نرتأي. في ظنّي أنّ السيد ترامب ليس رجل حرب أبداً كما تشي بذلك مشاريعه السياسية. إنّه سياسي سمسار و محافظ متزمّت، فعلى الرغم من الضجيج الذي يحدثه، إلّا أنّه يتعامل في جميع الملفات بحسب المعادلة التجارية خذ و أعط و وفق ثيمة تطيب لمذاق مخاطبيه في فلسطين على الصُعُد الاقتصادية و التجارية و الرفاهية. و لكن ماذا يريد أن يأخذ من فلسطين في مقابل هذه الأشياء التي يعطيها؟ يريد أن يسلبها هويتها، و يغتصب أرضها، و يجرّدها من استقلالها و يستحوذ على سيادتها و كامل ترابها الوطني. لذا، فأنا أرى أنّه لا ينبغي التهوين من قدرات العدو، و لكن في الوقت نفسه، لا ينبغي أن نحمل مشروع السيد ترامب "صفقة القرن" على محمل الجدّ.
دكتور ثابت: و ماذا عن هذه التحولات، هل هي انفعالية أم لا؟
دكتور أمير عبد اللهيان: في الحقيقة، لا أستطيع القول إنّ التدابير المتّخذة في هذا الموضوع محض ردود أفعال، فهناك دراسات على مستوى النخب الأمريكية حول القضية الفلسطينية هي حصيلة تراكمات على مدى سبعين سنة، و لا يمكن لأي رئيس أمريكي جديد أن يغضّ الطرف عن تلك الدراسات. إنّ القضية الفلسطينية هي قضية مخطّط لها بالأساس، أما أين استطاع رؤساء البلاد و الإدارات المتعاقبة و الساسة الأمريكان توظيف ذلك التخطيط لخدمة مصالحهم و أين فشلوا في ذلك، فهذا بحث آخر.
دكتور ثابت: دكتور فتح علي، إذا قرأنا كلام الدكتور أمير عبد اللهيان من زاوية أخرى سوف نستنتج أنّه يريد أن يضع صياغة ترامب لصفقته في إطار خطة مدروسة و لا يستبعد في الوقت نفسه أن تكون رد فعل على تحولات المنطقة نظراً لشدّة و عمق هذه التحولات كما أشرتم أنتم أيضاً. و نقف عندما انتهى إليه الدكتور في حديثه، أعني الهوية الفلسطينية. لاحظوا معي إنّنا فيما يتعلّق بموضوع المقاومة طرحنا تعريفاً فضفاضاً عن كلمة المقاومة، لم نصوّب رأس حربتها إلى الكيان الصهيوني و حسب، بل رسمنا رمزاً موحداً في مقابل ممارسات الهيمنة والتسلّط في المنطقة و وضعناه ضمن محور المقاومة و استعرضنا ماهيات و أشكال مختلفة لهذه المقاومة. فإذا سلّمنا، من ناحية، بهذا التعريف الموسّع للمقاومة، و أخذنا في الحسبان، من ناحية ثانية، الملاحظة الجوهرية التي طرحها الدكتور من أنّ هذه التحولات الاستراتيجية أفضت إلى حصول ردّ فعل مدروس و أنّه يتحرك صوب محو الهوية الفلسطينية، في هذه الحالة سوف يتبادر سؤال مهم حول القضية الفلسطينية. إنّ الملف الفلسطيني أو القضية الفلسطينية لم تعد، مهما كانت الأسباب والاعتبارات، تشكّل أولوية بالنسبة للعالم الإسلامي كما في العقود الماضية. الملاحظة الثانية إنّ الأوضاع داخل فلسطين أصبحت مغايرة، و أنّ الفصائل الجهادية على الرغم من عدّتها و عديدها و عزمها على مواجهة الكيان الصهيوني و عملياتها الجهادية، فبعض الحكومات العربية التي تقدّم الدعم و المساندة لهذه الفصائل بدأت بالتخلّي عن القضية الفلسطينية لتتحول هذه القضية من موضوع عربي - إسرائيلي إلى موضوع إسرائيلي. بمعنى أوضح، إنّ هذه القضية صارت تُطرح ضمن النسيج الداخلي الإسرائيلي و على مستوى الحوارات الداخلية بين الإسرائيليين، لتبدو جزءاً من معضلة داخلية تخص الكيان الصهيوني وحده، من حيث أنّ هذا الكيان يعتبر نفسه وحدة سياسية واحدة، و بالتالي فإنّ هذه القضية تعدّ شأناً داخلياً! و إحدى التحديات الخاصة به! و هو المسؤول عن حلها! فهل هذا التفسير مقبول؟
دكتور فتح علي: بالنسبة لما طرحتم حول ما إذا كانت هذه الصفقة عبارة عن ردّ فعل أم خطة مدروسة؟ أقول ربما الاثنين، أي، إنّ الكيان الصهيوني و منذ البداية كان يطمح في: أولاً، إخراج موضوع القدس من دائرة المفاوضات، ثانياً، إخراج موضوع اللاجئين الفلسطينيين من دائرة المفاوضات. و تحضرني هنا مذكّرات الوزير جون كيري، التي تتضمّن موضوعات مثيرة! فقد استعرض في جانب منها بعض الحقائق. يقول الوزير كيري في مذكراته: «لقد بذلت كل ما في وسعي في السنتين 2013 و 2014 م لطرح موضوع التوطين». لقد تحدث جون كيري إلى الأردنيين و اللبنانيين على ضرورة توطين اللاجئين الفلسطينيين في هذين البلدين، و كان هدف الإسرائيليين يتلخص في حلّ مسألة اللاجئين، عبر تثبيت فكرة توطينهم في البلدان العربية. ثالثاً، كان دأب الكيان الصهيوني هو تحقيق حلمه في يهودية الدولة، ولا بدّ أنّكم تلاحظون هذا الهدف في قصة صفقة القرن. إلّا أنّ بروز بعض التحولات في المنطقة دفع بهؤلاء إلى التعجيل بمهمتهم، منها وصول شخص مثل ترامب على رأس الإدارة الأمريكية فاستغلّ الكيان الصهيوني هذه الفرصة لصالحه، لذا، فهذه ليست بمانعة الجمع، و إنّما جزء من مخططات الكيان الصهيوني. إنّكم عندما تطلعون على صفقة القرن، تجدون أنّ هذا المشهد كان مطروحاً منذ البداية، و لكن لماذا الإعلان عنه الأن؟ لأنّ الكيان الصهيوني وصل إلى نقطة شعر معها أنّه بدأ يخسر اللعبة. قالها مرة رئيس الكيان الصهيوني السابق شيمون بيريز، على إسرائيل أن تتوسّع على امتداد العالم العربي. و الآن، كيف هي الأوضاع؟ سوف يسجّل التاريخ حجم التأثير الذي تركته الأزمة السورية على الترتيبات الأمنية في المنطقة، لدرجة أنّنا نرى أنّ هذه القضية تحوّلت إلى تحدٍّ خطير بالنسبة للكيان الصهيوني.
دكتور ثابت: و هل يعزى ذلك إلى عقلانية سورية أم إلى عقلانية محور المقاومة يا دكتور؟
دكتور فتح علي: إذا أردت أن تطرح موضوع المقاومة في النقاش، فهي عبارة عن منظومة مؤلفة من عقلانية حزب الله و عقلانية سورية و عقلانية إيران ... و غيرهم، لذا، من هذه الزاوية، كانت هذه الخطة من المشاريع الإسرائيلية طويلة الأمد، لكنّهم قاموا بتفعيلها في هذا الوقت، إذ لم يكن أمامهم خيار غير هذا، لأنّنا زرعنا محور المقاومة بجوارهم. موضوع آخر كان يحظى بأهمية بالنسبة لهم في سورية، هو إخراج هضبة الجولان السورية من المعادلة، و قد ذُكر ذلك في صفقة القرن، فالجولان يعدّ جزءاً من أحلام و مشاريع الكيان الصهيوني.
دكتور ثابت: اسمح لي دكتور أن أقوم بتوسيع مفهوم كلمة صفقة، ربما يقال أنّ ترامب يستعمل هذه الكلمة لأنّها تتناسب تماماً مع طبيعته كتاجر و سمسار، فاختار كلمة صفقة القرن لخطته! لكنّنا إذا تأمّلنا اللاعبين في ساحة التحولات النظرية و الموضوعية خارج محور المقاومة سنجد أنّهم أيضاً على شاكلة ترامب، سماسرة. فعندما يختار (ترامب) كلمة صفقة القرن، فهو يعلم مخاطبيه جيداً. فهو لا يخاطب الروس أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و إنّما مصر و الأردن و العربية السعودية و الإمارات و قطر و البحرين، هذه البلدان هي المعنية بهذا الخطاب. برأيي إنّ الكلمة اختيرت بعناية فائقة، فالفريق المعني بهذه الصفقة، أعني، الأطراف التي يتسنّى لها الانخراط في هذه الصفقة، هي أيضاً تتحرك بهذا الاتجاه.
دكتور فتح علي: أنت تقصد أنّهم يعقدون اتفاقاً مع إسرائيل من خلال علاقاتهم السرية مع جزء من العالم العربي.
دكتور ثابت: الهوية التي تحدّث عنها الدكتور لها علاقة بالساحة العربية أيضاً. أي، من هذه الجهة، نجد إنّ المحور المعادي للمقاومة تعرّض لانسداد خطابي و اختناق جيوسياسي، فأصيب بحالة انعدام الهوية و هذه حقيقة واقعة، ممّا يشير إلى أنّ هذا الجزء من العالم العربي هو الأكثر استعداداً للانخراط في هذه الصفقة. حبذا لو أسمع رأيكم في هذه الجزئية.
دكتور فتح علي: لقد خطّطت مراكز الدراسات الإسرائيلية أو غرفة العمليات الفكرية لذلك. ففي هذا السياق يصبّ ما قلته ذات مرة من ضرورة أن نناقش قضية تأسيس داعش. من أين بدأت عملية تأسيس داعش؟ بدأت بفرصة قام هؤلاء باستغلالها. و الحق أقول، إنّ مراكز دراساتهم أدّت دورها بدقة عالية. و يدلّ على ذلك أنّنا عندما كنّا نشاهد سورية على الخريطة في مرحلة ما، كنّا نلحظ أنّ 80 في المئة منها كان خاضعاً لسيطرة داعش و جبهة النصرة، أيّ إنّهم استغلوا الإحباط الفكري فحوّلوا الخطاب من عربي - إسرائيلي إلى إيراني- إسرائيلي، و قاموا في هذا الخضم بخلق داعش.
دكتور أمير عبد اللهيان: تقصد أنّ المسألة كانت تغيير في الأولويات؟
دكتور فتح علي: نعم تغيير في الأولويات. عندما توجه داعش إلى الأردن و وضع هذا البلد ضمن استراتيجيته، يقول الملك الأردني عبد الله الثاني لمّا أصبح الملك سلمان ملك المملكة العربية السعودية سافرت إلى هناك و شرحت له أوضاعنا بالتفصيل و أوضاع داعش، فقال لي: دع عنك داعش! هاجسنا الرئيسي اليوم هو إيران. و هذا ما يحصل بالفعل، فمنذ وصول سلمان إلى العرش و الأوضاع على هذا الحال. لذا، من الأمور التي تميّز صفقة القرن أنّهم استغلّوا فرصة تغيّر الأولويات، فهم يعيشون حالة إحباط، لأنّ السعوديين يعتقدون أنّهم الخاسرون الرئيسيون جراء تطور الأوضاع في المنطقة، و لذلك بادروا إلى استغلال هذه الفرصة. 
دكتور ثابت: كل خطة قد تنطوي على فرص و على تحديات في آنٍ واحد، فلو أردنا أن ننظر إلى فكرة صفقة القرن - التي لحسن الحظ لم تتحوّل بعد إلى خطاب و ما تزال في طور مشروع خطة - كفرصة أو تحدّ، كيف نستطيع أن نجسّر بين الفرص و التحديات التي تفرزها الصفقة المذكورة و بين المعطيات الميدانية في ضوء التحولات الرئيسية و الاستراتيجية في المنطقة التي تتمحور حول المقاومة؟ 
دكتور أمير عبد اللهيان: في البداية أودّ أن أطرح مقدمة تمهيدية تتعلق بصفقة القرن و مفادها طبيعة التحديات التي تواجه الأمريكان و الكيان الصهيوني؟ و من ثمّ أجيب عن سؤالك في هذا السياق. من أجل تنفيذ صفقة القرن تعاني الولايات المتحدة و الكيان الصهيوني من مشاكل في عدّة مجالات، المشكلة الأولى انعدام الأمن المستدام. فالكيان الصهيوني الذي يحلم بدولة تمتد من النيل إلى الفرات، لكنّه إلى جانب تدابيره الوقحة في توسيع النشاط الاستيطاني، يقوم ببناء جدار اسمنتي أعلى و أسمك يحيط دولته، أي، سجن يحيط بهذه الدولة اللقيطة.
دكتور فتح علي: العودة إلى حياة الغيتو.
دكتور أمير عبد اللهيان: بالضبط، و ذلك بسبب انعدام الأمن المستدام. تحدٍّ آخر كبير يواجه الصهاينة هو مشكلة اللاجئين، فكل خطة لا بدّ أن تحتوي على بند حول مصير اللاجئين، و من خلال نظرة الفلسطينيين الاستراتيجية إلى مسألة العودة إلى أرض الآباء و الأجداد، فقد شكّلت هذه القضية تحدياً خطيراً. لكنّ التحدّي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة و الكيان الصهيوني هو وجود المقاومة. فأحد جوانب القضية هو قدرات المقاومة، و الجانب الآخر، أنّهم كلما سلكوا اتجاهاً معيناً للعثور على طريق للحوار مع بعض العناصر في جبهة المقاومة، واجهتهم مشاكل جدية.
دكتور ثابت: هل ترون المقاومة في داخل الأرض أم خارجها؟
دكتور أمير عبد اللهيان: لا، أعني بالمقاومة الذين يحملون السلاح و يدافعون عن وجودهم داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، أي الفصائل الجهادية، فهذه الفصائل تشكّل بالنسبة إليهم تحدياً، و المتاعب التي تسبّبها للكيان الصهيوني و الولايات المتحدة قد لاتسبّبها الفصائل السياسية.
دكتور ثابت: هل يرتقي التحدّي إلى مستوى الردع أيضاً؟ أم إنّه عبارة عن إزعاج دائمي و حسب؟
دكتور أمير عبد اللهيان: أهم عامل ردع في الأطراف التي ذكرتها للتو محور المقاومة و الفصائل الجهادية، فهي، في النهاية، القوة التي لها كلمة الفصل، إنّها قوة المقاومة التي تحسم الموقف. لقد استطاع حزب الله في حرب الـ 33 يوماً أن يضع قوته على المحك الدولي فأصبح بالتالي حزب الله الذي نعرفه اليوم، هذا، في الوقت الذي كانت للعالم، كل العالم حسابات أخرى، و كذلك الحال في حروب الـ 22 و 51 و 8 أيام.
دكتور ثابت: إذن، فوجود المقاومة الجهادية على أرض الواقع يشكل أحد الخيارات الاستراتيجية لمواجهة هذه الصفقة.
دكتور أمير عبد اللهيان: في الحقيقة لاأعرف ماذا سيحدث بالنسبة لصفقة القرن؟ بغض النظر عمّا إذا كانت احتمالات تنفيذ الصفقة تعادل 2 في المئة أو 90 في المئة، فإنّنا على أيّ حال سنشاهد عرض مسرحية صفقة القرن و تثبيتها ضمن سياسات ترامب و المحيطين به و ذلك لنفس السبب الذي ذكرنا و هو مبدأ الارتجالية و اللاقاعدة التي تحكم سلوك ترامب. بيد أنّ العامل الأكثر ردعاً الذي سيحول دون تمرير هذه الصفقة و تنفيذها، أكثر من أيّ إجراء أو تحدٍّ آخر، هو خيار المقاومة. بالإضافة إلى موضوع اللاجئين الذي قد يشكل تحدياً مهماً بالنسبة لصفقة ترامب. ناهيك، طبعاً، عن طبيعة السياسات التي ستتّخذها الدول المعنية بهذه الصفقة. فمن المؤكد أنّ هذه الدول ليست الكويت أو البحرين أو حتى العربية السعودية، بل إنّ مصر و سورية و الأردن هي الدول المعنية أكثر من غيرها بصفقة القرن المزعومة، لأنّها دول المواجهة التي تربطها حدود مشتركة مع فلسطين المحتلة. لهذا السبب، عندما نتأمّل مختلف جوانب هذه الصفقة، نجدها قد وضعت في حسبانها حزمة تجارية جذابة لكل من هذه الدول، مصر أو الأردن أو ربّما سورية، فيما لو تمّ تنفيذها. بالنسبة لسورية، في اعتقادي لاداعي لننتظر ما سيحمله الغد، فالتفاصيل التي تتضمنها صفقة القرن حول سورية و التصريحات التي تنقل عن المسؤولين تبين أنّ إحدى مقاربات القائمين على الصفقة المذكورة التركيز على سورية و سلخ هذا البلد عن محور المقاومة إن إمكن، لذا، أجد من الطبيعي أن يضعوا في اعتبارهم مسألة منح سورية بعض المزايا، بغضّ النظر عن موقف القيادة السورية و النظام السياسي هناك الذي تعامل مع الموضوع بدراية و حكمة حتى الآن.
دكتور ثابت: في ضوء الانتصارات التي حققها محور المقاومة حتى الآن، كيف يتسنّي له أن يترجم هذه الانتصارات و قدراته الاستراتيجية في مختلف الأبعاد، بما فيها هذا المجال؟
دكتور أمير عبد اللهيان: عندما نتحدّث عن الانتصارات الإقليمية، يبرز أمامنا رأيان حتى في داخل البلاد على مستوى النخب، رأي سلبي و آخر إيجابي، يقول الرأي السلبي أو التيار السلبي إنّ السنوات الثماني العجاف الماضية خلقت ظروفاً لم يعد فيها وجود لجيوش قوية في دول المنطقة مثل مصر و سورية و العراق بل حتى الجيش اليمني القوي، و ذلك بسبب ما مرّت به هذه البلدان من حروب و ويلات و تحديات كبيرة، و أنّ الطرف الوحيد الذي خرج من هذه الأزمة و له اليد العليا هو الكيان الصهيوني. هذا الرأي الأول، أما الرأي الثاني الإيجابي فيقول، و أنا من أنصاره، لقد حصلت تطورات و حوادث كثيرة أتاحت لمحور المقاومة و البلدان الداعمة له تحقيق مكاسب و انتصارات عظيمة. و إنّ العراق تحمّل خسائر عظيمة في حربه ضدّ داعش و الإرهاب، و لكن لاننسى بأنّ الخطة كانت تقضي بتجزئة العراق! أذكر أنّنا و السيد ظريف كنّا في زيارة لأحد المراجع الدينيين العراقيين، و طُرحت قضية تقسيم العراق و ذلك في خضم وقائع سقوط الموصل، قال المرجع الديني: إنّكم تتحدثون عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، لكنّ أعداء العراق وضعوا كل ثقلهم في هذا الموضوع بحيث لو كان في مقدورهم لقسّموا كل قرية صغيرة في العراق إلى عدّة أجزاء. فبالإضافة إلى الخسائر الهائلة التي ألحقها داعش بالعراق و سورية، فقد كان يخطّط لتقسيم هذين البلدين، و نفس المؤامرة كان من المفروض تطبيقها في بلدان أخرى مثل السودان و ليبيا على نحوٍ معين، و في اليمن على نحوٍ آخر. في السودان، ارتكب الرئيس عمر حسن البشير خطأً استراتيجياً عندما وافق على تقسيم السودان، وبغضّ النظر عن كون هذا التقسيم لم يعد بأيّ فائدة على السودان، فقد تسبّب بمعضلات أكبر أيضاً. إذن، في الوقت الذي كان الأعداء يحيكون المؤامرات الكبري ضدّ المنطقة، استطاع محور المقاومة و أصدقاؤنا في هذا المحور تحقيق إنجازات عظيمة كانت إحدى نتائجها تألق نجم محور المقاومة في المنطقة لا الكيان الصهيوني كما كان مخططاً له، كما نجح هذا المحور في كبح جماح العدو الصهيوني و في تكسير عظام الإرهابيين في آنٍ معاً، هذان الفريقان اللذان تمتّعا بأقصى مديات الدعم و الإسناد من قبل حلفائهما و شركائهما.
دكتور ثابت: يعتقد البعض أنّ المنطقة برمتها غارقة في حالة من الفوضى و انسداد الأفق، يدلّل عليه عدم توفر أي من اللاعبين و الفاعلين على خطة عمل شاملة للمنطقة. و يبدو لي أنّ اللاعبين بادروا لصنع موقف استراتيجي و إذا بهم يجدون أنفسهم في هذا الموقف الاستراتيجي. تصوّري هو أنّ معظم الفاعلين، استناداً إلى بعض المؤشرات، وجدوا أنفسهم في موقف استراتيجي، بما في ذلك الأمريكان. أما ما نلحظه من حضورأمريكي في بعض المناطق فالقصد منه إبطاء بعض الخطط و العمليات ليس إلّا. لقد احترف هؤلاء ركوب الموجات، و لا أعتقد أنّ لديهم دائماً حزمة جاهزة و أنّهم بصدد تطبيق المرحلة الفلانية من تلك الحزمة! لا، لاأعتقد ذلك. فهم أيضاً في حالة انفعال شديد. و لكن إذا تصوّرنا أنّ صفقة القرن طُرحت بوصفها برنامجاً في ظروف و أوضاع تخلو فيها المنطقة من أيّ برنامج أو خطة واضحة المعالم، ففي هذه الحالة، هل بمقدور محور المقاومة أن يبدّل هذه الفكرة أو الصفقة إلى فرصة؟ في ضوء الإنجازات و المكتسبات الباهرة لمحور المقاومة في المنطقة، و نجاحه في استقطاب روسية إلى صفّه، و انتفاعه بالنتائج الاستراتيجية لهذا الحضور الروسي، هل باستطاعة محور المقاومة تقديم مخطط عام بديل للمنطقة يغطّي على صفقة القرن؟ هل توجد مثل هذه الإمكانية؟ هل نتوقّع أن تحفّز هذه الخطة البدائية غير الناضجة أو خطة السمسرة لترامب محور المقاومة فيبادر إلى الانخراط في لعبة، أو قل إن شئت، لعبة عملاقة يطرح من خلالها مخطط عام؟
دكتور فتح علي: بعد انتصار الثورة الإسلامية، تعلّمنا من الإمام الخميني (رحمه الله) كيف نبدّل التهديد إلى فرصة. تصوّروا إنّ هذا السؤال قد طُرح في عام 1980 م عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، لقد استطاع الإمام الخميني (رحمه الله) أن يبدّل الحرب إلى فرصة، لقد كان ماهراً في تحويل التعاليم الدينية من فوق إلى تكليف شرعي و سياسي، و طبعاً إذا تحوّلت إلى تكليف سياسي فهذا يعني أنّ كل إنسان قد أصبح مكلّفاً سياسياً. نفس الحالة تنطبق على محور المقاومة، فهناك ملامح جيوسياسية للمقاومة في طور التشكيل، و مهارة المقاومة تكمن في أنّها استطاعت تسليط الضوء على آليات سياسية نظرية مع طبقات اجتماعية حاسمة خارج دائرة الدولة. سؤالكم هو هل ظهر حزب الله اللبناني على الساحة وفقاً لخطط؟ الجواب: كلا! لقد كان لحزب الله عالمه الخاص به في لبنان، حتى فُرضت عليه الحرب فرضاً، فقام باستغلال هذه الفرصة. 
إنّنا نرى اليوم فصيلاً قد تشكّل ضمن محور المقاومة اسمه الحشد الشعبي، شئنا أم أبينا، و في اليمن هناك فصيل قد تشكّل اسمه أنصار الله، شئنا أم أبينا، و في سورية تشكّلت سرايا الدفاع الوطني، شئنا أم أبينا، و في لبنان تشكّلت فصائل أصبحت لها الكلمة الأولى في صنع القرار، و الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرار، شئنا أم أبينا. لقد علّمنا الإمام (رحمه الله) أن نستغلّ هذه الحوادث و نجعل منها فرصاً. لقد ذهب جميع المسؤولين القائمين على صنع القرار و اتّخاذه، إلى سماحة قائد الثورة الإسلامية، فقال لهم سماحته لا خيار أمامنا سوى الدفاع. محور المقاومة اليوم هو ثمرة توكّلنا على المدد الإلهي. الآن و قد طُرحت صفقة القرن، فكيف سنتصرّف بإزائها يا ترى؟ إذا أراد محور المقاومة أن يصنع من هذا الحدث فرصة، فكيف عليه أن يتصرّف؟ تأمّلوا كيف كانت القضية الفلسطينية في أوساط الرأي العام في العالم العربي قبل طرح صفقة القرن! و تأمّلوها بعد طرحها! لقد وضعت أمامنا فرصاً. و الدليل على ذلك مسيرة العودة التي تقام في كل يوم جمعة. تأمّلوا هذه المسيرة! لاحظوا معي، عندما قال سماحة قائد الثورة اذهبوا إلى الضفة الغربية و هيّئوا الأجواء؟ متى قالها! إذن اللعبة دقيقة للغاية، أما هل هي في قالب لعبة الردع أم لعبة التوازن؟ فهذا بحث آخر.
في ظنّي إنّ صفقة القرن فعلت فعلها و تركت تأثيرها، فحماس قبل طرح صفقة القرن هي غير حماس بعد طرح هذه الصفقة، و هذه في حدّ ذاتها تهيّئ لنا فرصة. و لكن علينا أن ننتبه جيداً إلى أنّ سنّة الله تقول «إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم». أنا واثق من أنّ صفقة القرن ستجعل من القضية الفلسطينية مرة أخرى و بفضل الله، القضية المركزية في العالم الإسلامي.
دكتور ثابت: على الرغم من افتقاد العالم العربي بشقّه السنّي إلى زعماء يحظون بكاريزما، فإنّ أمامنا فرصة استراتيجية كبرى، خصوصاً و أنّنا حقّقنا مكاسب استراتيجية مهمة. إنّنا نقوم بنقد صفقة القرن، ألا يشكّل ذلك فرصة لنقوم بموازاة ذلك بطرح خطة شاملة و جوهرية؟ يخيّل إليّ إنّ ما نعيشه الآن عبارة عن فرصة ذهبية. هل يمكن حقّاً أن ننظر إلى هذه الفرصة من زاوية هندسية مدروسة أم لا؟
دكتور أمير عبد اللهيان: من أجل تنظيم مكتسبات محور المقاومة في المنطقة يلزمنا أن نعود إلى موضوع القدس أولى القبلتين و التركيز على موضوع تحرير القدس لأنّها تشكّل إحدى الموضوعات التي تنطوي على قدرات عظيمة كامنة. فما يزال هناك إجماع على صعيد المنطقة و العالم الإسلامي، شيعةً و سنة، حول موضوع القدس، حتى و إن كانوا غير مجمعين على قضية اسمها فلسطين. الأمر الذي أكد عليه سماحة قائد الثورة الإسلامية مراراً و تكراراً. هنا أودّ في ختام النقاش أن أنوّه إلى مسألة، و أن أعرض استنتاجي ممّا طُرح اليوم من موضوعات.
خلال السنتين الماضيتين، ما هي الخطوات المتخذة من قبل ترامب و كوشنر و نتنياهو؟ و ما صلتها بصفقة القرن؟ بنظرة بحثية مستقبلية، كيف نرى مستقبل موضوع صفقة القرن و القضية الفلسطينية؟ لاحظوا معي إنّ هذه الصفقة تمّ الإعداد لها و يجري تنفيذها عبر سياسة مشتركة لترامب و نتنياهو و متابعة ميدانية من كوشنر و فريق من الصهاينة، ففي المرحلة الأولي أعلنوا القدس عاصمة للكيان الصهيوني، و في المرحلة الثانية، قاموا بتحويل القنصلية الأمريكية في منطقة من القدس إلى سفارة الولايات المتحدة. و على الرغم من الهالة الإعلامية الواسعة التي أحيطت بصفقة القرن، و الخطوات الاستعراضية التي اتّخذت، فهذه جميعاً مجرد أطروحات كتبت و لم تطبق، بما في ذلك استعراض مسرح العرائس المتمثل في تحويل القنصلية الأمريكية إلى سفارة، و الضجة التي رافقت إعلان القدس عاصمة للصهاينة، كلّ هذه عبارة عن أطروحات مدوّنة، لكنّ الطريق طويل لكي تصبح تطبيقية و عملانية. المسألة الأخرى هي، كما كان الإمام الخميني (رحمه الله) يؤكد على أنّ إسرائيل عبارة عن غدّة سرطانية مزروعة في المنطقة، تمثّل قضية عدم شرعية إسرائيل أيضاً غدّة سرطانية حتى لأصدقاء إسرائيل أنفسهم. لأنّك عندما تتأمّل صفقة القرن ستقول في نفسك، لوكان الأمريكان يسعون حقّاً إلى حلّ جذري للقضية الفلسطينية و حل مشكلة الكيان الصهيوني، فهذا الحل بحاجة إلى علاج كيمياوي معقّد لمرض سرطاني! لا وصفة طبية بسيطة لنزلة برد، و نحن لانجد في صفقة القرن تفاصيل أو تعقيدات العلاج الكيمياوي السرطاني. و يبين ذلك أنّ الملف الفلسطيني ذا السبعين سنة على قدر من التعقيد بحيث لم تعد هذه الوصفات الطبية البسيطة تنفع معه، و لنفترض جدلاً أنّ هذه الوصفة ستدخل مرحلة الإعداد و العلاج، إلّا أنّ الطرف الذي لعب دوراً مهماً و رادعاً في العقود الماضية و سيستمر بهذا الدور في المستقبل أيضاً و بوتيرة متصاعدة هو المقاومة بإرادتها و قدراتها. و هذه الإرادة و القدرة لن تسمح للكيان الصهيوني أبداً بأن يلتمس الشرعية، أو أن يحقّق لنفسه أمناً و سلماً دائمين.
دكتور ثابت: أشكر جميع الأساتذة على إيضاحاتهم، لقد طرح سعادة الدكتور ملخصاً جامعاً و جيداً في نهاية النقاش. بدوري أودّ التأكيد على بعض النقاط. النقطة الأولي هي أنّ هذه الخطة قد تكون وليدة تخطيط و هندسة فكرية، و قد تكون بنحوٍ أو بآخر، رد فعل أو إجراء انفعالي. و ربما تكون التحولات الاستراتيجية الحاصلة في المنطقة إحدى الأسباب المؤثّرة على رؤية اللاعبين الدوليين و الكيان الصهيوني إزاء قضية وجود هذا الكيان و أمنه.
وهؤلاء اللاعبون هم لاعبون أو فاعلون من النمط الذي قد يتركون آثاراً استراتيجية على المحيط أو الرؤى أو على الأداء ليكونوا صنّاعاً للمعادلة. من ناحية، يمكن لصفقة القرن أن تهيئ فرصاً للكيان الصهيوني، و لكن من ناحية ثانية قد تخلق تحديات خطيرة لهذا الكيان. ولذلك تعدّ المقاومة و الفصائل الجهادية أمضى سلاح يمكن أن يشهر بوجه هذه الصفقة و إفشالها. إنّ هذه الصفقة تواجه العديد من العقبات التي تحول دون تطبيقها، منها مثلاً: المعارضة الصلبة للمقاومة و الفصائل الجهادية، و مشكلة اللاجئين، و انعدام الأمن الدائم، أضف إلى ذلك التحديات التي تكمن في جوهر الصفقة و التي ستفرزها لاحقاً. و في هذا السياق، فإنّ الالتفاف حول قضية القدس بوصفها القاسم المشترك الذي يجمع حوله العالم العربي و الأمة الإسلامية سوف يشكل عقبة كأداء بوجه تنفيذ الصفقة المذكورة. في الحقيقة، إنّ هذه التدابير و الإجراءات التي يقوم بها النظام الإمبريالي المعادي لمحور المقاومة تأتي في سياق الردّ على الضربة الأولى التي تلقاها، و في هذا دلالة على أنّ الجبهة المعادية للمقاومة و النظام الإمبريالي تعاني من حالة انفعال شاملة، على الرغم من محاولاتها للتغلّب على هذه الوقائع.
مجلة طهران: نشكر جميع الأساتذة و أصحاب الرأي على حضورهم و مشاركتهم في هذه الندوة.

 


قراءة: 783