فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

حلقة حوارية تخصصية «دور الأكراد في التحولات المستقبلية للمنطقة»

الحلقةالأولى؛ دراسة القضايا الكُردية في سوريا و تركيا
أجرى الحوار؛محمد علي دستمالي(خبير في الشؤون التركية والكردية)

 

 تلميح 
من أجل رسم ملامح محددة و واضحة و واسعة عن الآراء و المقاربات الفكرية و السياسية و الإقليمية لمختلف الأحزاب فيما يخص تحولات القضية الكردية، عقدت فصلية طهران لدراسات السياسة الخارجية حلقة حوارية نقاشية بحضور زعماء و كبار أعضاء بعض الحركات الكردية في المنطقة، لاستبيان آرائهم في التحولات الجارية، و بالتوازي أجرت المجلة حواراً مع زعماء الأحزاب الكردية التركية و السورية و إقليم كردستان، و لغرض استكمال التحليلات المطروحة، تمّ عقد حلقة نقاشية تخصصية بحضور عدد من الناشطين و المحللين الأكراد الإيرانيين، نوقشت خلالها الاستنتاجات و الآليات المطروحة. السمة المشتركة التي تجمع الشخصيات المشاركة في الندوة هي أنّهم جميعاً مستنيرون و مثقفون من الجيل الجديد من الأكراد الإيرانيين، و يواصلون دراستهم في الجامعات الإيرانية، و لكل منهم مقارباته و آراؤه الخاصة في القضايا الكردية، فضلاًً عن تدوينهم العديد من المقالات و المؤلفات في هذا المجال. عقدت الندوة في جامعة كردستان بمدينة سنندج الإيرانية في يوم الجمعة 14 مارس̸ آذار 2019 م و بمشاركة أربع شخصيات فكرية أوردنا فيما يلي تعريفات مختصرة بشأنها، نرجو أن تحظى باهتمام القارئ الكريم.
 ۱. الدكتور صلاح الدين خديو، من مواليد 1973 م و هو كردي من مدينة مهاباد الإيرانية بمحافظة أذربيجان الغربية، خريج قسم الصيدلة في جامعة تبريز، دوّن في الآونة الأخيرة العديد من المقالات حول التحولات الكردية و تاريخ الأحزاب و الحركات الكردية نُشرت في المحافل السياسية الداخلية.
 ۲. الدكتور اسكندر مرادي، من مواليد 1977 م، من مدينة سرو آباد (تقع بين سنندج و مريوان) بمحافظة كردستان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة طهران، تقلّد في السنوات الأخيرة عدة مناصب إدارية مثل رئاسة جامعة بيام نور في كردستان، كما أقام عدد من الدورات و الورش التعليمية في مادة الجغرافيا السياسية.
 ۳. الدكتور اردشير بشنج، من مواليد 1979 م في مدينة جوانرود بمحافظة كرمانشاه، حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من الجامعة الإسلامية الحرة بطهران. كتب العديد من المقالات و صدرت له بعض الكتب التي تتناول القضية الكردية، و له نشاطات في الإعلام التلفزيوني.
 ۴. محمد علي دستمالي، خبير في الشؤون الكردية و التركية، و محلل و مراسل صحفي، ولد بمدينة سنندج عام 1977 م، و هو مدير هذه الحلقة النقاشية.

 

 

 

فصلية طهران: في بداية هذه الحلقة النقاشية أوجّه شكري إلى الأساتذة المحترمين الذين سوف يُثرون هذا الحوار بمشاركتهم القيّمة، اسمحوا لي أن‌نناقش أوضاع الأكراد في تركية. أريد أن‌استطلع آراءكم حول الأوضاع السياسية و القانونية لأكراد تركية و المسار الحالي لحزب العمال (P.K.K) و سائر الفصائل الكردية في تركية


*د. اردشير بشنج: في عقد الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي انطلق النشاط المسلح لحزب العمال (P.K.K)في المناطق الكردية في تركية و في جبال إقليم كردستان العراق، و تعرّضت تركية لضغوط كبيرة بسبب وطأة القتال و الاشتباكات المسلحة و القضايا التي كانت جارية آنذاك،و في أواخر سنوات القرن العشرين قرّر رئيس تركية آنذاك توركوت أوزال عقد محادثات مع الأكراد، فقدّم تنازلات و أعلن عن استعداده لتذليل العقبات في طريق المحاثات و إنهاء الحرب و إعلان وقف لإطلاق النار
ربما كان للصراع المسلح في تلك الظروف التاريخية و السياسية الخاصة في العالم تأثير على المنطقة و تركية، و استطاع أن يحقّق نتائج بعضها قصير الأمد و البعض الآخر طويل الأمد،و لكن في القرن الحادي و العشرين و في ظلّ الظروف الراهنة، نستطيع القول بأنّ الصراع المسلح قد فقد تأثيره إلى حد كبير، لا أقول فقد تأثيره نهائياً، و لكن لم‌يعد له التأثير السابق،فنحن اليوم نعيش ظروفاً أصبح تغيير المعادلات السياسية و الاجتماعية لأكراد تركية يعتمد على النتائج التي تخرج من صندوق الاقتراع. و في الوقت الحاضر صارت آلية الانتخابات و النشاطات البرلمانية و الحزبية في تركية أهم و أكثر تأثيراً من النشاطات المسلحة،و لذلك نجد حزب الشعوب الديمقراطي و هو أهم حزب أو تيار سياسي كردي على الساحة الفعلية التركية قد انخرط في هذا المسار.
من القضايا المهمة ذات الصلة بأكراد تركية هي طبيعة علاقات تركية بحزب العمال(P.K.K). تعلمون أنّه في عام 2013 م بدأت محادثات السلام بين تركية و حزب العمال(P.K.K) بشكل جاد،و سكتت فوهات البنادق لمدّة لا بأس بها. و لكن طرأت بعض الأمور التي غيّرت تلك الظروف،للأسف،و تم استئناف القتال من جديد. ربما لأنّ زعماء حزب العمال(P.K.K) لم‌يتوفروا على الاستعداد اللازم،و في نفس الوقت لم‌تكن الحكومة التركية تمتلك الإرادة الكافية لإنهاء الحرب و الصراع، و لم‌تستطع التعاطي مع المطاليب الكردية في سياق قانوني، و ربما أيضاً كانت هناك أيادي عالمية و إقليمية وراء عرقلة المحادثات و توقّفها. و على أيّ حال، فالتوتر و الصراع محتدم في الوقت الحاضر بين الحكومة التركية و زعماء حزب العمال (P.K.K). و مع ذلك،يحظى موضوع الانتخابات و المنافسات البرلمانية بأهمية خاصة بالنسبة لأكراد تركية،و لا شكّ في أنّ تحريك مطاليبهم و متابعتها عن هذا الطريق يتمّ بشكل أكثر جدية. و ثمة ملاحظة أخرى سوسيولوجية و إحصائية مهمة يمكن أن تترك تأثيرها على أوضاع الأكراد في تركية و هي أنّ الكثير من المحللين السياسيين و الاجتماعيين الأتراك يعتقدون أنّ بعض الشخصيات و الزعماء القوميين الأتراك البارزين تنتابهم مشاعر القلق و الخشية بسبب معدل الولادات العالية في أوساط العوائل الكردية في المناطق الكردية و في المدن الكبرى التركية قياساً إلى معدلاتها لدى العوائل التركية و لذلك يعتقدون أنّ استمرار الوضع الإحصائي على هذا المنوال سيؤدي إلى حدوث تغييرات ديموغرافية لصالح أكراد تركية، و لهذا السبب فإنّ موضوع حجم السكان من بين النقاط التي تثير هواجس الحكومة التركية إزاء الأكراد. و ربّما يؤدّي استمرار الوضع على ما هو عليه إلى حدوث تغييرات ديموغرافية أكبر بالنسبة لحجم السكان الأتراك و الأكراد في الفترة بين عام 2035 و  2050م.
لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة واضحة و هي،إنّ حزب العمال (P.K.K) في السنوات الأخيرة استطاع التأثير ليس فقط على أكراد تركية بل على التحولات الكردية في شمال سورية أيضاً،و هي أكثر ما كان يقلق تركية. لقد رأيتم كيف استطاع حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 2014 م الحصول على 80 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان. و كانت لهذا النصر رسالة واضحة لأردوغان بأنّ الدمقرطة و مسيرة التنمية السياسية على أساس الاهتمام بالمطاليب الكردية سيكون ثمنها ابتعاد شريحة مهمة من الأكراد الإسلاميين عن الحزب الحاكم و التصويت للتيارات الكردية. و لكن لم‌يستطع  الأكراد، للأسف، استثمار هذه الفرصة التاريخية بالشكل الصحيح. فقد ساهمت قرارات حزب العمال(P.K.K) من ناحية،و بعض المواقف و التصريحات المتصلبة و الساذجة لزعيم حزب الشعوب الديمقراطي آنذاك من ناحية ثانية،في ابتعاد الأكراد عن الحكومة، لتبقى المشاكل على حالها دون تغيير. هذه الأمور بمجموعها أثارت عند أردوغان الهواجس و القلق،فاندلعت الحرب مرة أخرى. و في اعتقادي إنّ هذه الأوضاع لن تدوم، و من‌يدري لعل تركية تسبق الآخرين و تكون أول بلد في المنطقة يحل مشاكل الأكراد. إنّ إمكانات النظام السياسي و الديمقراطية في تركية هي على نحوٍ بحيث تتيح للأكراد مجالاً أرحب و قدرة أكبر على ممارسة النشاط السياسي،و الدليل على هذا الكلام أنّ صلاح الدين دميرتاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي المسجون بتهمة دعمه للإرهاب، رشّح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2018 م من داخل سجنه، و نال أكثر بقليل من 8 في المأئة من آراء الشعب التركي. 
و لما كان النظام القانوني و السياسي في تركية يتيح للأكراد فرصاً جيدة في مجال حقوق المواطنة،كما أنّه في ضوء اضطرار تركية اتباع معايير حقوق الإنسان و حقوق المواطنة في الاتحاد الأوروبي و لو نسبياً، فإنّ بمقدور الأكراد على المدى المتوسط أن يحلّوا مشاكلهم في سياق النشاط السياسي و القانوني. 


*د. صلاح الدين خديو: بصورة عامة، لقد توفّرت للأكراد في تركية في القرن الحادي و العشرين مجالات و فرص أكبر من أجل أن يواصلوا المطالبة بحقوقهم و بلوغ أهدافهم. و من بين الدلائل على ذلك أنّ تركية تسير في طريق التنمية السياسية و الاقتصادية في أبعاد وطنية واسعة، ممّا يتيح للمشكلة الكردية أن‌تستقطب اهتماماً أكبر باعتبارها إحدى القضايا و المعضلات المستمرة التي تعاني منها تركية،و هذا العامل كان وراء حل بعض المشكلات العالقة. لقد غادرت تركية الثقافة السياسية الاستبدادية و العسكرية و ثقافة الانقلابات إلى حدّ بعيد، و استطاع الأكراد أن يؤكّدوا على هويتهم و مطاليبهم القومية في هذا البلد بشكل أكبر.
و من ناحية أخرى،أصبح حزب العمال (P.K.K) يشكّل عاملاً مهماً في تركية،و استطاع أن يؤسّس حزباً سياسياً مهماً هو حزب الشعوب الديمقراطي الذي حصل على آراء الناس في معظم المناطق الكردية بتركية،و تمكّن عدّة مرات حتى الآن من اجتياز عقدة حدّ النصاب أي الحصول على الأقل على نسبة 10 في المأئة من الأصوات التركية،كما نجح في إثبات قدرته و نجاحه في التنظيم الشعبي و الحزبي. 
شهدت تركية في العقدين الأخيرين تقدماً هائلاً على الصعيد الاقتصادي، و يمكن القول بأنّها على الصعيد السياسي أيضاً تتمتّع حالياً بظروف ديمقراطية متماسكة نسبياً. و في الوقت الراهن هناك مفاوضات جارية بين حزب العدالة و التنمية أي الحزب الحاكم و حزب الشعوب الديمقراطي، و في نفس فهو، أي حزب العدالة والتنمية، يعتبر منافساً للأكراد في ميدان المنافسات الانتخابية، حيث يصوّت بعض الأكراد المحافظين له. 
من وجهة نظري، إنّ تركية ليست لقمة سائغة للتقسيم. هناك تباينات جوهرية عميقة تميّزها عن سورية و العراق، فبالإضافة لكونها دولة مقتدرة و قوية على الصعيد الاستخباراتي و الأمني و العسكري، فإنّ المحافظة على أمنها و استقرارها بالنسبة لبلدان حلف الناتو و العالم الغربي أمرٌ مهم جداً. تشير هذه الدلائل بمجموعها إلى ازدياد حظوظ الحل السياسي للمشاكل الكردية في تركية،و أنّهم يسيرون في الاتجاه الذي سينتهي بهم بشكل سلس إلى تحقيق مطاليبهم السياسية و القانونية و الثقافية. 
في عام 2013 م أتاحت محادثات السلام بين تركية و حزب العمال (P.K.K) فرصة مناسبة لحل المشاكل العالقة عبر الحوار و التفاوض. صحيح أنّ رجب طيب أردوغان من خلال خطاباته و أهدافه السياسية المعلنة يتصرّف كزعيم يولي التاريخ العثماني و نهج العثمنة الجديد أهمية كبيرة، لكنّه مع  ذلك يختلف جوهرياً عن زعماء الكمالية السابقين في تركية (الذين لم‌يكونوا مستعدين للاعتراف بالوجود الكردي في تركية). فقد أعلن أردوغان مراراً أنّ الأكراد جزء من تركية، و في المقابل، ارتكب الأكراد عدداً من الأخطاء التكتيكية و الاستراتيجية أثناء محادثات السلام في تلك الفترة. منها مثلاً الهجمات التي شنّها حزب العمال(P.K.K) و قتله عدداً من عناصر الشرطة، و اندلاع الاضطرابات على أثر ذلك، و على الرغم من فوزه بعدد كبير من مقاعد البرلمان إلّا أنّه لم‌يكن مستعداً للتقارب مع الحكومة. 
عندما نتناول موضوع المحادثات التي جرت في عام 2013 م بين الحكومة التركية و حزب العمال (P.K.K)،يجب أن نضع في بالنا أنّ أزمة الشمال السوري و الأكراد في سورية في تلك المرحلة السياسية و التاريخية الخاصة استحوذت على اهتمام حزب العمال (P.K.K). فإذا كان قبل ذلك يعيش ظروفاً خاصة و لم‌يكن أمامه ميداناً للمناورة، فبعد بروز الأزمة في شمال سورية، أصبح أمامه ميداناً واسعاً يسمح له بالمناورة السياسية و قد انعكست تأثيرات هذا الدور على مسألة الأكراد في تركية. 
في الوقت الحاضر يمكن أن نلمس عمق التواشج بين مشاكل الأكراد في تركية و سورية. و قد سارت الأوضاع على نحوٍ صوّرت لزعماء حزب العمال (P.K.K) في جبال قنديل، أنّ المحافظة على نفوذهم في المناطق الكردية في الشمال السوري و توسيعه أهم من التوجّه صوب أردوغان و التفاوض معه. ربما علينا أن نصبر قليلاً لنر كيف سيكون حكم التاريخ في هذه المسألة. هل كان عليهم أن يرجّحوا مسألة التفاوض مع حكومة أرودغان؟ أم إنّ قضية أكراد سورية كانت أهم بالنسبة لهم؟ من ناحية ثانية، و كما أشار إلى ذلك الأخ أردشير، لقد توصّل أردوغان إلى نتيجة مفادها أنّ الاهتمام الزائد بالقضية الكردية و التفاوض مع الأكراد سوف يؤدي بشريحة كبيرة من الأكراد ذوي التوجهات المحافظة و الإسلامية إلى التخلّي عن الحكومة و التصويت للتيارات الكردية المعارضة، ممّا سيضعف قواعد الحزب الحاكم و أركانها. و الحقيقة إنّ كل من الطرفين ارتكب أخطاء خطيرة،بالنسبة لأردوغان فقد عمل وفق حسابات خاطئة و قرارات خاطئة فيما يتعلق بمصير الملف السوري و الأزمة السورية، أما خطأ حزب العمال (P.K.K)فكان في عدم اختيار الاستراتيجية المناسبة و سيره وراء خيار نقل تجارب الحرب في الشمال السوري إلى داخل تركية، و بالتالي اتّخذ قرارات خاطئة بناءً على هذه الرؤية الخاطئة. و هذا يفسّر الانسداد الحاصل اليوم في علاقات الأكراد مع الحكومة المركزية في أنقرة، و هذه القضايا متشابكة و متواشجة إلى حدّ بعيد، و إنّ فك هذه العقد المتشابكة بحسب اعتقادي أو العبور من الانسداد الراهن له علاقة جوهرية بالمشكلة السورية، أي، بالمقدار الذي يحصل انفراج في مشكلة الأكراد في سورية و نفوذ حزب العمال (P.K.K) في شمال سورية و تصل الأمور إلى خواتيمها المرجوة بأسرع وقت، سوف تنعكس نتائج ذلك بنفس المقدار على أوضاع الأكراد في تركية و المحادثات مع الحكومة التركية. على الأكراد أن يأخذوا في الاعتبار الهواجس الأمنية لتركية و يجسروا الثقة و يبذلوا الجهود لإعادة الحكومة إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى. على أيّ حال، إنّ توازن القوة بين تركية و حزب العمال (P.K.K) يبيّن أن حزب العمال لااستطاع أن يعمل كنمور التاميل في سريلانكا،و لا تركية استطاعت أن تحتل جبال قنديل و تقضي بشكل تام على حزب العمال (P.K.K)،و عليه،ينبغي للطرفين فتح باب الحوار و المفاوضات من جديد.


*د. اسكندر مرادي:أولاً أجد لزاماً أن أشير إلى نقطة و هي، إنّ تركية تمتلك موقعاً جيوسياسياً غاية في الأهمية، و من الناحية التاريخية اكتسبت أهمية خاصة بالنسبة للمعسكرين الشرقي و الغربي بعد عام 1945م و بداية المرحلة المعروفة بالحرب الباردة،و لذلك كان موضوع ضمان أمن تركية و استقرارها أمراً مهماً بالنسبة للاتحاد الأوروبي. في السنوات الأخيرة و في غمرة الحديث عن محاربة داعش و الملف السوري و النازحين،رأينا الأهمية الاستثنائية التي أولتها أوروبا لأمن تركية. و انطلاقاً ممّا ذكرت يجب أن لا نغفل حقيقة أنّ تركية عبارة عن قوة عسكرية مهمة في المنطقة،و تتمتّع بموقع جغرافي خاص و استثنائي. و قد استطاع العلمانيون و الإسلاميون على السواء توظيف المزايا الجيوسياسية لبلادهم على أكمل وجه في السياسة الخارجية على الصعيدين الإقليمي و الدولي. أما بالحديث عن أوضاع الأكراد في تركية فأقول أنّه في عقدي السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي لم‌يكن أحد من المسؤولين و السياسيين في تركية يعترف بوجود مشكلة اسمها المشكلة التركية. أما الآن في القرن الحادي و العشرين، فالحكومة التركية صارت تعترف بوجود هذه المشكلة في البلاد. و علينا القبول أيضاً بحصول تحولات مهمة و إيجابية في المجتمع الكردي في تركية أدّت بدورها إلى زيادة وعي الأكراد. في تركية اليوم توجد أعداد كبيرة من شبكات التلفزة و المطبوعات و مؤسسات المجتمع المدني الكردي تنشط بشكل جاد و محترف، و لا يمكن مقارنة هذه الحالة بالأوضاع التي كانت سائدة في الماضي. بل يمكن القول بوجود توافق و تماسك أكبر في المجتمع الكردي في تركيا بالمقارنة بالمجتمع الكردي في إقليم كردستان العراق. إذا أردنا أن نطرح تقييماً كلياً آخذين بالاعتبار الأبعاد المهمة في القوة العسكرية و الجيوسياسية لتركية فسنقول بكل ثقة أنّه لا يوجد احتمال جدي بتقسيم تركية و لا حتى بعد خمسة عقود قادمة. و أنا أشاطر زميليّ الأستاذين كاكا أردشير و  كاكا صلاح الدين بأنّ مشاكل الأكراد في تركية،لها حلول سياسية و قانونية، و لا يمكن للكفاح المسلح بأيّ حال أن يوصلهم إلى نتيجة. فاستمرار أكراد تركية في كفاحهم المسلح لن يضرّ بهم فقط و إنّما سوف يكتوي بناره أكراد سورية و إقليم كردستان العراق، لذا لابدّ لهم من إلقاء السلاح، فالنظام السياسي و الآليات الانتخابية و الحزبية في تركية تتيح للأكراد مجالاً أرحب و قدرة أكبر لتنظيم أنفسهم حزبياً و الفوز في الانتخابات. و الأوضاع في تركية شهدت تحوّلاً سياسياً جوهرياً في رؤية الحكومة التركية لدرجة جعلت أردوغان يقول: الأكراد إخوتنا و لكن حزب العمال (P.K.K)ليس منهم. 
و في نفس السياق، تنطوي عضوية تركية في الاتحاد الأوروبي أيضاًً على أهمية خاصة، ذلك أنّ أهم مانع في هذا المسير، أي مسير انضمامها للاتحاد هو عدم حل مشكلة الأكراد في البلاد، و الشواهد تشير إلى أنّ الحكومة التركية تسعى إلى حلّها في إطار النضال السياسي و البرلماني. و إذا ما نجحت تركية في مسعاها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و أزالت الموانع التي تعترض هذا الطريق، فإنّ عشرين مليون كردي في الشرق الأوسط سوف يصبحون أعضاء في الاتحاد الأوروبي، و هو بلا شك تحوّل مهم. 


فصلية طهران:كيف ترون أوضاع الأكراد في سورية، و كيف ستكون في المستقبل في ضوء التحولات القادمة في سورية؟


صلاح الدين خديو: يرتبط جوهر المشاكل الكردية في الشرق الأوسط بصورة مباشرة بالحدود التي رسمتها سايكس بيكو و مسيرة الأحداث التي أعقبتها. فكلما طرأ على طبيعة حدود سايكس بيكو مشكلة و أصبحت قضايا الدول المنخرطة في هذه المعاهدة موضع نقاش،يتم طرح المشكلة الكردية تلقائياً مرة أخرى. كما حصل في العراق،و يحصل الآن في سورية. فعندما اندلعت الأزمة السورية استقطبت مشكلة الأكراد في سورية الاهتمام بصورة جدية. لقد توفّرت لأكراد سورية فرصة طويلة نسبياً استطاعوا خلالها أن يشكّلوا إدارة ذاتية خاصة في مناطقهم و ذلك بسبب مسألة توازن القوى بين بشار الأسد و معارضيه، و عدم تمكّن أيّ منهما في إلحاق الهزيمة بالآخر، فسيطروا على جميع مرافق الدولة للحفاظ على هذه الإدارة. أمّا الآن و الحرب تشارف على نهايتها يتبادر إلى أذهاننا سؤال: ما هي الآفاق المستقبلية لأوضاع الأكراد في المنطقة. لقد استطاعوا خلال الأزمة السورية أن يسيطروا على 25 إلى 30 في المأئة من أراضي البلاد. و وفق أيّ صيغة سوف تدار هذه المناطق في المرحلة الجديدة مرحلة ما بعد الحرب و ما بعد داعش؟ هذه أسئلة مهمة مطروحة حول دور الأكراد في سورية، و على الأرجح ما من محلّل لديه في الوقت الحاضر إجابات قاطعة بشأنها. أعتقد إنّ السياسات التي ستتبعها الولايات المتحدة في هذا البلد هي من العوامل المهمة التي ستحدّد دور الأكراد في سورية. هل إنّ ترامب سوف ينسحب حقّاً، كما يقول، من هذا البلد و يترك ميدان المنافسة لروسية و إيران و الآخرين؟ أم إنّه سيحافظ على تواجد محدود للولايات المتحدة في سورية بشكل آخر و ضمن مسار تنازلي؟
الحق يقال إنّه في السنوات الماضية من عمر الأزمة السورية وقف الأكراد أكثر من أيّ تيار آخر إلى جانب الولايات المتحدة،و تعاونوا معها. و في الوقت الحاضر هناك محاولات روسية لدفعهم باتجاه الحكومة السورية و التقريب بينهما. كما تشي تصريحات المسؤولين في الجمهورية الإسلامية في إيران بوجود رغبة إيرانية بعقد محادثات بين الأكراد و الحكومة السورية، لتعود مناطق شمال سورية مرة أخرى إلى حضن الدولة، مع استحداث صيغة لإدارة ذاتية و نظام لامركزي محدود في سورية، و منح الأكراد منطقة نسبية و محدودة. و لكن ثمّة مسألة مهمة و دقيقة أخرى زادت من تعقيد و تشابك أبعاد الملف السوري تتعلق بالتوتر و الصراع بين إيران و إسرائيل. فمصير هذا التوتر و مقاربة إيران لسورية و حزب الله سوف تترك تأثيرها على أوضاع الأكراد في سورية. كما أنّ أوضاع الأكراد في سورية لها تأثير على قرارات و سياسات اللاعبين في هذا الميدان. لقد رأينا التقارب التركي خلال محادثات آستانه من إيران و روسية بعد الانقلاب الفاشل، و يقال إنّ المملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة تقومان بتأمين جزء من نفقات الأكراد في شمال سورية. كل ذلك يشير إلى أنّ سياسات و قرارات لاعبين كثيرين تنعكس على أوضاع الأكراد في سورية. 
اسمحوا لي أن أذكّر بنقطة ألا و هي زيارة الرئيس بشار الأسد لطهران فقد كانت حدثاً مهماً أظهر طبيعة التحولات السياسية الجديدة التي ستقع في سورية على المدى القصير. على الرغم من الوتيرة المتسارعة للتحولات السياسية في سورية، و لكن بنظرة عامة يتبيّن لنا من خلال الشواهد الراهنة بأنّ التعاطي مع بشار الأسد أصبح مهماً بالنسبة للجميع،و الكل ينصح الأكراد بالبقاء مع بشار. و كيف كان، و مهما كانت التحولات، فإنّ أوضاع الأكراد في سورية لن تعود إلى أوضاع ما قبل الأزمة السورية، فقد تغيّر دورهم بالتأكيد. أما إذا سار سيناريو التحولات السورية باتجاه يقتضي تنحية بشار الأسد، و بقاء الجزء الأهم من الجيش و التركيبة الأمنية البعثية على رأس السلطة في سورية، فمن المرجح أن ينتج عن ذلك صيغة سياسية جديدة و محدودة للأكراد، و لكن طبعاً لن تكون بحجم إقليم كردستان العراق و ثرائه و أهميته. 


*د. اردشير بشنج: بعد الفرصة التي أتيحت لأكراد سورية في عام 2011 م بإمكاننا أن نقول إنّهم استطاعوا توظيف جميع قدراتهم و إمكاناتهم، و نزلوا بكل ثقلهم إلى ساحة التحولات السياسية في البلاد. لقد نظّموا أنفسهم بشكل جدّي ضمن أحزاب سياسية و عسكرية و تنفيذية، و فعلوا كل ما بوسعهم، إذ لربما لن تتاح لهم هذه الدائرة الواسعة من الخيارات في المراحل اللاحقة، فتتجه مسيرة الأحداث في سورية في طريق تحقيق رغبات و أهداف القوى الدولية و الإقليمية.  
و في هذه الأيام تدور نقاشات كثيرة حول قضية كتابة الدستور السوري. و من غير المعروف ماذا سيكون عليه النظام السياسي القادم في سورية، هل سيبقى النظام السياسي و التنفيذي الحالي؟ أم سيكون هناك نظام إداري فدرالي لامركزي؟ كل هذه قضايا سوف تؤثّر بالتأكيد على أوضاع الأكراد في سورية.
لذلك أنا أيضاً أعتقد أنّه في كلّ الأحوال، لن تعود أوضاع الأكراد في النظام القادم في سورية إلى ما كانت عليه قبل أزمة عام 2011م بل ستكون أوضاعهم أفضل من قبل.


*د. اسكندر مرادي: برأيي أنّ البلدان و القوى المختلفة انخرطت في التحولات السورية وفق مبدأ البراغماتية أو الواقعية السياسية، و يشمل ذلك الولايات المتحدة و روسية، و كذلك تركية و الجمهورية الإسلامية الإيرانية. و هذا لا يعني أن نساوي بين كل تلك الممارسات و نشرعنها. ذلك أنّ مبدأ التنافس و المصالح هو الذي دفع بتلك الدول إلى هذا الميدان. و من يدري، ربما لو كان الكماليون على رأس السلطة في تركية لانخرطوا أيضاً في الأحداث السورية بهذا الشكل و وفقاً لمبدأ الواقعية السياسية،و لأظهروا حساسية بنفس هذه الطريقة إزاء تغوّل الأكراد. 
لقد صبّت التحولات السورية منذ بداية الأزمة و حتى المحطة الراهنة في صالح الأكراد. فحتى الأمس القريب لم‌يكن الكثير يعرف ما هو دور الأكراد في سورية، و ما هو موقعهم. فغالباً ما كان النظام السياسي و الفكري و الجامعي في سورية في الماضي ينعت الأكراد بصفات مثل مهاجر و غريب. و لكن في الوقت الحاضر حتى بشار الأسد بوصفه أعلى مسؤول تنفيذي في سورية صار يعترف رسمياً بالوجود الكردي، و العالم أيضاً شاهد على قدرات الأكراد في سورية. من هنا أعتقد جازماً بأنّ أوضاع الأكراد في النظام القادم في سورية سيكون أفضل، و لن تعود إلى ما قبل اندلاع الأزمة في عام 2011 م. بالإضافة إلى الحكومة السورية، فإنّ تركية أيضاً صارت تعترف بالوجود الكردي في سورية، و أنّه لا بدّ من تلبية مطاليبهم. 
في حال بقاء الرئيس بشار الأسد و النظام السياسي الحالي في سورية على رأس السلطة، فلابدّ من إجراء تعديلات على الدستور، و إذا استلمت السلطة جهة أخرى فالأكراد تنتظرهم تغييرات إيجابية قادمة. 


فصلية طهران: كيف ترون نظرة الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي إزاء دور الأكراد في الشرق الأوسط؟


*د. اردشير بشنج: في السنوات الأخيرة تحوّلت القضية الكردية إلى موضوع إعلامي و سياسي متداول في البلدان الأوروبية و كذلك في الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال،تداولت نشرات الأخبار التلفزية و المراكز الثقافية و الدراساتية في الغرب اسم القضية الكردية و الأكراد بشكل متكرر. كما ذكر رؤساء الولايات المتحدة في خطاباتهم موضوع الأكراد كثيراً على مدى السنوات الماضية، حتى أصبح اسم الأكراد موضوع مكرّر في المواقف السياسية لهؤلاء الرؤساء و المسؤولين الأمريكان و مسؤولي دول الاتحاد الأوروبي، كما اعتادت وسائل الإعلام الأمريكية و الأوروبية كثيراً على كتابة التحليلات في هذا الخصوص. فالأخبار إذاً أصبحت تتداول كثيرا اسم الأكراد و القضية الكردية. و هذه شواهد و أدلة تؤكّد على أنّ القضية الكردية أصبحت موضع اهتمام في الأدبيات السياسية و وسائل الإعلام العالمية بصورة مستمرة. بيد أنّ الحقيقة هي أنّ الولايات المتحدة مهما بالغت في الدفاع عن الديمقراطية و حقوق الإنسان على صعيد السياسة الخارجية  تظلّ تطبّق مبدأ البراغماتية الواقعية و لا تحيد عن تحقيق مصالحها. فإذا كنّا نلاحظ اليوم اهتماماً أمريكياً أكبر إزاء القضية الكردية، فهذا يعود إلى تشابك جذور هذه القضية مع مصالح الولايات المتحدة و حلفائها،فأنتم تعلمون أنّه بعد ظهور تنظيم داعش و الهجمات الإرهابية التكفيرية على العراق و سورية، كان الأكراد من بين القوات التي قاتلت الدواعش أشرس قتال، و هذا بالطبع له أهمية كبرى في ضمان أمن بلدان الاتحاد الأوروبي بوصفهم أهم حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً و أنّ الأخيرة في ظروف ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صارت لديها مخاوف و هواجس كثيرة، فآثرت أن تولي اهتماماً أكبر للأكراد في ضوء التحولات التي وقعت في العراق و سورية في السنوات الأخيرة. و الآن، بعد زوال خطر داعش، انحسر قليلاً تبعاً لذلك اهتمام الولايات المتحدة بهم، و من نفس الزاوية أيضاً يجب النظر إلى مسألة انسحابها من سورية. ملاحظة مهمة أخرى تسلّط الضوء على السياسات الأمريكية إزاء الأكراد هي العودة إلى مقولة مشهورة لهنري كيسنجر من أنّ اللاعب السياسي يجب أن يشكّل خطراً جدياً على الولايات المتحدة أو أن يضمن أو يؤمّن مصلحة كبرى للحكومة الأمريكية حتى توليه الأخيرة أهمية خاصة. و في الظروف الراهنة لا يمثّل الأكراد أيّاً من هذين الشرطين. بالنتيجة تظلّ الولايات المتحدة الحارس لحدود سايكس بيكو و الأوضاع الحالية، و قد رأيتم ماذا كان موقفها من قضية الاستفتاء في إقليم كردستان. 
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي فأقول إنّ أهم مساعدة يمكن أن يقدّمها للأكراد تتعلق بمسألة انضمام تركية للاتحاد المذكور و التي لطالما عبّرت أوروبا عن رأيها في هذا الموضوع. في ظنّي أنّ الجزء الأعظم من معارضة الاتحاد الأوروبي لانضمام تركية للاتحاد يعود إلى عدم مراعاة تركية لحقوق الأقليات مثل الأكراد، ليس بالضرورة حبّاً بالأكراد، و إنّما الاتحاد الأوروبي يبحث عن ذريعة لممارسة الضغوط على تركية، و لم‌يجد ذريعة أفضل من القضية الكردية. و بالنسبة لسورية فالاتحاد الأوروبي يشعر بحساسية مفرطة إزاء قضية المهاجرين، و عندما تدفق المهاجرون من سورية على تركية،و انتقلوا بعد ذلك إلى أوروبا شعر زعماء أوروبا بالقلق.


*د. صلاح الدين خديو: لا أظنّ أن الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي يملكان استراتيجية أو سياسية مدوّنة و مدروسة إزاء المشاكل الكردية في الشرق الأوسط. و لا أبالغ إذا قلت بأنّ جزءاً من المشاكل التي يعانيها الأكراد هي نتيجة مباشرة لتدخلات الولايات المتحدة في المنطقة. و في هذا السياق، فإنّ أوروبا ليست لاعباً حقيقياً، بل تابع للولايات المتحدة في أغلب الأحيان. و تتلخص سياسة الولايات المتحدة و الغرب بصفة عامة في حراسة حدود سايكس بيكو، و ضمان عدم حدوث تغييرات خاصة عليها. فهم لا يحبذون تغيير الحدود ليس في هذه المنطقة فحسب بل في كل مناطق العالم، و عدا موضوع أريتريا و السودان في أفريقيا،لم‌يطرأ تغيير كبير آخر حظي بتأييد و دعم الولايات المتحدة و أوروبا. 
بعد حوادث عام 2017 م و موضوع إجراء الاستفتاء لم‌تنفك الولايات المتحدة تتحدث عن عراق متحد و كردستان فدرالية، و برهنت أنّها لا ترغب في انفصال الأكراد عن العراق. و نفس المقاربة تتبعها الولايات المتحدة بالنسبة للصين و تايوان، إذ ليس بمستبعد أن تقتبس في المستقبل نموذج العلاقة بين الصين و تايوان و تطبقه على إقليم كردستان. فهي تبحث عن التوازن، و في نفس الوقت تستخدم ورقة المشكلة الكردية و لا ترغب في حدوث تغيير في الحدود.


*د. اسكندر مرادي:يخيّل إليّ أنّ الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي لا يملكان مقاربة أو استراتيجية واضحة و معاصرة لمشاكل الأكراد، و إنّما ينظران إليها في إطار نظرة أعم إزاء بلدان الشرق الأوسط. فلا توجد خطة خاصة مدوّنة حول الأكراد. فقد وضع هؤلاء لأنفسهم أهدافاً و رؤية خاصة لبلدان المنطقة، و بالتالي فهم يتّخذون قراراتهم بالنسبة للأكراد في ضوء هذه الرؤية. ترتكز مقاربة أوروبا للشرق الأوسط على محاولة دمقرطة البلدان، و الحؤول دون تعزيز قدرات التيارات الإرهابية، و كذلك ضمان أمن إسرائيل و السعي لترتيب اتفاق سلام بين الفلسطينيين و الإسرائيليين. و هي طبعاً تشبه مقاربة الولايات المتحدة، فلا أحد من هذين اللاعبين يرغب في تعكير صفو الأمن و النظام في هذه المنطقة من العالم. أحياناً يتحدّث زملاؤنا المحلّلون حول فكرة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد على نحوٍ يوحي و كأنّنا بصدد قيام بلدان و حكومات جديدة في المنطقة طبقاً لرغبة الولايات المتحدة و بلدان أوروبا. في حين نحن نعلم بأنّ ذلك بعيد عن الواقع،فهذان الطرفان يحبّذان بقاء الحدود على ما هي عليه. 
و تريد الولايات المتحدة و أوروبا بصورة عامة أن يتمتّع أكراد تركية بحقوق مواطنة متساوية، و أن تصان حقوقهم في العراق في حكومة إقليم كردستان،و أن يُمنحوا حقوقاً ديمقراطياً في سورية بعد إجراء تعديلات على الدستور، و أن يصل أكراد إيران أيضاً إلى الحقوق التي ينشدونها في إطار الحقوق المدنية و القانونية. من وجهة نظري الشخصية،لا تعمل الولايات المتحدة و أوروبا في هذه البلدان الأربعة و في سائر بلدان المنطقة،لا لصالح الأكراد و لا لصالح بقية التيارات،فهم لا يرغبون في تغيير الأنظمة السياسية.


فصلية طهران:هل تجد الآراء النقدية للأحزاب و زعماء التيارات السياسية الكردية آذاناً صاغية؟ هل يوجد في النهج السياسي لزعماء الأحزاب الكردية في المنطقة شيء اسمه "نقد ذاتي"، على الأخص بعد اتّخاذهم القرارات الخاطئة أو ارتكابهم الأخطاء السياسية؟


*د. اردشير بشنج: في الحقيقة، يقوم الفكر النقدي على الدينامية و الإبداع الفكري، و من خلال نقد الوقائع و الظواهر و الجماعات، يضع نفسه تحت مجهر النقد، فيمارس النقد الذاتي. و لاشكّ في أنّ هذه المدرسة الفكرية لها أهمية خاصة في العلوم السياسية و الاجتماعية، و هي بالتأكيد تضع في متناول الإنسانية إنجازات كبرى. 
بكل أسف أقول، أنا شخصياً لم‌أر مثل هذا السلوك، أن يقوم تيار سياسي أو حزب كردي في المنطقة بإخضاع قراراته و إجراءاته لعملية نقد ذاتي جدية و جريئة، و أن يعترف ببعض أخطائه. على سبيل المثال، بعد إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان في عام 2017 م وقع حدث مهم و هو دخول القوات العراقية و فرار قوات البيشمركة من مدينة كركوك، و الذي كان وقعه كالزلزال السياسي. و لكن لم‌نجد أيّ من الأحزاب الكردية أو المستنيرين أو المجتمع، مستعداً لمناقشة هذه المسألة بكل جدية. و نفس الشيء بالنسبة لقضايا أخرى مثل القتال الداخلي بين الأحزاب الكردية و قضايا الفساد المالي و غيرها، فلم‌نجد أي ردّ فعل على هذه الحوادث، و لم‌نر أحداً يناقش أيّاً من هذه القضايا و يحلّلها بصورة جادة. لاحظ مثلاً أنّ كل التيارات السياسية و الحزبية في إقليم كردستان العراق تعترف بوجود سلطتين سياسيتين و إداريتين و تقسيم الجيش و قوات البيشمركة إلى قسمين، و لكن ما من أحد منهم مستعد أن يبحث في أسباب و عوامل هذا الانقسام و خلفياته الفكرية و التاريخية، أو ينطق بشيء أو أن يتحمّل مسؤولية بعض تلك الأخطاء. لهذا السبب نجد أنّ الأحزاب المهيمنة تواصل نهجها على نفس المنوال السابق و المعارضة ما تزال هزيلة ولاحول لها و لا قوة. لقد ظهرت حركة سياسية نقدية مهمة في إقليم كردستان هي حركة تغيير(گوران)، لكنّ رؤيتها النقدية لم‌تكن بالعمق المطلوب، و لذلك لم‌تستمر، و تمّ احتواؤها و تحجيمها ضمن الإطار السابق. طبعاً أنا لا أتوقع أن يتمّ إصلاح هذا الخلل من قبل الأحزاب الكردية وحدها. يجب أن نضع في حسباننا أنّه ليس بالضرورة ممارسة الفكر النقدي و طرح القضايا النظرية في إطار الأحزاب السياسية فقط. في الحقيقة، نحن الأكراد،لا نملك شخصيات أكاديمية و فكرية بارزة تستطيع على صعيد القدرة النظرية طرح رؤية فكرية أصيلة حول المشاكل الكردية مستندة إلى قواعد و مبادئ العلاقات الدولية و الظروف الإقليمية، و عرضها في المحافل الكردية، و كذلك على صعيد المنطقة و العالم. هذه مسألة مهمة للغاية، و برأيي لا ينبغي التقليل من أهميتها. 
الفكر النقدي بالنسبة لنا بمثابة السراج الذي ينير لنا الطريق. بواسطته يمكن أن نحدّد أين نحن بالضبط، كقومية كردية،في التاريخ، و ما هو دورنا في المنطقة، و أيّ سبيل يجب أن نسلك لكي نحقّق أهدافنا السياسية و الاجتماعية و الثقافية. عندما ننظر من هذه الزاوية إلى القضايا الاجتماعية و السياسية و الثقافية، فإنّنا بذلك نوصد الباب أمام إثارة الحساسيات. على سبيل المثال، لدينا مشاكل في محافظة كرمانشاه تخصّ الأكراد السنّة و الشيعة و حصص كل منهما في المناصب التنفيذية في المحافظة، ينبغي تفسيرها و تحليلها بدقة بلغة علمية و رؤية علمية، و أن يفتح الطرفان باب الحوار حول قضايا من هذا النوع ضمن محيط تواصلي يقوم على فكر نقدي و علمي،يسبر أبعاده المختلفة بصورة واضحة، لكي يتم دراسة ماضي هذه القضايا و حاضرها و مستقبلها بإخلاص نابع من مبادئ الالتزام و الشعور بالمسؤولية.
إذا كانت لدينا أهداف و حقوق و مطاليب نعتقد أنّها معطّلة، و نسعى إلى تحقيقها، فعلينا أن نتعلّم أولاً كيف نحقّقها من دون أن نثير قلق أو حساسية الآخرين، و أن نختار الطريق المنطقي و السلمي لحل المشاكل، و نرسم بأدائنا حدود السلام و الاستقرار و الطمأنينة و السياحة، و لانسمح بتوتير أجواء هذه المناطق. 
وإذا كنّا،نحن الأكراد،نعتقد أنّ مشاكلنا في إيران و في المنطقة أكثر و يجب أن تحظى باهتمام و عناية أكبر،فعلينا أن نستعين بفكرنا ثم نقرّر و نعمل بشكل يكون الاستقرار و التنمية المستدامة هدفنا النهائي، و ربما سيلزم أن تكون نظرتنا، نحن الأكراد، إلى القضايا على نحوٍ نضع في حسباننا أنّ المجال أمامنا محدود لارتكاب الأخطاء.


*د. صلاح الدين خديو: في دراساتي و أبحاثي السياسية في السنوات الأخيرة حاولت أن أركّز اهتمامي على الفكر النقدي و أن أنظر قدر المستطاع إلى مختلف الظواهر نظرة نقدية، و لا شكّ إنّني من نفس الزاوية أنظر إلى التحولات السياسية ذات الصلة بالأحزاب الكردية في المنطقة.
في أحيان كثيرة نلاحظ، و للأسف، أنّ الأحزاب و الزعماء السياسيين الأكراد لايتورّعون عن تكرار  الأخطاء السابقة، و تكرار التاريخ. فمن منّا لا يعلم حقيقة الدور المهم و التاريخي الذي لعبه الملامصطفى الالبارزاني في التاريخ الكردي المعاصر و في التحولات السياسية و الاجتماعية و الحزبية الكبرى المتعلقة بإقليم كردستان العراق؟ باعتقادي ليس من الإنصاف تجاهل هذا الدور، و مع ذلك لم‌تنشر حتى اليوم دراسة بحثية راقية و واضحة و موثقة تتناول سيرته و تستعرض آراءه و قراراته و إجراءاته السياسية. لم‌يتناول أيّ باحث و ناقد كردي بصورة علمية و منطقية محايدة الدور التاريخي و السياسي للملا مصطفى. نعم هناك الكثير من الأعمال الصادرة في هذا المجال لكنّها لم‌تخلُ، مع الأسف، من الانحياز له أو عليه، لذا فهناك حاجة لإنجاز عمل موثق و جاد و مفيد عن هذه الشخصية، فهذا نقص كبير و فراغ خطير ينبغي ملؤه. و على الرغم من أنّ أموالاً طائلة أنفقت على هذا الشيء، فإنّ الأحزاب و التيارات السياسية و الزعماء الأكراد يقفون موقف اللامبالاة إزاء مسألة سرد التاريخ و التحليل القائم على الفكر النقدي.


فصلية طهران:ربما يكون الاستثناء في هذا المجال هو المرحوم نوشيروان مصطفى أمين، فكما تعلمون لقد انتقد في مذكراته السياسية بعض رفاقه و منهم مام جلال الطالباني بشكل واضح و صريح.


*د. صلاح الدين خديو: نعم أوافقك الرأي، كان عمله قيّماً، لقد قرأت مذكراته، كان رجل سياسي و استراتيجي ذا فكر نقدي. و لكن حتى نوشيراون عندما يتحدّث عن الملا مصطفى البارزاني، لا يلتزم الحيادية في كلامه، و هذا مفهوم إلى حدّ ما، فقد كان من اللاعبين السياسيين المناهضين للملا مصطفى. 
العودة إلى التاريخ و مراجعة الأدوار التاريخية من زاوية نقدية و استلهام الدروس و العبر أمر ينطوي على أهمية خاصة. فنحن، و للأسف، لم‌نؤرّخ بصورة جدية لمئات الوقائع المهمة و الحوادث السياسية التي شهدتها كردستان إيران في تاريخها الحديث، و التقصير و الإهمال هنا يقع بصورة خاصة على عاتق الأحزاب السياسية الكردية، و حتى إذا تمّ تدوين وثيقة أو توثيق حدث معين في مرحلة ما، فإنّ تلك الوثائق لم‌توضع في متناول الجميع. سأروي لكم حادثة لتوضيح فكرتي. في عام 1978 و قبيل انتصار الثورة الإسلامية عقد أحد الأحزاب الكردية مؤتمراً محدوداً في مدينتي نقده و سنندج على مدى 17 يوماً، و قام الحاضرون بتدوين آرائهم و قراراتهم. غير أنّ تلك الوثيقة ظلّت طيّ الكتمان و لم‌تُنشر إلّا في عام 2015 م أي بعد أن فقدت جزءاً مهماً من وظيفتها البحثية. كباحث كردي،لو كنت اطلعت على هذه الوثيقة قبل عشرين سنة، لاستفدت منها كثيراً بلا أدنى شك. فنحن نرى تدوين مئات الكتب و المقالات حول الحرب العالمية الأولى لتسليط الضوء على مختلف أبعادها على الرغم من مرور قرن على انتهائها،لكنّنا في كردستان لانمتلك وثائق أو كتب مهمة كثيرة عن الوقائع المهمة لتاريخ كردستان الحديث.  
ما لم‌يكن لدينا عقل منظّم مؤرّخ و تاريخي، و ما لم‌نسع إلى توريخ الوقائع، لن يكون بمقدورنا، بكل تأكيد، تقديم تحليل دقيق و واضح للحوادث المستقبلية. لقد هُزم العرب في حرب الأيام الستّة في عام 1967 م مع إسرائيل، و تحوّلت هذه الواقعة لكثير من المستنيرين و الزعماء السياسيين العرب إلى نقطة تحوّل فاصلة و محطة مهمة للدراسة و البحث و مراجعة الذات، و عقدت عشرات المحافل السياسية و الفكرية في العديد من البلدان من الخليج الفارسي حتى المغرب و غيرها من البلدان لدراسة هذه النكسة من مختلف الأبعاد، فهل فعلت أحزاب إقليم كردستان العراق الشيء نفسه بعد إجراء استفتاء الاستقلال و حوادث كركوك؟ هل عقدت ندوة أو مؤتمر لدراسة أبعاد هذه الحوادث و مناقشة الأخطاء و التجارب التي أفرزتها؟ إذا لم‌تتحول هذه القضايا إلى «همّ» بالنسبة للأحزاب و التيارات السياسية الكردية و المثقفين الأكراد، و مرّوا من أمامها مرّ الكرام، فهذا السلوك في حدّ ذاته عبارة عن ضرر كبير و خطيئة تاريخية كبرى. 
أريد أن أشير إلى إشكالية أخرى بالإضافة إلى إشكالية امتناع الأحزاب عن التحليل الصحيح للتاريخ و النقد الذاتي، ألا و هي التأدلج الواضح و الصارخ الذي نلمسه في السلوك السياسي لحزب العمال الكردستاني (P.K.K). فعلى الرغم من أنّني أثني في بعض الأحيان على الكثير من القرارات و الإجراءات البراغماتية للحزب،و لكن يبقى التأدلج بمثابة آفة خطيرة. لقد أصبح الفكر النقدي أكثر حيوية و دينامية من السلوك التقليدي المؤدلج. طبعاً اللائمة هنا لا تقع على الأحزاب الكردية وحدها،و إنّما يتحمّل المثقفون أيضاً جزءاً كبيراً من المسؤولية. في الوقت نفسه تجد مثقفين كثر في كردستان إيران و إقليم كردستان العراق  يتحدثون ليل نهار عن ميشيل فوكو و جاك دريدا و آخرين، و يكرّرون مقولاتهم. و لكن عندما يتعيّن عليهم أن يكيّفوا علمهم و فهمهم مع الظروف الموضوعية و الواقعية للمجتمع الكردي،يجفلون و لايدرون ماذا يفعلون. ما أريد قوله هو إنّنا بحاجة إلى مثقفين يتّسمون بالجرأة و الشجاعة،يتجاوز فهمهم و وعيهم مجردّ فن الترجمة و المطالعة، إلى تكييف النظريات السياسية و الاجتماعية و الثقافية مع ظروف مجتمعاتهم. و عدا ذلك، فإنّ علمهم السياسي لن يختلف كثيراً عن الوعي السياسي للعجائز و الشيوخ البسطاء و الأميين.
د.اسكندر مرادي: لا جدال في أنّ الفكر النقدي مدعاة للتقدم و التنمية في جميع المجتمعات الإنسانية،و أيّ مجتمع أو تيار فكري و سياسي يحيد عن هذا الأسلوب الفكري سيصاب بالجمود و الفشل لا محالة و سيدور في حلقة مفرغة، بما يؤدّي إلى تكرار التجارب المريرة السابقة. و أحد أسباب تكرار بعض الوقائع التاريخية المريرة الابتعاد عن الفكر النقدي و عن النقد الذاتي. من هنا نقول يجب على المجتمع الكردي و التيارات السياسية و الأحزاب الكردية اعتماد أسلوب الفكر النقدي و توظيفه في حلّ مشاكلهم و تحقيق مطاليبهم.
يقول كارل بوبر في هذا الخصوص إنّ الشرط المسبق و الخطوة الأولى التي تتطلبها مسيرة الفكر النقدي هي أن تتأمل في كل ما تعتقد أنّه مهم و مقدس، و تضعه تحت مجهر التفكير، فما ما دمنا نغمض أعيننا عن مختلف الظواهر و الأساليب السياسية، فسنتجرّد من الفكر و النقد، و لن‌نصل إلى الغاية المنشودة. لقد جاء هذا الكلام في كتاب بوبر «المجتمع المفتوح و أعداؤه». أعتقد أنّه لايجوز أن نسمح بتفرّد جهة معينة أو إحدى مكونات السلطة بالمشهد السياسي و الحزبي. فالمجتمع الكردي يتّسم بالتنوّع و التعدّدية، و تبعاً لذلك، يجب أن‌يتحلّى النظام السياسي للأحزاب الكردية أيضاً بهذه الصفات و بأعلى درجة. آن الأوان لأن نبتعد عن الفكر و النهج السياسي الدوغمائي و أن نعترف بأنّ النقد و النقد الذاتي عبارة عن آلية إيجابية و نافعة للوصول بالمجتمع إلى مدارج التنمية و الديمقراطية.


نواصل هذه الحلقة الحوارية في العدد القادم بإذنه تعالى

 


قراءة: 776