فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

الحكومة التركية والمطالب الكردية

أورهان ميرأوغلو
عضو القسم السياسي لحزب العدالة والتنمية ونائب مدير قسم الإعلام في الحزب

ولد أورهان ميرأوغلو، الباحث والمؤلف الكردي عام 1953م في مدينة ميديات التاريخية في محافظة ماردين الكردية في تركيا. نال الشهادة الجامعية من قسم الآداب وعمل لبعض الوقت مدرساً في مدينة ديار بكر، ولكن تم اعتقاله شأنه شأن العديد من العناصر الكردية، والإسلامية، واليسارية والعلوية، بعد انقلاب عام 1980 وتمّ إيداعه السجن لمدة ثماني سنوات. و قد استثمر السيد ميرأوغلو فترة رفع حظر العمل السياسي عنه مابين 1988- 1995م في البحث والتحقيق والكتابة، ومع انقضاء العام 1995م أخذ ميرأوغلو يقترب رويداً رويداً من بعض الهيئات السياسية والفضائية التابعة لحزب العمال الكردستاني (P.K.K.). والتعاون معها لفترة قصيرة ومع إطلالة العام 2000م توسعت الفجوّة وهوة الخلاف بين أفكاره وبين ما يذهب إليه حزب العمال الكردستاني. في بداية عام 2013م، أعلن السيد رجب طيب أردوغان وفي برنامج تلفزيوني مباشربأن الكاتب أورهان ميرأوغلو أصدر كتاباً عن حزب العمال الكردستاني (P.K.K.).تحت عنوان " نحو دفن البنادق أو فلتدفن البنادق" معلناً تأييده لهذه الاستراتيجية وأن الحكومة تمتلك مشروعاً تفاوضياً، وأنها بصدد الحوار مع الكرد. الأمر الذي أعاد مرّة أخرى ميرأوغلو إلى الأعلام وصار اسمه يتردد على الأسماع وتمكن في نهاية المطاف من الانضمام إلى حزب العدالة والتنمية، والدخول إلى أروقة البرلمان التركي ممثلاًلأهالي مدينة ميديات (مسقط رأسه). يقيم حالياً في أنقرة، عضواً في المجلس السياسي لحزب العدالة والتنمية، ونائباً لمدير قسم الإعلام في حزب العدالة والتمنية. يرى السيّد ميرأوغلو أن التقارب بين كل من تركيا وإيران وروسيا كان هو السبب وراء دعم الولايات المتحدة للانقلاب عام 2015م، ويعتقد بأن أمريكا غير مرتاحة للدور الذي تلعبه أنقرة في المعادلات الإقليمية، بل تعارضه. كذلك يرى بعد استعراضه لتاريخ المواجهة الصعب بين الجماعات الكردية وبين الحكومة المركزية منذ تأسيس "الجمهورية التركية"، بأن مطالب الشعب الكردي قد بلغت ذروتها إبّان تصدي حزب العدالة والتنمية للحكم وعند تولي رجب طيب أردوغان للقيادة؛ وذلك لأنه ينظر إلى القضايا الكردية من زاوية تختلف عن ذلك الإطار الذي كانت الكمال أتاتوركية ترصدها من خلاله. 
أجرت فصلية فصلية دراسات السياسة الخارجية لطهران حواراً مفصلاً مع السيد ميرأوغلو أثارت خلاله عدداً مهماً من الأسئلة الجديرة باهتمام المراقبين.


الكلمات الأساسية: تركية،أردوغان،حزب العمال الكردستاني  (P.K.K.). عبدالله أوجلان، حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، صلاح الدين دميرتاش

 

فصلية طهران: وفقاً لتخصصكم في التاريخ الكردي في الساحة التركية، نبدأ حوارنا معكم من هذه الزاوية التاريخية، حيث طرحتم طيلة هذه الفترة الكثير من التحليلات والدراسات عبر وسائل الإعلام التركية حول وضع الأكراد في القرن العشرين، وخاصة في تركيا. فإذا أردنا أن نرصد وضع الأكراد في تركيا في القرن العشرين ونقارنه بما وصل إليه في العقدين الماضيين من القرن الواحد والعشرين، فما الذي سيتم تحقيقه؟ ما هي أهم الملامح التي تشيرون إليها والنتائج التي يمكن الخروج بها؟


* أورهان ميرأوغلو: الحقيقة هي أن القرن العشرين كان يمثل لا للأكراد في تركيا فحسب، بل أيضاً للأكراد في إيران والعراق عصر الهزيمة وضياع وتلاشي الكثير من الأهداف والطموحات الكردية العظيمة والحقوق الشرعية. ففي مطلع القرن العشرين مدّ كل من جميل باشازاده، مصطفى بيك خازرولي والعديد من رجال القبائل والزعماء القبليين والمقاتلين من حملة السلاح والدوائر القريبة منهم ممن كانت لهم مكانة اجتماعية وقومية مرموقة وتأثر اجتماعي وديني في الوسط الاجتماعي، في الحرب التي باتت تعرف بحرب التحرير قبل تأسيس الجمهورية التركية، يدَ المساعدة لمصطفى كمال (أتاتورك)، ووقفوا جنباً إلى جنب معه لتحرير التراب التركي من أيدي الأجانب وطردهم من أرض الآباء والأجداد في تركيا. أنتم تعلمون بأن مصطفى كمال قد عقد مؤتمرين رئيسيين في المناطق الكردية التركية في كل من سيواس و أرض روم، ولقد لعب مؤتمرا سيواس وأرض روم دوراً مهماً في تنظيم الشعب التركي لمحاربة الأجانب وتحرير البلاد والذي تمّ بدعم وإسناد قوي من قبل الأكراد. في تلك البرهة، وعد مصطفى كمال الأكراد ومنّاهم بتحقيق مطالبهم، ففي لقاء له مع رجال القبائل وزعماء الكرد، تعهد وبوضوح بأنه لن‌ينسى دعمهم وحمايتهم له بعد إنتهاء الحرب، ومما قاله مصطفى كمال بدقة هو: نحن لا نسمح بتفتيت وتمزيق التربة العثمانية وتفكيكها، ولكن في الوقت نفسه لا ننسى حقوق ومطالب الإخوة والأخوات الأكراد، ونحن سنلتزم بحقوقهم وحمايتهم ونحن على استعداد لتلبية مطالبهم التي تبقى محفوظة. 
بقي مصطفى كمال وفيّاً لتلك المواثيق والعهود لبضعة أشهر أعقبت تأسيس نظام "جمهورية تركيا" في عام 1924م، والتي أدلى خلالها بتصريحات جيدة وأرسل رسائل مطمئنة للغاية للساسة الأكراد، ولكن ولسوء الحظ تغير كل شيء مع إطلالة العام 1925م حيث أدلى هو ورفاقه الذين كانوا قد قدموا وعوداً بارزة للأكراد بتصريح واضح وحاسم للغاية هو عدم وجود شيء اسمه اللغة الكردية في البلاد، بل لا يوجد هنا قومية كردية متجاهلاً للأسف الأكراد بشكل تام. لقد أصرّ ورفاقه على تركنة الشعب التركي وتذويب جميع القوميات داخل القومية التركية. أدّت هذه التوترات وسياسة الإنكار المتعمّد للهوية الكردية والأصل الإثني إلى نشوب توترات وصراع خطير، وبينما كان النظام الجمهوري التركي يطوي سنيّه الأولى أخذت البنادق تزمجر ونشبت الحرب، وتم سحق المطالب الكردية. بعد قمع التمرد الكردي بقيادة الشيخ سعيد بيران وسيد رضا درسيمي وإحسان نوري باشا ونزوح الأكراد.
 صمت الكرد وتوقفت حركتهم السياسية لفترة طويلة إلى أن تصدى مهدي زانا وطارق ضياء أكينجي لرفع راية المواجهة ومحاولة تحقيق الأهداف والحقوق الكردية تحت التيارات اليسارية والاشتراكية. وبلمحة موجزة يمكن القول بأن أهم نقطة تحول في القضايا الكردية في تركيا حصلت إبّان تصدي حزب العدالة والتنمية وبزعامة رجب طيب أردوغان الذين أخذوا باتوا ينظرون إلى القضية الكردية من زاوية مخالفة للزاوية الكمالية.


فصلية طهران: لماذا أقدم مصطفى كمال على تغيير موقفه تجاه الأكراد؟ بينما كان في خطاباته المبكرة (التي أعقبت إنشاء جمهورية تركيا مباشرة) يؤكد على أن الأتراك والأكراد والعرب والجماعات العرقية الأخرى هم "عناصر إسلامية" تربطهم رابطة الأخوة. لماذا تغير هذا الخطاب في وقت لاحق؟


* أورهان ميرأوغلو: الحقيقة هي أن أيديولوجية القومية الراديكالية كانت موقفا ونهجاً غريباً عن شعبنا ومستورداً لنا من الخارج. وكان مؤسسو الجمهورية التركية خائفين من أنهم إن أذعنوا بوجود قومية غير القومية التركية، فإنه قد يؤدي إلى الانقسام في تركيا. ومن الضروري هنا أن نلتفت إلى قضية مهمة ويجب أن نتذكر بأن تركيا قد فقدت الكثير من أراضي الدولة العثمانية في البلقان والشرق الأوسط، ولم‌يبق في حدودها الفعلية سوى هذه المحافظات الكردية والتركية الحالية في أيدي مؤسسي الجمهورية التركية. ومن هنا، رأت السلطة الأتاتوركية وليدة النشوء أن التمرد الكردي يعتبر مبرراً لقمعها، واستمر حزب الشعب الجمهوري الذي يؤمن بسياسة سلطة الحزب الواحد معتمداً سياسة التنكر لحقوق الأكراد وحرمانهم. وكان الأمر متماثلاً في المعادلات الكردية خارج الحدود التركية أيضاً في القرن العشرين، وكما أسلفت في بداية الحوار، إن الأكراد تعرضوا لنكسة شديدة، بأن دور القوى الخارجية فيها واضح البصمات، ومن أمثلة ذلك البارزة ما شاهدناه من نهاية قضية مهاباد في إيران بسبب الدور المعارض الذي لعبته كل من الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك توقف حركة الملا مصطفى البارزاني في كردستان العراق عقيب "اتفاقية الجزائر" التي أبرمت بين الحكومتين الإيرانية والعراقية. لكن عائلة البارزاني واصلت حركتها وتمكنت في النتيجة وفي اخر منعطفات نضالها في القرن الحادي والعشرين.كما هو الحال لباقي أكراد العراق من استثمار جيد للواقع وللتحولات السياسية التي أعقبت الحرب الكويتية وغزو العراق لها، فكان تشكيل النظام السياسي الفعلي في إقليم كردستان العراق من أهم الإنجازات التي حققها الأكراد طيلة المأئة عام الماضية. بالطبع، حدثت هناك أيضاً بعض الأخطاء الكبيرة وحالات قصور خطيرة، وفي طليعتها عدم اتحاد الحزبين الكبيرين هنا أعني الحزب  الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، بالإضافة إلى تورّط حزب العمال الكردستاني (P.K.K)  في شنغال، وكذلك تشير الأدلة إلى أن بنية العمل في إقليم كردستان لا تُدار بطريقة ترضي المواطن الكردي. وقد صدر لي مؤخراً كتاب من 880 صفحة تحت عنوان "حركة الاستقلال الكردية في القرن الحادي والعشرين" أجبت فيه عن هذه الأسئلة بالتفصيل.


فصلية طهران:  في عام 2013م وعندما كانت محادثات السلام جارية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني  (P.K.K)، ذهب مسعود البارزاني بمعية رجب طيب أردوغان إلى مدينة ديار بكر الكردستانية التركية، وهناك وفي كلمته استخدم أردوغان ولأول مرة مفردة كردستان وهي حالة نادرة في تاريخ الجمهورية التركية السياسي؛ لأن هذا المفهوم يحمل دلالات خاصّة. ولكن بعد هذه المرحلة ورويداً رويداً بدأنا نشهد غياب الفضاء السلمي واختفاء الأجواء السلمية لمفاوضات السلام، وبدأت المدن الكردية تشهد حفر الخنادق والمتاريس، ودخل حزب العمال الكردستاني  (P.K.K) مرّة أخرى في حرب ضد الحكومة، وتم تبادل اتهامات متبادلة بين قادة حزب العمال الكردستاني وتركيا حيث اتهموها بالمماطلة وإهدار الوقت، فيما رأينا الحكومة تتهمهم بعدم الانصياع لها والتبعية لأوامر عبد الله أوجلان. كيف تقيمون تلك الفترة الحساسة؟


* أورهان ميراغلو: في ذلك الوقت ادعى قادة حزب العمال الكردستاني (P.K.K) أن الحكومة لم‌تتخذ أي خطوات فاعلة لحل المشكلة الكردية خلال محادثات السلام. لكنني أعتقد أن هذا الكلام غير صحيح ويجب ألا نتنكر للإجراءات التي قامت بها الحكومة، فعلى سبيل المثال سمحت الحكومة باختيارية تدريس اللغة الكردية في مدارس المناطق الكردية، وكان هذا عملاً قيماً ومفيداً، لكن الملفت هنا أن مئات الآلاف من الطلاب لم‌يلتحقوا بمقاعد الدراسة باللغة الكردية في ديار بكر الكردية، تأملوا جيداً!!!
علماً، إنه ليس من السهل أن نتوقع حصول قفزة كبيرة وتحول جذري في تركيا وأن تصبح اللغة الكردية بين عشيّة وضحاها اللغة الرسمية الثانية في البلاد، وإنما يجب التأني والسير نحو الإصلاح بخطوات متتالية ومتأنية. قامت حكومة حزب التنمية والعدالة بمسؤوليتها وضمنت تدريس اللغة الكردية في النظام التعليمي في البلاد، إلا أن حزبا "العمال الكردستاني والشعب الديمقراطي" عارضا ذلك وطلبا من الناس أن لا يرسلوا أطفالهم لمقاعد دراسة اللغة الكردية في المدارس الحكومية. أتذكر أن "ألتان ثان" النائب السابق عن حزب الشعب الديمقراطي في البرلمان التركي شجع هذه الخطوة واستحسن موقف الحكومة التركية في هذا الاتجاه، ولكنّ مندوبين آخرين عارضوا ذلك. وقد ذهبت أنا شخصياً آنذاك إلى مدينة "درسيم" وفي السنة الأولى من إدراج اللغة الكردية في المناهج الدراسية فوجدت عدداً لابأس من الطلاب استجابوا للفكرة وانضموا إلى المقاعد الدراسية، ولكن وعلى أثر الدعاية المضادة والموقف السلبي لحزب العمال الكردستاني، تراجع عدد الطلاب الراغبين في تعلّم اللغة الكردية فلم‌نعد نرى طالباً واحداً يرغب بتعلم اللغة الكردية في المدارس الحكومية. في ذلك الوقت قام حزب العدالة والتنمية بالعديد من الإصلاحات السياسية والقانونية التي لم‌يقرّها حزب الشعب الديمقراطي في البرلمان ولم‌يصوت لأي من هذه القوانين رافضاً دعم إجراءات الحكومة في هذا الاتجاه. فعلى سبيل المثال، أنت تعلم أنه في تاريخ السياسة التركية كانت الكلمة الفصل لمؤسسة القضاء التركي بحيث تتمكن هذه المؤسسة وبسهولة من إغلاق الأحزاب السياسية وسلب صلاحيتها في العمل، ولمعالجة هذه المشكلة طرح حزب العدالة والتنمية مشروعاً يسلب القضاء هذه الصلاحية، إلا أن حزب الشعب الديمقراطي نفسه رفض المشروع ولم‌يصوت لصالحه. ومن هنا أعتقد بأن حزب العمال الكردستاني  (P.K.K) والهيئات التابعة له لا يبحثون عن حقوق الأكراد ومطالبهم، ولديهم أهدافهم الخاصّة.
من الملاحظ في انتخابات 2014م أن حزب الشعب الديمقراطي استطاع باعتباره أحد الهيئات التابعة لحزب العمال الكردستاني (P.K.K)  من الفوز بثمانين مقعداً من إجمالي 555 مقعداً برلمانياً وحينها اعتقدنا جميعاً أن حزب العمال الكردستاني سوف يرفع يده عن الساحة السياسية ويسمح للمندوبين الثمانين بممارسة النشاط السياسي في البرلمان بحرية تامّة، بالإضافة إلى ذلك كان الحزب قد فاز بـ 106 بلديات، ولكن لسوء الحظ رأينا أن حزب العمال الكردستاني لم‌يسمح للنواب ولا لرؤساء البلديات باتخاذ الإجراءات القانونية والدستورية في مجال المشاركة السياسية، وبقي ماسكاً بزمام الأمور وتهميش الآخرين. وهنا أتذكر جيداً أن السيد صلاح الدين دميرتاش زعيم حزب الشعب الديمقراطي في ذلك الوقت، أعلن أننا سننزل حزب العمال الكردستاني من الجبال. وعلى الفور ردّ عليه مصطفى كاراسو أحد أعضاء مجلس قيادة حزب العمال الكردستاني رافضاً الفكرة تماماً، وبتصريح واضح قال فيه: " لا أنت ولا أوجلان قادرون على إنزالنا من الجبال، نحن من يقرر ذلك ". ماذا تعني تلك المواقف؟ لا شك إنها تعني أن حزب العمال الكردستاني لا يرغب في التوصل إلى حل سياسي وديمقراطي للقضية، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار إن هذا الأمر حدث في الظروف التي خسر فيها حزب العدالة والتنمية عدداً كبيراً من المقاعد البرلمانية بسبب مواقفه الشجاعة لحل المشكلة الكردية ولم‌يعد بإمكانة تشكيل الحكومة بمفردة ومن دون تحالفات مع جهات برلمانية أخرى. وفي الوقت نفسه تم تصنيف قضايا شمال سوريا كأولوية قصوى في أجندة قادة حزب العمال الكردستاني وأعادت تفعيل الاستراتيجية الثورية الشعبية، ووضعت محادثات السلام مع تركيا في مهب الرياح، أعقب ذلك حفر الخنادق وبناء المتاريس في العديد من المدن الكردية وشنوا حرباً مسلحة ضد القوات التركية. في تلك البرهة كنت ممثلاً لمدينة "ماردين" في البرلمان التركي، وقد سألت قائم مقام مدينة "نُصيبين" الحدودية حينها عن عدد الخنادق التي تم حفرها؟ فأجابني بأنهم حفروا ما بين أربعمأئة وخمسمأئة خندقاً، ولديهم أربعون من القوات المسلحة، و بعد قرابة شهرين عدت إلى نصيبين، وتابعت المسألة، وفي هذه المرة قال لي قائم مقام المدينة: "لقد بلغ عدد المتاريس والخنادق ألف وخمسمأئة، وتم إحضار ستمأئة من الرجال المسلحين إلى المدينة ووضعوا السلاح بيد الشباب والمراهقين من أبناء المدينة.


فصلية طهران:  لماذا سمحت السلطات الحكومية والأمنية في نصيبين وسائر المدن الكردية لحزب العمال الكردستاني بحفر الخنادق وتسليح المراهقين؟


* أورهان ميرأوغلو: لاحظوا! لم‌يتم حفر تلك الخنادق والمتاريس بين عشية وضحاها، بل كانوا أثناء محادثات السلام يرفعون رأية الحوار والحديث عن السلام والصلح ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يقومون بحفر الخنادق وتسليح الشباب، ولم‌نتمكن حينها من تحليل تلك الشفرة بشكل صحيح، واعتقدنا أن الأمور تسير بتوصيات من أوجلان. والأمر المهم الآخر في هذه القضية هو أن جميع هؤلاء المحافظين والمسؤولين عن تلك الديار كانوا أعضاء في شبكة فتح الله غولن.


فصلية طهران: هل أبرمت صفقة؟


* أورهان ميرأوغلو: نعم، لم‌يتم ذلك إذا لم‌تكن هناك صفقة بين الطرفين، فقد وعدت شبكة فتح الله غولن حزب العمال الكردستاني  (P.K.K) بتسليم المنطقة الكردية له عقيب الانقلاب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسألة تأثير غولن في تركيا ليست بالأمر البسيط. ففي هذه اللحظة  وأنا وأنت منخرطون في هذا الحوار وقد مر أكثر من عامين على الانقلاب، وقبل عدّة ساعات بالتحديد تم اعتقال عدد من طياري غولن الذين اندسوا في سلاح الجو في أنقرة. ولهذا التغلغل تاريخ طويل وفاعل يمتد إلى عمق أربعين عاماً حيث تسللوا إلى جميع الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية وغيرها من الأجهزة، بل اخترقوا حتى صفوف  حزب العمال الكردستاني نفسه وانتشروا في المناطق الكردية. ليس هناك أدنى شك في أن الانقلاب كان مرتبطاً بشكل مباشر بوكالة الاستخبارات المركزية؛ لأن الولايات المتحدة كانت منزعجة من العلاقات التركية مع كل من إيران وروسيا، بل لم‌تكن أمريكا مرتاحة من تحول تركيا إلى لاعب مهم وخطير في الشرق الأوسط. تأملوا! في الوقت الراهن هناك العشرات من الدول حول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة التي تنشط فيها شكبة غولن وبدعم أمريكي. إنها منظمة فاعلة ونشطة قامت وكالة المخابرات المركزية بإنشائها لمواجهة العالم الإسلامي ولإحداث تحديات وتوترات كبيرة في الوسط الإسلامي، فقد كان فتح الله غولن واعظاً بسيطاً ولم‌يعد بإمكانه فعل أيّ شيء وبهذا الحجم دون دعم أمريكي!!. من هنا أنا شخصياً ما زلت أعتقد بأن الولايات المتحدة لن تسلم مثل هذا الصيد الثمين لتركيا.


فصلية طهران: هل تعتقد أن أردوغان كان غاضباً من الأكراد؟


* أورهان ميرأوغلو: نعم، يمكن القول بأنه غاضب إلى حدّ ما. السبب الأول هو أن أردوغان كان شجاعاً وأبدى نية حسنة إثناء محادثات السلام في عام 2013م، لكن حزب العمال الكردستاني وحزب الشعب الديمقراطي قاما بخطوات أظهرت أنهم غير مرضيين حقاً لأردوغان وزعزعوا مصداقيته في الوسط السياسي، وخيبوا ظنونه وجعلوه يشعر بأنه استغل وأن موقفه ونواياه استثمرت في الاتجاه الخاطئ. هذا هو انطباعي الشخصي، ولم‌أسمع ذلك منه في اجتماع خاص. كلا، وإنما هو انطباعي خاص ناشئ من قرائتي للأحداث. بالطبع، لم‌يغضب أردوغان على الشعب الكردي، ولكنه غضب من قادة حزب العمال الكردستاني وحزب الشعب الديمقراطي، فقد تجد نفسك في موقف قد خدعت به وتمّت خيانتك وطعنك من الخلف. ومن هنا أعتقد بأن حزب العمال الكردستاني لم‌يخن أردوغان وتركيا فحسب، بل خان القضية الكردية، ولو أنه لم‌يعتمد خيار العمل المسلح ويرجع إليه مرّة أخرى لوجدنا أن حل المشكلة الكردية في تركيا كان يسيراً، ولكان حزب الشعب الديمقراطي في وضع جيد. لكننا رأيناهم يهاجمون وفي كل يوم الشرطة والجنود الأتراك، فترد الجهات الأمنية عليهم بقتل الشباب الكردي، خاصة مع اعتمادهم لوسائل وآليات قتال قديمة وغير فاعلة في تغيير المعادلة في ميدان الصراع، فإنهم في الواقع يرسلون الشباب إلى الموت، من دون تحقيق أي نتائج ملموسة. ففي الوقت الحاضر نجد المدن والمناطق الكردية التركية خاضعة لسلطة الحكومة وسياستها بشكل كامل، ولم‌يكن بوسع حزب العمال الكردستاني القيام بأيّ حركة فاعلة وملموسة هناك، وبالتالي فإن ممارسة النشاط المسلح بهذا الشكل باتت عديمة الجدوى تماماً. دعني أعود إلى سؤالك حول غضب السيد أردوغان من الأكراد؟ ذكرت لكم سبباً يتعلق بموقف حزب العمال الكردستاني وحزب الشعب الديمقراطي. السبب الثاني يتعلق أيضاً بمسألة الاستفتاء على إنفصال إقليم كردستان من العراق، فقد كان السيد أردوغان يعتقد بأن إجراء الاستفتاء حول الاستقلال لم‌يكن له أي ضرورة أو مبرر مادام إقليم كردستان لديه برلمان، وقد سيطر على جزء كبير من محافظة كركوك، وكانت علاقته مع تركيا جيدة، ومن المحتمل أن تكون تلك الخطورة جاءت بإشارة من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولماذا يقدمون على الاستفتاء في الوقت الذي كانت فيه علاقة الحزب الديمقراطي الكردستاني ليست على ما يرام مع كل من الاتحاد الوطني وكوران؟ أعتقد وحسب انطباعي الشخصي أيضاً إن هذه الخطوة التي أقدم عليها الكرد قدأزعجت أردوغان.


فصلية طهران:  لقد التقيتم بالسيد أردوغان عدة مرّات وتحدثتم معه عن كثب، هل لكم أن تخبرونا عن انطباعكم وما رشح لديكم من تلك اللقاءات والاجتماعات الودية مع النواب الأكراد الآخرين؟ وما هي طبيعة تفكير أردوغان بخصوص القضية الكردية؟ وكيف ينظر للكرد؟


* أورهان ميرأوغلو: بقدر ما رأيت ولاحظت عن كثب، فإن رجب طيب أردوغان يتعامل مع الأكراد في الاجتماعات الخاصة والعامة بنفس الطريقة التي يعامل بها الأتراك. ففي الواقع لم‌أرَ أبداً تمييزاً في سلوكه وموقفه، وأنتم تعلمون أن السيد أردوغان مسلم ولديه إيمان ديني راسخ، ومما لاشك فيه أنه لا يوجد في القاموس الفكري للسيد أردوغان ولا حزب العدالة والتنمية مكان للقومية والعرقية، وأن الموقف الإسلامي يساوي بين النظرة القومية والعنصرية، و لطالما كرر أردوغان مراراً وتكراراً القول بأنني تركي ولا أحمل خلفيات قومية تركية.


فصلية طهران: تشهد الساحة التركية حالياً تحالف حزب العدالة والتنمية كحزب حاكم مع حركة قومية متطرفة تسمى حزب الحركة الوطنية، ومن هنا يطرح السؤال التالي؛ كيف يمكن لحزب العدالة والتنمية مع كل هذه الإجراءات التي اتخذها تجاه الأكراد، والتي غيرت إلى حد كبير من طبيعة التفكير التركي اتجاه القضية الكردية، أن يختار التحالف الآن مع حزب يحمل أفكار تركية متطرفة؟


* أورهان ميرأوغلو: في رأيي، من أجل التوصل إلى إجابة واضحة عن السؤال المطروح عن إشكالية العلاقة والتحالف بين أردوغان صاحب الفكر إسلامي الصافي والنهج الإنساني النبيل تجاه قضية الأكراد، مع حركة قومية متطرفة، يجب أن نفهم طبيعة الموقف والظروف السياسية التي تعيشها تركيا وطبيعة الموقف الذي يمرّ به الحزب الحاكم؟ يجب أن يكون هذا مفهوماً جيداً، لأن إحدى نتائج محادثات السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني وما أفرزته تلك المفاوضات هو الوضع الراهن الذي بات حزب العدالة والتنمية يواجهه، وكان في وضع اضطر فيه إلى التحالفات مع حزب الحركة الوطنية. فقد توصل الحزب الحاكم إلى مفترق طرق فهو إما أن يضطر إلى خسارة السلطة وتوديع الحكم، أو البحث عن طريقة تؤمن له مواصلة سلطته السياسية كالتحالف مع الحركة المذكورة. علماً أنّ حزب العدالة والتنمية لا يريد السلطة لنفسه، وإنما يريدها انطلاقاً من اهتمامه بالمستقبل التركي والمصير المشترك للأتراك والأكراد. لقد أكدت مرّاراً أنّه لو قدر في السنوات الخمس الماضية أن يكون الحاكم والمتصدي لزمام الأمور في البلاد بدلاً من حزب العدالة والتنمية، حزب الشعب الجمهوري، لأدى ذلك إلى تقسيم تركيا. ولنكن واثقين أنه إذا وصلت تركيا إلى هذه الحالة، فلن يصب ذلك في صالح الأكراد أبداً، ولبقيت القضية الكردية معلقة ولم‌يولها أحد أدنى اهتمام، على العكس من حزب التنمية والعدالة الذي يهتم كثيراً بقضية الأكراد ولم‌يتركهم. دعني أعطيك مثالاً. عندما بعث دونالد ترامب برسالة تويتر وكتب فيها: "إذا قتلت الأكراد في سوريا، فسوف ندمر اقتصادكم". بماذا ردّ عليه أردوغان؟ قال: " إن الأكراد جزء كبير من مواطني هذا البلد، ولا يمكن لأحد أن يتهمنا بقتل الأكراد". كذلك أتذكر أنه عندما تعرض الأكراد في العراق لهجوم من قبل صدام حسين في العراق وهجوم حلبجة بالقنابل الكيماوية، لجأ جزء من الأكراد إلى إيران، فيما لجأ جزء كبير منهم إلى تركيا، وقد شيدنا لهم في مدينة ديار بكر منازل صغيرة، والتي كانت تُعرف لدى عامة الناس "بمخيم البيشمركة" وما زالت بقايا تلك المباني الصغيرة ماثلة للعيان. وقد تكرر الأمر ففي السنوات الأخيرة، عندما هاجمت داعش الأكراد الإيزديين في شنغال [سنجار]، لجأوا إلى تركيا، فأقيمت لهم مخيمات في مسقط رأسي مدينة ميديات ماردين، وعندما هاجمت داعش سكان مدينة كوباني الكردية السورية لجأوا أيضاً إلى تركيا، وما زال هناك أكثر من 150،000 منهم في تركيا، والآن يوجد أكثر من 500،000 كردي سوري وعراقي يعيشون في تركيا. لا شك أن هذا لن يحدث لو قدر لأتباع الكمالية الهيمنة على مقاليد الأمور ولن يسمح لتركيا بأن تحتضن الأكراد. بل نحن نشاهد اليوم حزب الشعب الجمهورية ذا النزعة الكمالية يطالب بإخراج السوريين من تركيا على الفور، ولا شك أن هذا يشمل مئات الآلاف من الأكراد. أود أن أقول بأن أردوغان الذي أعرفه ينظر إلى الأكراد بنفس الطريقة التي ينظر بها إلى الأتراك، لكنه لا يستطيع تنفيذ المشاريع التي في ذهنه؛ حيث لم‌يسمحوا له ووضعوا العراقيل والعقبات في طريقة، وأثاروا المشاكل والأزمات لتصل إلى ما هي عليه الآن. هل تعتقدون أنه كان من السهل على أردوغان السماح للنواب الأكراد بزيارة عبد الله أوجلان في سجن أمرالي ونقل رسائله من السجن إلى الخارج؟ لم‌يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، وإذا لم‌يظهر أردوغان هذا الحد من اللين والتساهل في هذه القضية والسعي لتسهيل المهمة فلن يحدث شيء من هذا القبيل أبداً. تذكروا أي خطوة شجاعة ومتزنة أقدم عليها أردوغان لتوفير الأجواء وتهدئة الظروف للترحيب بمسعود البارزاراني واستضافته في مدينة ديار بكر وإحضاره إلى المنصة إلى جانب شوان برور. لا شك في أنه في الفضاء الفكري والسياسي الذي تعيشه تركيا، تتطلب مثل هذه الإجراءات الكثير من الإقدام والشجاعة. لذلك، يجب علينا النظر إلى دور حزب العدالة والتنمية وزعيمه السيد أردوغان في هذه القضية نظرة ايجابية، ونعتقد بأن الآخرين قد فشلوا في اتخاذ مثل هذه الخطوة في حل مشاكل الأكراد. وقد أدرك الكثير من الأكراد الأتراك هذه الحقيقة جيداً، وبالتالي قام جزء منهم بالتصويت لصالح حزب الشعب الديمقراطي وفريق آخر منهم صوت لصالح حزب العدالة والتنمية، وبات جزء كبير من الأكراد من دعاة حزب العدالة والتنمية.


فصلية طهران:  وفقاً للدستور التركي المعروف، يتم تعريف جميع المواطنين الذين يحملون جنسية الجمهورية التركية على أنهم أتراك، ووفقاً لهذا النص القانوني والسياسي، لا يوجد في تركيا أيّ عرق آخر غير العرق التركي. ما هو تحليلكم لهذه القضية؟ ولماذا تتحدث الأدبيات السياسية التركية دائماً عن الأمّة التركية، والاقتصاد التركي، والتكنولوجيا التركية، والثقافة التركية؟ أ ليست هذه وجهة نظر ذات أبعاد عنصرية؟


* أورهان ميرأوغلو: نعم، توجد هذه المصطلحات في الأدبيات السياسية التركية، وتتردد على ألسن لعديد من المسؤولين السياسيين والإداريين بشكل ثابت، ولكن الحقيقة هي أن النظر إلى جميع القوميات في تركيا على أنهم أتراك ليس خطأً ولا يمكن مناقشتها والحوار حولها، ففي السنوات القليلة الماضية تم التحدث عنها بجدية، فلا تندرج في عداد المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، بل يمكن الخوض فيها وتحليلها بشكل جاد وبمهنية عالية. فقد حاول حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة اتخاذ خطوات كبيرة لحل المشكلة الكردية في المجالات السياسية والقومية والثقافية، لكن محاولاته هذه لم‌تفلح ولم‌ينجح في إجراء التغييرات المطلوبة على نص الدستور التركي بسبب العقبات والمشاكل والعراقيل التي أوجدها الآخرون، وهذا المستوى السياسي والثقافي والظرف الذي تعيشه تركيا مازال قائماً. أعتقد أنه إذا تمكنا في الانتخابات القادمة والتي يتم إجراؤها في 31 مارس، من المحافظة على المقاعد ولم‌تنخفض نسبة أصوات حزب العدالة والتنمية والتحالف، فسوف تتخذ الحكومة التركية خطوات لإصلاح الدستور. ومن هنا نحاول الوصول إلى ما لايقل عن 52 ٪ من مجموع مقاعد البرلمان لصالح حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة الوطنية، وعدم انخفاض العدد عن 52 ٪. فإذا حصلنا على مثل هذه النسبة العالية من الأصوات وتمكنا من الناحية السياسية من الإمساك بزمام الأمور، وسيكون هذا الائتلاف في وضع مريح وفي هذه الحالة لن يكون من الصعب عليه إجراء تغييرات دستورية. من أجل فهم الظروف السياسية والقانونية في تركيا، يجب أن نفكر بواقعية وأن مستوى نجاح الأحزاب في الانتخابات وتمكينها الاجتماعي لتنفيذ المشاريع السياسية والقانونية هو قضية مهمة للغاية، فقد وصلنا في تركيا يوماً ما إلى حالة تمكن فيها حزب العدالة والتنمية من الوصول إلى حالة مريحة حيث وصل إلى مستويات عالية من القوة والسيطرة على مقاعد البرلمان والحكومة، والتي مكنته من حل المشكلة الكردية وإرسال وفد إلى إمرالي والقيام بخطوات مهمة، فيما وصلنا الآن إلى حالة لا يتم الحديث فيها عن المعضلة الكردية تماماً، وأسقطت هذه القضية وذلك لأسباب سياسية جزماً. فلو سمحوا لحزب العدالة والتنمية بمواصلة توسيع نفوذه السياسي وعدم عرقلة مساره في هذا الاتجاه، وتحالف الآخرون معه، فحينئذ يمكن لهذا الحزب وبلا أدنى شك أن يحقيق أهدافه وينفذ وعوده. من هنا أعتقد أنه ليس من العدل والإنصاف إلقاء التبعة في هذه القضايا على كاهل أردوغان وحزب العدالة والتنمية وتحميلهما مسؤولية الفشل. بل يتعين علينا هنا فحص سجلات ومواقف الأحزاب والأطراف الأخرى لنرى من الذي سعى إلى تهميش حزب العدالة والتنمية وتقويض جهوده من خلال إيقاف محادثات السلام. 
تأمّل في المصطلحات التي أشرت إليها أعني الأمّة التركية ومصطلحات أخرى من هذا القبيل، في الواقع، كل هذه كانت من الموروثات الفكرية والسياسية والاجتماعية لفترة هيمنة الكمالية على السلطة. ولكن هذه المفاهيم والشعارات باتت تأخذ طريقها رويداً رويداً نحو الانحسار والضعف، فعلى سبيل المثال كان طلاب المدارس ولما يقرب من ستين إلى سبعين سنة يجبرون على ترديد قسم خاص كل صباح وبصوت رفيع في ساعة الكشف الصباحية، ونص القسم، هو: "أنا تركي، وجودي فداء لوجود تركيا" وهذا نص عنصري تماماً، ولكن أثناء محادثات السلام أمر أردوغان بحجب هذا القسم عن النظام التعليمي التركي. وقد علّل كل من أردوغان وزعماء حزب العدالة والتنمية بأنه من الظلم وبعيداً عن الإنصاف تحميل الأطفال والطلاب الأكراد وغير الأتراك هذا القسم كل يوم وإجبارهم على ترديد عبارة "أنا تركي". ولحسن الحظ تمت إزالة هذا القسم من البرنامج الدراسي. لقد شاهدتم في الأشهر الأخيرة قادة الحركات الكمالية المتطرفة والقوميين المتطرفين يحاولون مرة أخرى لفرض القسم المذكور وعودته إلى النظام التعليمي، بل حتى إحدى أهم المؤسسات القضائية التركية أصدرت أمراً بإعادة القسم إلى المدارس، والرجوع بنا إلى المربع الأول. وحينها كانت الأنظار ترقب وبشغف الموقف الذي سيتخذه السيد أردوغان، لمعرفتنا بحجم الضغوط التي تعرض لها في هذا المجال، لكنه مع ذلك وقف بحزم ضد القرار ولم‌ينهزم أمام تلك الضغوط ورفض إعادة القسم مرة أخرى في إطار النظام التعليمي التركي، وكذلك واجه في البرلمان نواب حزب العدالة والتنمية هذا الإجراء بحزم أيضاً، وتم رفضه وحذفه من النظام التعليمي وليوضع في خانة الماضي إلى الأبد. ومن الواضح أن حزب العدالة والتنمية إذا كان قد أصر على كون التركنة أساساً أيديولوجياً له، لوجدناه يميل إلى الاستمرار في هذا القسم ولم‌يقف هذا الموقف الرافض له. إن فهم أهمية تصريح أردوغان أمر مهم للغاية عندما يقول " إنني تركي، لكنني لست متعصباً للتركنة". آمل أن نرى في النظام السياسي والحزبي التركي العثور على مثال آخر يصرح فيه السياسيون الأكراد بأننا أكراد، لكننا لسنا متعصبين للكردنة". إن التصريح بمثل هذه الجملة وتبني مثل هذا الموقف له أهمية سياسية واجتماعية كبيرة حيث يريد أردوغان إظهار أن هويته التركية لا تحمل طابعاً عنصرياً. تأملوا في خطابات أردوغان تجدونه يبتعد دائماً عن الاستفادة من مفردة الأمة التركية، أو الأمة التركية الواحدة، بل يستخدم دائماً مصطلح "الأمّة الواحدة" بلا ضميمة كلمة الترك او التركية، مما يدل على أن الرجل على العكس من العديد من السياسيين الأتراك، لا يرتضي لنفسه استخدام مصطلح "الأمة التركية" بشكل مستمر، وإنما يستخدم مصطلح "الأمة الواحدة" والتي تضم تحت جناحيها جميع الأقليات العرقية في تركيا. فعندنا "علم واحد" ولا نجد الأكراد متحسسين من ذلك ولا توجد عندهم أي مشاكل مع العلم التركي، كذلك عندما نقول "دولة واحدة" فإن الأكراد ليس لديهم أية مشكلة مع هذه الدولة ويقبلون هذه الشرعية. وبالطبع هناك مشاكل ومعضلات تحتاج إلى معالجة. لكن هذا لا يعني أن حل المشكلة الكردية يكمن في الاعتماد على سبيل المثال الطريقة التي مورست في مدينة ديار بكر واعتبارها مدينة كردية تتمتع بحكم ذاتي.
لا أعرف مستوى ونسبة اختلاط الأكراد الإيرانيين مع المجموعات العرقية الأخرى في إيران مقارنة بالمجموعات العرقية الأخرى التي تعيش في البلاد. لكن اسمحوا لي أن أقول إن 65٪ من الأكراد يعيشون في تركيا في شتى المحافظات التركية والتي تسكنها غالبية تركية كإسطنبول ومرسين وآيدين وبورسيا وغيرها من المدن، ونحن نشهد شكلاً من أشكال الاختلاط العرقي بين الأتراك والأكراد في تركيا، وهذه مسألة مهمة، فلا نرى في المعادلات الاجتماعية - الثقافية والعرقية التركية الأكراد والأتراك يبنون جداراً من العزلة والانفصال الصلب بين القوميتين، فلا يتصاهرون مثلاً ولا يتفاعلون مع بعضهم البعض، ليس الأمر كذلك، بل نحن نشهد مزيجاً من الاندماج الاجتماعي والثقافي، بل يعيش الأكراد والأتراك جنباً إلى جنب حتى في العديد من المدن الغربية التي تبعد قرابة ألف كيلومتر من المناطق الكردية التركية. 


فصلية طهران:  هل تأمل بعودة محادثات السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني  (P.K.K) مرة أخرى؟


* أورهان ميرأوغلو: كل آمالي هي في التنمية السياسية وتطوير الديمقراطية، وأعتقد أنه في حالة تطور مجال العمل الديمقراطي وتوسع نطاق المطالب الديمقراطية في البلاد وتعمقت الممارسة الديمقراطية عندنا، فسوف يتم حل العديد من المشاكل.


فصلية طهران: إذن لا تتوقع انطلاق الحوار بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني مرّة أخرى؟


* أورهان ميرأوغلو: أعتقد أن الاتجاه الجديد لن يكون على هيئة مشروع للحوار والتفاوض. لكن من الضروري محاولة إصلاح الدستور بطريقة لا تسمح بأن يحس الشخص أنه دخيل ولا أن يعتبر أي مواطن نفسه وجوداً غيرياً ويجب أن تسن قوانين ومبادئ الحكومة والإدارة في البلاد بنحو تحتضن جميع الأشكال والأطياف القومية والاجتماعية في البلاد. يمكننا القول إننا نشهد حالياً مرحلة من تطبيع القضايا السياسية في تركيا. وينبغي الوصول إلى النقطة التي لا نرى حاجة بعدها للتحركات عبر الحدود. الآن، وكما ترى، المحادثات مع الاتحاد الأوروبي مستمرة، وعلاقات تركيا مع العراق وإيران وروسيا في حالة جيدة، وحتى التوتر مع الحكومة السورية قد خف إلى حدّ ما. وربّما إذا تم كتابة نص الدستور الجديد لسوريا، فإن الوضع سيكون أفضل بكثير مما عليه الآن. أعتقد أنه إذا اطمأنت تركيا من القضايا الداخلية والإقليمية، سيكون بإمكانها اتخاذ خطوات لإصلاح وتطوير الديمقراطية بشكل جيد. في الوقت الراهن، نحن نشاهد أن قضية التحركات خارج الحدود التركية وفي شمال سوريا بالتحديد تهدد تركيا، حيث هناك كيانات في شمال سوريا غير مرغوب فيها من قبل الحكومة التركية، وبما أن هذا الكيانات تنتمي إلى مجموعة منخرطة في صراع مع الحكومة التركية، ففي مثل هذا السياق لا يمكن الإصرار على إجراء إصلاحات دستورية والإستماتة من أجل التنمية السياسية والديمقراطية. أعتقد أن العلاقة بين الإصلاح والديمقراطية علاقة مطردة، فكلما توسعت مساحة الممارسة الديمقراطية في تركيا ونمت في البلاد، توفرت الأرضية وبنفس المستوى لحل ومعالجة مشاكل الأكراد.


فصلية طهران: ما هي تنبؤاتك لمستقبل الأنشطة السياسية الكردية في الشمال السوري؟


* أورهان ميرأوغلو:التقيت بمسعود البارزاني قبل ثلاث سنوات في صلاح الدين وسمعت منه قضية مهمة عن الأكراد السوريين. قال البارزاني: "سألت الإخوة الأكراد مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، هل اتفقتم مع بشار الأسد على خطة ما وهل حصلتم منه على تعهدات والتزامات خاصة؟ مضيفاً إذا كان الأمر كذلك، أخبرونا حتى نتمكن من دعمكم في هذا المجال. لكن يبدو أنهم لم‌يتمكنوا من إعطاء إجابة واضحة لبارزاني. وأود أن أضيف هنا بأن نظام البعث السوري إنما توجه نحو الكرد بسب الظروف الصعبة والضغوط التي مورست ضده في الوقت الراهن، وإن ما يحدث حالياً في الشمال السوري من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي هو حرب بالوكالة، ومن هنا أعتقد أنهم لا يتمكنون من تأسيس حالة تشبه الحالة الموجودة في كردستان العراق. فإذا كنت تقاتل بالوكالة عن بلد أو تيار ما، ينبغي أن تكون قد استحصلت على مواثيق وتعهدات وأبرمت صفقة واضحة المعالم في هذا الخصوص، وأن تعرف ماهي النتيجة والثمرة التي سوف تجنيها جراء حربك هذه،. لكن لسوء الحظ لا يوجد مثل هذة الصفة والاتفاق، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي أدّى ومن خلال خطوته هذه إلى نزوح أكثر من 15 حزباً سياسياً كردياً، ولم‌يسمح لهم بالعمل والتحرك هناك، وبات قادة تلك الأحزاب يقضون الوقت في أروقة فنادق أربيل، وهذا أمر مؤسف حقاً.


فصلية طهران: اعتماداً على تاريخكم السياسي والنضالي كيف تنظر الأحزاب التركية المختلفة إليكم؟ وما هو تحليلهم لشخصيتكم؟


* أورهان ميرأوغلو: كما ترون، لقد تعرضت للهجوم الإعلامي والجسدي والتهديد بشكل متكرر بتصفيتي جسدياً من قبل حزب العمال الكردستاني، لكنني أكدت عدة مرات على أن أنصار حزب الشعب الديمقراطي يتفهمون مخاوفي وهواجسي، وهذا مهم بالنسبة لي. وقد لمست ذلك مرّات عديدة وفي أجزاء مختلفة من البلاد وإن هذا الحزب لا توجد لديه مشكلة أو اختلاف سياسي محدد معي. ولكن نظراً لأنهم متمسكون تماماً بأيديولوجية حزب العمال الكردستاني، فلا يمكنهم فهم الأشياء بصورة واضحة وجليّة؛ و لذلك من الضروري أن يعيدوا النظر في الأفكار الراديكالية التي يحملونها، وأن ينسجموا مع معايير القرن الحادي والعشرين.
ولطالما أكدت في اللقاءات والحوارات التي أجريتها أن على جميع المواطنين الأتراك أن يفهموا معاناة أسر حزب الشعب الديمقراطي. وأن يتحسسوا مدى الألم الذي تعيشه العوائل التي فقدت أبناءها في هذا الصراع المحتدم. لم‌يدرك أي من السياسيين في حزب الشعب الديمقراطي بقدر إدراكي لمعاناة هذه الأسر ولم‌يحاولوا بيانها وتوضيحها أمام الرأي العام كما فعلت أنا. لقد بذلت قصارى جهدي كي أوضح لجميع الناس في تركيا طبيعة الحالة الروحية والعاطفية لهذه العائلات، فقد تحدثت مئات الساعات عن المآسي الكردية عبر جميع القنوات التلفزيونية التركية، وأوضحت للمواطنين الأتراك المصائب والكوارث التي حلت بالشعب الكردي في سجون ديار بكر. تخيّل الأمهات الكرديات اللائي فقدن أبناءهن إما في السجون أو في قمم الجبال. من هو الذي ينشر معاناة تلك الأمهات الكرديات أمام الشعب التركي؟ لقد كتبت قصة العديد من الشباب الأكراد الذين قتلوا في الحرب. لقد كتبت ونشرت 12 كتاباً حتى الآن كلها تعنى بهذه القضية وتصب في مصلحة قضايا الأكراد، و لقد كتبت عن المطالب المشروعة والحقيقية والقانونية للشعب الكردي وأرى نفسي قد أديت الأمانة ووفيت لشعب كردستان، وفي ديار بكر وماردين والعديد من المدن الأخرى يمكنني أن أوضح للأكراد ما فعلته لصالح قضيتهم. وسأكتب وصيتي والتي سوف أبرئ فيها ذمة أبناء قوميتي وأهلي، ولكن أولئك الذين اتهمونني ظلماً وسعوا إلى اغتيال شخصيتي سوف أوكل أمرهم جميعاً إلى الله. من ناحية أخرى نرى في دوائر ومجالس المحافظات التركية الأشخاص الذين يؤمنون بالأيديولوجيات القومية المتطرفة والعنصرية لا يرحبون بأورهان ميرأوغلو ولا يحبذون أفكاره، على العكس من الخطوط والاتجاهات المحافظة والمتدينة التي واجهتني مراراً وتكراراً معلنة مواقفتها وتأييدها بصدق للسياسة التي اعتمدها، بل صرحوا لي بإنهم يؤيدونني ويرغبون في كتاباتي ومقابلاتي التي تهدف لتغيير الواضع الراهن. وفي كثير من الأحيان قالوا لي: إنك تلعب دور الشخص الذي يلقي بالماء لإطفاء نار الغضب والكراهية المستعرة. على أي حال، كل فكر له ثمن وضريبة يجب دفعها، وإن أي شخص غير مستعد لدفع ضريبة أفكاره، لا يمكن أن يكون ناشطاً سياسياً أو مثقفاً فاعلاً. أنا شخصياً أعتقد أنه وانطلاقاً من هذا التفكير المعتدل والمرن أني ورّثت أبنائي ميراثاً تربوياً جيداً. وكما ترى، ففي تركيا نشاهد مزيجاً ثقافياً واجتماعياً جاداً وهاماً بين الأكراد والأتراك، فلقد تصاهر 5 ملايين كردي مع 5 ملايين من الأتراك، وهذه مسألة في غاية الأهمية ولا يمكن الاستهانة بها على الإطلاق. نحن نتحرك في الاتجاه الذي نتحول في نهايته إلى أمّة واحدة. أنا لا أعرف ما هي طبيعة الوضع في إيران، وهل هناك تمازج وعلاقات مصاهرة بين الأكراد والآذريين والفرس؟ وهل هناك إحصائيات حول هذه القضية؟


فصلية طهران: ليس لديّ إحصائيات دقيقة حالياً، و لكن الزواج والمصاهرة بين أبناء الأكراد والآذريين والفرس وغيرهم من القوميات العرقية أمر شائع في إيران، ولا يمثل حالة استثنائة أو طارئة.


* أورهان ميرأوغلو: هذا عامل مهم جداً ومفيد. وكما ترى فإن التقارب والترابط الثقافي بين الأتراك والأكراد في تركيا وكذا بين الأكراد والآذريين والفرس في إيران، يجعل من السهل حل المشكلات السياسية والاجتماعية. ربما، وبالنظر إلى ضعف وشائج الاتصال والارتباط بين الثقافات الكردية والعربية، يكون من الصعوبة بمكان التواصل الثقافي بين المكونين في كل من العراق وسوريا.
أنا شخصياً يسعدني ويسرني أن أكرس بقية حياتي لبذل الجهود في مجال تعزيز لغة الحوار والتفاوض والتعايش السلمي بين الأكراد والأتراك، وأنا لا أشكو من أي قلق او هاجس في هذا المجال ولا أخشى أحداً، بل يمكنني الكتابة متى شئت وبشكل جيد والتحدث كذلك باريحيّة، وفي نفس الوقت لا أتجنب الحديث عن الحقيقة ورصد الواقع، وإذا ما قدر لي يوماً ما أن لا أجد عندي ماأجود به وجف قلمي عن العطاء وأنه ليس لدي ما أقوله فلاشك سوف أختار الجلوس في المنزل وسألتزم الصمت.


فصلية طهران: شكراً لكم

 


قراءة: 748