فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

استراتيجياً متخلخلة نظرة نقدية في أداء حزب الشعوب الديمقراطي في تركية

وهاب جوش كن
فقيه في القانون وأستاذ في جامعة دجلة التركية.

       البروفسور "وهاب جوش كن" أحد الوجوه الأكاديمية الكردية في تركية، ولد عام 1971م بمدينة دياربكر الكردية. درس الحقوق و حصل على الماجستير من جامعة دجلة (بمدينة دياربكر)، ثم على شهادة الدكتوراه في نفس الفرع من جامعة أنقرة. و هو عضو برتبة أستاذ في الهيئة العلمية لكلية الحقوق بجامعة دجلة. له سوابق دراساتية في مجال القضية الكردية، حيث كتب العديد من المؤلفات. كما عمل مع معظم القنوات التلفزيونية التركية في حقل دراسة القضايا الحقوقية. كان البروفسور "جوش كن" من بين 63 شخصية من فقهاء القانون و السياسيين توزعوا على مختلف محافظات الجمهورية التركية في عام 2013م بمبادرة من الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان دعماً لمحادثات السلام بين الحكومة التركية و حزب العمال الكردستاني (K.K.P)و للترويج لخطاب الأخوة بين الأتراك و الأكراد. بحسب اعتقاد البروفسور جوش كُن ليس لدى الأكراد مشكلة في التعايش السلمي مع سائر مواطنيهم، فهم يطالبون بالمحافظة على خصوصيتهم الثقافية، و تعزيز دور الأكراد في هرم السلطة السياسية في تركية. و يرى أيضاً أنّه على الرغم من الثقة التي أولاها المجتمع التركي لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات التشريعية لعام 2015م بحصوله على 80 مقعد في البرلمان، إلّا أنّ زعماء هذا الحزب فشلوا في توظيف هذه الثقة بشكل دقيق و هادف. ومن وجهة نظره إنّ هذه الثقة كانت فرصة تاريخية منحها المجتمع للحزب لحل المشكلة الكردية عبر الوسائل السياسية، لكنّ زعماءه تعاملوا مع هذا المطلب الشعبي من زاوية مختلفة، ففرّطوا في الفرصة و لم‌يوظّفوها التوظيف الأمثل. نقدّم فيما يلي للقارئ الكريم نص المقابلة التي أجرتها مجلة طهران لدراسات السياسة الخارجية مع البروفسور جوش كُن، و التي أجاب فيها عن مختلف الأسئلة المتعلقة بالتحولات الإقليمية و القضية الكردية.


الكلمات الأساسية: تركية،أردوغان، المحادثات السلام، (K.K.P)، عبدالله أوجلان، حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، صلاح الدين دميرتاش

 

 

فصلية طهران:  كنتم أحد أعضاء الفريق الذي أطلق عليه «حكماء السلام» و الذي اختاره رئيس الجمهورية التركية في عام 2003 م أثناء محادثات السلام بين تركية و حزب العمال الكردستاني (P.K.K)، و قمتم بنشاطات كبيرة دعماً لوقف الحرب و القتال في المناطق الكردية في تركية. في تلك الفترة أصدر زعيم الحزب المسجون عبد الله أوجالان أوامره بوقف النشاطات المسلحة، و الانسحاب الكامل لقوات الجناح العسكري لهذه الجماعة من تركية، و اكتسبت العملية السياسية و البرلمانية زخماً جديداً. في أعقاب هذه التطورات، استتبت أجواء من الأمن و الاستقرار في تركية لا سيما في المناطق الكردية. لكنّ نيران الحرب اشتعلت من جديد في عام 2015 م و عاد القتال إلى تلك المناطق. إلى مَ تعزون تدهور الأوضاع الأمنية مرة أخرى، و لماذا تلبّدت أجواء الأمن و الاستقرار بسحب الحرب و العنف؟


*وهاب جوش كُن: بدأت محادثات السلام في عام 2013 م، و استمرّت حتى منتصف عام 2015 م، و توقف القتال و الاشتباكات لما يقارب من عامين و نصف العام، كانت الأجواء خلالها، كما أشرتم، مفعمة بالأمن و الاستقرار. و اتُّخذت تدابير جيدة في المجالات السياسية و الحقوقية من أجل إيجاد حلول للمشاكل العالقة، لكنّ قطار المحادثات تعطّل قبل أن يبلغ محطته الأخيرة، ليعود الطرفان، للأسف، إلى استخدام لغة السلاح ثانية، و ليُقتل مئات الأشخاص نتيجة تجدّد المعارك، و كانت المحافظات الكردية في جنوب و جنوب شرق تركية تعاني من مشاكل و توترات خطيرة، و دُمّرت الكثير من المنازل، على أثر امتداد القتال إلى داخل بعض المدن. 
و بالنسبة لمحادثات السلام في ذلك الوقت، نشير هنا إلى بعض الملاحظات المهمة ذات الصلة لنرى ما هي خلفيات انطلاق المحادثات. لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، سنجد أنّ الحكومة التي شكّلها حزب العدالة و التنمية في تلك المرحلة أرادت أن تلعب دوراً أكثر جدية و فاعلية على مستوى المعادلات الإقليمية و ذلك كنتيجة للتطورات التي شهدتها المنطقة آنذاك، و لهذا السبب كانت بصدد تعزيز جبهتها الداخلية و رفع العوائق التي تعترض سبيلها. إحدى المشاكل الداخلية الخطيرة بالنسبة للحكومة في تلك الفترة، كانت مشكلة الحرب المشتعلة مع حزب العمال الكردستاني (P.K.K)، حيث أرادت تركية أن تضع حدّاً لها، لتتفرّغ لقضايا الشرق الأوسط و تلعب دوراً أكثر اقتداراً على الأخص في الملف السوري. بناءً على هذا، انطلقت الشرارة الأولى لمحادثات السلام بالتزامن مع تصاعد التطورات في الشرق الأوسط، و يمكن القول بأنّ هذه التطورات نفسها أعني التحولات في سورية كانت السبب أيضاً في توقّف تلك المحادثات في عام 2015 م. الآن و بعد مضي عدّة سنوات عندما نتأمل تلك التحولات نجد أنّها كانت مرحلة تاريخية و سياسية على قدر كبير من الحساسية و الأهمية. كانت حصيلتها اكتساب تجارب كبرى سواء بالنسبة للحكومة التركية أو السياسيين الأكراد. لقد وظّف الطرفان الكثير من القدرات و الإمكانات الكامنة لحل مشاكلهم على طاولة المحادثات منطلقين من عدد من الأسس و  الخلفيات السياسية و الاجتماعية، و لكن حدثت، للأسف، أخطاء و إشكالات في بعض القضايا التي طرحت أثناء المحادثات. من الأخطاء و المشاكل الخطيرة جداً التي شابت محادثات السلام بين تركية و حزب العمال (P.K.K) هي أنّه لم‌يكن لدى الطرفين تصوّر واضح و دقيق عن مآلات المحادثات و لا عن نتائجها. و بنحوٍ أو بآخر يمكن القول أنّهما كانا يسيران و لكن إلى أين، هذا ما لم‌يعرفاه بالضبط و بصورة واضحة، و لم‌تكن لديهما أيّ خطة مكتوبة و دقيقة حول المحطة الأخيرة و المقصد النهائي للمحادثات. فلا الحكومة و لا الطرف الآخر كانا يعرفان وفق أيّ صيغة سيُدوّن الاتفاق، حتى وجدنا أنّ كلّ شيء تبخّر فجأة و تلاشى في لحظة واحدة في خضم تلك الأجواء الرحبة لنمو الديمقراطية. كانت الحكومة تبحث عن مساحة جغرافية لتخطو خطوات على طريق التنمية السياسية، و تزيد من شعبيتها، و كذلك الحال بالنسبة لحزب العمال (P.K.K)، فقد كان يرنو إلى كسب نفوذ أكبر في المناطق الكردية، لكنّ المشكلة كانت في عدم حصول توافق أو تواصل خاص بينهما، حتى وصلا إلى نقطة تعذّر عليهما مواصلة المحادثات.


فصلية طهران: هل تعتقدون أنّ الاعتبارات الإقليمية و تحولات الشرق الأوسط هي التي دفعت حزب العدالة و التنمية إلى إجراء المحادثات، و أنّ إقدام الحكومة التي شكّلها الحزب المذكور على تلك الخطوة جاء انطلاقاً من الظروف الخاصة التي مرّت بمنطقتنا و لتحقيق بعض الأهداف الخاصة في سورية، ممّا يفسّر عدم وجود اقتضاءات سياسية أو اجتماعية داخلية ملحة للانخراط في المحادثات؟


*وهاب جوش كُن: إذا أردنا العودة إلى جذور الحوادث السياسية و الاجتماعية و القضايا القانونية، فهذا يتطلب بحسب قناعتي الإشارة إلى العديد من العوامل و الأسباب التي تقف وراء ذلك. أعتقد أنّ محاولات الحكومة التركية لكسب نفوذ و سلطة أكبر في الشرق الأوسط و في سورية على وجه التحديد، هو أحد العوامل و الدوافع التي ساقت الفريق الحكومي صوب المحادثات، و حل المشاكل الداخلية المطروحة في هذا المجال. طبعاً لم‌تكن هذه كل القصة، فهناك أسباب و اعتبارات أخرى تتعلق بمسألة النفوذ الاجتماعي و السياسي في المناطق الكردية. و كما ذكرت هذا أحد الأسباب و الاعتبارات التي وجدت من الضروري أن أشير إليه. برأيي أنّ التحولات السياسية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط طغت على جميع القضايا المحلية و كانت الأكثر تأثيراً، فقد كان يساور تركية القلق احتمال أن تشهد البلاد تحولات مماثلة ]لما حدث في بلدان ما يسمى بالربيع العربي[، فما الذي عليها أن تفعله حينذاك، و ما التدابير الواجب اتخاذها؟ هنا تكتسب مسألة الأمن القومي و النظم و الاستقرار الدخلي لكل بلد أهمية، و طبعاً وجدت تركية نفسها فجأة في خضم تلك الظروف و الأوضاع. هل تعلمون أنّ المشكلة الكردية تسبّبت في العقود الأخيرة بخسائر اقتصادية مدمرة لتركية؟ فالاشتباكات المسلحة مع حزب العمال (P.K.K) وجّهت للمنظومة الاقتصادية التركية ضربات موجعة. فلو أنّ تركية لم‌تخصّص جزءاً كبيراً من ميزانيتها للمجهود الحربي خلال السنوات الماضية، لربما كانت حققت تقدماً أعظم و تنمية أوسع. أضف إلى ذلك بروز مشاكل في ميادين أخرى منعت الدولة من تقديم آليات أو حلول جدية لها، فتعاطت معها من منطلق التبريرات و التسويف. في تصوري أنّ حل المشكلة الكردية سوف يساهم في خلق تنمية أكبر في البلاد في المجالات الديمقراطية و السياسية ناهيك عن رفع جزء كبير من المشاكل الاقتصادية عن كاهل الحكومة. و هذا ما جعل التحولات السياسية في منطقة الشرق الأوسط تكتسب أهمية إلى جانب قضية الاقتصاد و الأمن الداخلي أيضاً، و بالتالي دفع تركية في تلك المرحلة إلى الانخراط في المحادثات.
فصلية طهران: حقّق حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الذي يعدّ أحد التشكيلات السياسية الفرعية لحزب العمال الكردستاني (P.K.K) فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2015م، حيث حصل في ذلك الوقت على 80 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعد. و في غمرة نشوة الفوز، أعلن "صلاح الدين دميرتاش" زعيم حزب الشعوب الديمقراطي آنذاك - و الذي يقبع في السجن حالياً- مخاطباً الرئيس التركي: لن أسمح لك بأن تصبح رئيساً! 
سؤالنا هو: هل ارتكب حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) خطأً باتّخاذه هذا الموقف المتشدّد؟

*وهاب جوش كُن: نعم، أنا أيضاً أعتقد أنّ الحصول على 80 مقعداً في الانتخابات كان بمثابة فوز كبير. تعود مشاركتهم في الانتخابات إلى عام 1992م و في كل مرة كانوا يأملون في الحصول على أصوات أكثر في الانتخابات، و لكن لم‌يتسنّ لهم تحقيق مثل هذه النتيجة الباهرة. لقد كان ذلك تطوراً سياسياً مهماً للغاية، حيث استطاع الحزب أن يحتل المركز الثالث في البرلمان التركي. أعتقد أنّ الزعماء السياسيين لحزب الشعوب الديمقراطي فشلوا في دفع سياستهم بشكل دقيق و هادف إلى الأمام على الرغم من تحقيق هذا المكسب أو النصر العظيم المتمثّل في الحصول على 80 مقعد في البرلمان. في الوقت الذي صوّت المجتمع التركي لهم و وضع ثقته فيهم و منحهم تلك الشعبية، كان عليهم أن يستثمروا هذا النصر ويتصرّفوا بذكاء أكبر ممّا فعلوا. في الحقيقة، لقد كانت رسالة الشعب التركي أنّنا نمنحكم أصواتنا و نضع بين أيديكم فرصة تاريخية لكي تعملوا على حل المشكلة الكردية بالآليات و الحلول السياسية. بحسب اعتقادي كان على السيد دميرتاش بدلاً من اتّخاذ ذلك الموقف المتصلّب أن يقول للشعب: أيّها الشعب لقد وضعت ثقتك فينا، و سوف نكون أهلاً لهذه الثقة. سوف ننهض بالمسؤولية السياسية و الاجتماعية للمشاكل المطروحة، و نعمل على جبهتين، جبهة الحكومة، و جبهة المعارضين.


فصلية طهران: لقد فقد حزب العدالة و التنمية آنذاك جزءاً مهماً من آراء الأكراد الإسلاميين المحافظين في المناطق الكردية التركية، لتصب تلك الآراء في سلّة حزب الشعوب الديمقراطي، ممّا منع حزب العدالة من تشكيل الحكومة بمفرده، فواجه أحمد داود أوغلو انسداداً سياسياً على أرض الواقع. أتعتقدون أنّه كان بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي في تلك المرحلة الحساسة أن يتحالف مع الحزب الحاكم لتشكيل حكومة ائتلافية؟ 


*وهاب جوش كُن: أعتقد كان من الممكن من الناحية النظرية أن يفعل ذلك و كان أمراً قابلاً للتطبيق. فحزب العدالة و التنمية عجز عن تشكيل الحكومة بمفرده، و كان بحاجة لحزب آخر ليشكل معه ائتلافاً. منذ اليوم الأول، أعلنت جميع الأحزاب عدم استعدادها للعمل معه (أي الحزب الحاكم) و بالتالي لم‌يبق أمامه خيار سوى التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي. في ظنّي أنّ حزب العدالة و التنمية لم‌تكن لديه رغبة حقيقية في هذا التحالف لتشكيل الحكومة. و حتى بعد أن شرعا بمفاوضات ثنائية لهذا الغرض، لم‌يكن الحزب الحاكم متحمساً لهذه الفكرة. و هنا كان على الأكراد أن يتصرّفوا بذكاء سياسي و بحنكة، و يدركوا طبيعة الموقف و حساسيته، و يعلنوا عن استعدادهم للتحالف من أجل تشكيل الحكومة. كان عليهم أن يُبقوا جميع الأبواب مفتوحة، فغلقهم الأبواب بوجه حزب العدالة و التنمية و الأحزاب التركية الأخرى منذ الساعات الأولى لفوزهم كان خطأً كبيراً ، و عملياً يتحمّل حزب الشعوب الديمقراطي المسؤولية الاجتماعية و السياسية لهذا الخطأ. و لا ننسى بأنّ هذا الحزب كان طرفاً رئيسياً إلى جانب الحزب الحاكم في محادثات السلام التي جرت بين الحكومة التركية و حزب العمال (P.K.K) و كان مصير المحادثات يتوقّف عليه، و عليه فقد أضرّ عملياً و بشكل كبير بمحادثات السلام بسبب هذه المواقف المتصلّبة.


فصلية طهران: ربما تتذكرون أنّ حزب العمال (P.K.K) خلال فترة محادثات السلام، استحدث تشكيلاً مسلحاً جديداً من الأهالي أطلق عليه وحدات الدفاع المدني (YPS) و قام بحفر الخنادق في بعض البلدات الصغيرة مثل شمدينلي، الجزيره، سلوپی، خاني، فارقين ... و غيرها، سعياً لإقامة نموذج تجريبي من الحكم الذاتي. وكان الهدف أن يبسطوا سيطرتهم على المدينة ثم يطردوا القوات العسكرية و عناصر الشرطة منها، و يرفعوا على مبانيها العلم الخاص بهم، ليعلنوا للعالم أنّهم يتحكّمون ببعض المدن الكردية، حدث هذا بالتزامن مع محادثات السلام في جبال قنديل و أوروبا التي كان يجريها أفراد من حزب الشعوب الديمقراطي بزعامة صلاح الدين دميرتاش، بالتنسيق مع عبد الله أوجالان زعيم حزب العمال (P.K.K) المسجون،  مع المسؤولين الحكوميين (هاكان فيدان رئيس وكالة الاستخبارات التركية و  يالجين آكدوغان مندوب أردوغان إلى ملف المحادثات). كما تلاحظون إنّ مساعيهم في السيطرة على المدن الكردية و إقامة نموذج لحكم ذاتي ديمقراطي أدّت إلى الخطوة التالية و هي اشتعال الحرب من جديد. ما هو تحليلكم لهذه الازدواجية في المقاربات؟ برأيكم لماذا لم‌يفصح حزب الشعوب الديمقراطي عن موقف محدّد حيال هذه التدابير؟


*وهاب جوش كُن: أعتقد أنّ ذلك كان خطأً كبيراً. حقّاً كان خطأً فظيعاً، كان من الواضح تماماً أنّ تلك التدابير لن تسفر عن أيّ نتيجة. إنّ رغبة حزب العمال (P.K.K) في إقامة مناطق حكم ذاتي كانت غلطة، و كان واضحاً للعيان أنّ الجناح العسكري للحزب لا يملك القدرة على ذلك. ليس من المنطقي أن تكون هناك خطوات تصعيدية و حربية بالتزامن مع إجراء المحادثات و مساعي السلام. تدابيرهم تلك كانت بمثابة تهديد للدولة. لم‌تكن تلك التدابير صحيحة، و قد رأيتم كيف كان ردّ فعل الحكومة التركية التي تدخلت بكل ما تملك من قوة عسكرية و سياسية و دفاعية و أمنية و شنّت هجوماً عليهم و هزمتهم. أعتقد أنّ قراءة زعماء حزب العمال (P.K.K) في جبال قنديل عن تحولات الشمال السوري كانت خاطئة عندما أرادوا أن يستعرضوا قوّتهم. كان تصوّر بعض المعارضين الأتراك في المنطقة هو إلهاء زعماء أنقرة بالقضايا الداخلية لمنعهم من ممارسة دور فاعل في معادلات الشرق الأوسط. ما فعله حزب العمال (P.K.K) في تلك الفترة كان خطأً فظيعاً جداً. كنّا نعلم جميعاً بأنّ حزب العمال (P.K.K) لا يملك تلك القوة العسكرية و الدفاعية التي تؤهله لإعلان بعض مدن المنطقة الكردية منطقة حكم ذاتي، و الكل كان يعلم أنّ تركية لن تقف مكتوفة الأيدي، و ستتحرك بكل ما أوتيت من قوة للتصدي لمثل هذه التدابير، و هو ما حصل بالفعل، و كما رأيتم فإنّ الحملات التي شنّتها الحكومة كانت واسعة جداً و جدية، و جرت معارك فظيعة. كان على حزب الشعوب الديمقراطي في تلك الفترة أن يعلن عن معارضتها الجدية لتلك التدابير العسكرية، و يتّخذ موقفاً إزاءها، و يقف بوجه زعماء حزب العمال (P.K.K). قد يقول الكثير إنّ هيكلية الحزب لم‌تسمح له حينها باتخاذ مواقف مخالفة لأوامر زعماء حزب العمال (P.K.K) خصوصاً إذا تأمّلنا الآلية و العلاقة الخاصة التي تربط الطرفين. ربما كان هذا التبرير في جانب منه صحيحاً، و لكن على أيّ حال، فالموقف السياسي آنذاك كان يحتّم على حزب الشعوب الديمقراطي أن‌يفعل شيئاً ليبرهن معارضته لتلك التدابير و الممارسات، و يثبت رغبته في استمرار محادثات السلام. لقد وقعت اشتباكات فظيعة، و مع ذلك لم‌يتّخذ زعماء الحزب و أعضاؤه أيّ موقف ثابت و صلب، ما اضطرّ الدولة، كما رأيتم، إلى التصدّي لهم بكل حزم و شدّة و شنّت عليهم حملة و طردت حزب العمال (P.K.K) من تلك المناطق، و بذلك تم غلق الباب على العملية السياسية بشكل تام، و نتج عن ذلك قمع سياسي، اضطرت بسببه المئات من العوائل إلى النزوح عن تلك المدن و الفرار إلى مناطق أخرى، و عادت الحكومة من جديد إلى فرض قيود على المناخ السياسي، و زجّت بالناشطين السياسيين و النواب الأكراد في السجون، و هذه الوقائع كانت إيذاناً بحدوث كارثة و بروز وضع مفزع للغاية.


فصلية طهران: طُرحت تفسيرات كثيرة حول الدوافع و الأسباب التي حدت بزعماء حزب العمال (P.K.K) لمعاودة الحرب، فالبعض قال أنّ هناك جناحان أو تياران رئيسيان متصارعان داخل خلية التفكير (think tank) في الحزب. أحدهما تيار يساري تركي و الآخر تيار قومي كردي. و كان هناك تنافس شديد بين التيارين في تلك المرحلة، فالتيار اليساري التركي كان يسعى إلى معاودة شنّ الحرب على تركية، بينما فشل التيار القومي الكردي في ثني التيار الأول عن عزمه. بالإضافة إلى تفسيرات أخرى تحتمل تدخّل بعض الرموز في جهاز الاستخبارات التركي (ميت) و التيارات الساعية للحرب و تسلّل صقور الجنرالات الأتراك على الأرجح إلى داخل حزب العمال (P.K.K) و تحريض زعمائه على الحرب و القتال من جديد، و بحسب اعتقاد الأتراك أنفسهم، فإنّ بعض القوى العالمية حرّضت حزب العمال (P.K.K) على اتّخاذ هذه الخطوة، و طلبوا منهم شنّ الحرب، ما هي قراءتكم لهذه التفسيرات؟ 


*وهاب جوش كُن:  أعتقد أنّ المركزية الصارمة سمة بارزة في حزب العمال (P.K.K)، و عندما يتّخذ قراراً أو يقدم على تدابير خاصة، فـ‌ وراء هذه التدابير نهج و فكر مركزي متزمت يخطّط لمثل هذه القرارات و تنفيذها، و لو كان الحزب يضمّ أجنحة و تيارات مختلفة و متنافسة فيما بينها، لما استطاع الاستمرار لأكثر من أربعين عاماً في منطقة الشرق الأوسط الزاخرة بالاضطرابات. نعم هناك احتمال بأنّه في فترة اتّخاذ قرار العودة إلى الحرب، طرحت بعض الآراء المعارضة للقرار. و لكن بعد أن تحوّل القرار إلى أمر و استراتيجية، لم‌يكن أمام كوادر الحزب إلّا الطاعة، و كفّ المعارضون عن معارضة هذه الاستراتيجية. أن يقال بأنّ هناك قوى عالمية مارست تأثيراً على حزب العمال (P.K.K) و تغلغت في صفوفه و إقناعه بشنّ الحرب من جديد، إذاً، فهذا تهديد ذو أبعاد دولية. الحقيقة هي أنّ شبكة معينة أو تيار دولي خاص تمكّن في مرحلة حساسة أن يتسلّل إلى داخل حزب العمال (P.K.K). و يمكن القول بأنّ العلاقات الخاصة لهذه الشبكة الدولية و تأثيرها على الحزب كانت تدفع باتجاه تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الخاص، الذي أوقع تركية مرة أخرى في هذه الورطة، و ربما تكون حقّقت هدفها إلى حدّ ما نظراً لاشتعال الحرب من جديد. لقد نشر الكثير من الأشخاص ممّن كانوا يتصدّرون الصفوف الأولى في حزب العمال (P.K.K) و يتبؤون مواقع متقدمة فيه و يشغلون مسؤوليات سياسية و عسكرية خاصة و انشقّوا عنه لاحقاً، نشروا العديد من المقالات و التحليلات أشاروا فيها إلى هذه القضية و هي أنّ الحرب مع تركية لم‌تكن ذات فائدة. فهذه التكتيكات و الاشتباكات قد جُرّبت في السابق، و من غير الممكن الحصول على نتيجة جديدة من طريقة قديمة. يتفق الجميع على أنّ حزب العمال (P.K.K) لن يحصل على نتائج تذكر من هذه الحملات و الاشتباكات، و لن تعود الحرب بأيّ نفع على الأكراد. و لكن من وجهة نظري الشخصية أقول، إنّ زعماء حزب العمال (P.K.K) وقعوا ضحية حسابات خاطئة عندما توهموا أنّ باستطاعتهم التغلغل في شمال سورية و توسيع نفوذهم هناك، و تناهت إلى أذهانهم تصورات عقيمة حول إمكان ممارسة ضغوط على تركية، بالإضافة إلى أنّ شبكة دولية تمكنت من التأثير عليهم بغية خلق مشكلة لتركية. 


فصلية طهران: لقد استشكلت الحكومة التركية على حزب الشعوب الديمقراطي في أمرين، الأول، أنّه بوصفه أحد التشكيلات الفرعية لحزب العمال (P.K.K) عمد في مجالس البلدية التي تقع تحت سيطرته إلى وضع جميع إمكاناتها من قبيل التخصيصات المالية و الآليات و العناصر و الكوادر البشرية و المباني و الكثير من السيارات الحكومية و سائر التجهيزات و الأدوات و جميع الإمكانات التي تتوفر عليها المجالس البلدية بشكل سري وضعتها في خدمة حزب العمال (P.K.K)، و بذلك تكون قد ارتكبت مخالفة، و على هذا الأساس قامت الحكومة بطرد رؤساء مجالس البلديات، و نصّبت مكانهم قيّمين ليقوموا بواجباتهم. الأمر الثاني أو الإشكال الثاني هو أنّ هذا الحزب حصل على آراء الناس في المناطق الكردية التركية ليكون ممثّلهم في البرلمان التركي و يطرح مطاليبهم و المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية التي تعاني منها المناطق الكردية و يقوم بمتابعتها، في حين أنّ ممثّلي الحزب كان يردّدون شعارات حزب العمال و مطاليبه. هل توافقون على هذين الإشكالين المطروحين؟ و إلى أيّ مدى؟ 


*وهاب جوش كُن: أعتقد أنّ توجيه اتهامات من قبيل سوء استغلال المنصب و تسخير تخصيصات مجالس البلدية و إمكاناتها لصالح الجناح العسكري لحزب العمال (P.K.K) هي قضية ذات بعد قانوني، و يجب التعاطي مع هكذا قضية بالآليات القانونية. فالدولة تمتلك مفتشين أكفاء و مهرة و كذلك يتمتّع الجهاز القضائي بإمكانات و قدرات خاصة، و بمقدور هذه المؤسسات أن تحقّق في أيّ مخالفات ربّما تكون حدثت. و لم‌ألاحظ حتى اليوم أيّ قضية أو ملف تشكّل في هذا السياق و تمّت متابعته بشكل جدي عبر الطرق القانونية. أمّا في البرلمان فالقضية مختلفة، فأنا أعتقد أنّ الإشكالية أو الغلطة الكبرى التي ارتكبها حزب الشعوب الديمقراطي في المجلس الوطني التركي (البرلمان) أنّه بدلاً من أن يسلك كقوة سياسية و أحد مصادر السلطة السياسية في البرلمان و يدافع عن حقوق الأكراد، و يطالب عبر معارك برلمانية بتفعيل الحلول السياسية و نزع سلاح حزب العمال (P.K.K) راح يتصرّف، للأسف، على نحوٍ أوحى للجميع بأنّه يتبع رغبات و أوامر و تعليمات زعماء حزب العمال (P.K.K)، و قد أضرّ هذا السلوك، بالقطع، بمصالح الأكراد، و صار حزب الشعوب الديمقراطي ليس أكثر من جماعة صغيرة لا شغل لها سوى الدفاع عن شعارات حزب العمال.


فصلية طهران: كما تعلمون أنّ الكثير من مشاكل الأكراد في تركية و النزاعات التي جرت حتى اليوم تحمل أبعاداً قانونية، و لذا يمكن حلّ بعض تلك المشاكل عبر الطرق القانونية. و طبقاً للدستور التركي الذي ينص بشكل واضح في المادة 66 منه على أنّ جميع الأشخاص الذين يتمتعون بحق المواطنة و يعيشون في هذا البلد كمواطنين هم أتراك. و تبعاً لهذه النظرة القانونية، فإنّه عملياً لا يوجد في تركية سوى العنصر التركي، و في ذلك دليل واضح على تجاهل هوية الأكراد. برأيكم لماذا لا تبادر جميع الأحزاب التركية، و على الأخص الحزب الحاكم لاتخاذ خطوات بتغيير هذه المادة؟


*وهاب جوش كُن: لا أعتقد أنّ ذلك أمر عسير. لقد جرت مناقشات كثيرة في تركية حتى اليوم حول الموضوع. الكل يقرّ بضرورة تدوين دستور جديد لتركية، و طُرحت هذه الفكرة عدّة مرات. إنّ تعريف حقّ المواطنة في الدستور التركي يقوم على أساس تعريف عرقي و إثني، و طبعاً يترتب على ذلك مشاكل خاصة، هذا في حين أنّه يعيش في تركية، علاوة على الأتراك، الأكراد و مكونات إثنية أخرى، و لهذا يلزم أن يكون تعريف المواطنة شاملاً و متكاملاً و جامعاً. في فترة سابقة حصلت مناقشات حول المسألة، لكنّها توقفت تماماً و أغلق باب الحديث بشأنها. أنا شخصياً تناولت هذا الموضوع في عدد من المقالات، و ذكرت عدّة مرات بأنّ تعريف حق المواطنة يستلهم من خصوصية قومية مثيرة للجدل و المشاكل، و لا بدّ من تغييره، و ذلك يقتضي إدراج موضوع تدوين دستور جديد لتركية على جدول أعمال البرلمان. و لكن في ضوء الأوضاع الراهنة و المشهد السياسي في تركية و التوازنات الحزبية التي تحكم البرلمان التركي، فإنّ الظروف غير مواتية لتعديل الدستور و تقديم تعريف جديد للمواطنة على أساس آلية ديمقراطية. 


فصلية طهران: ثمّة سؤال كلاسيكي و قديم هو، ما هي على وجه الدقة مطاليب الأكراد في تركية؟ فكثيراً ما نرى زعماء الأحزاب و الناشطين السياسيين يتحدّثون بدلاً من الأكراد، و يقدّمون بالنيابة عنهم مجموعة من المطاليب. فهل تجسّد هذه المطاليب طموحات الناس العاديين في الشارع الكردي؟ 


*وهاب جوش كُن:  بصراحة، أنا أيضاً لا أريد التحدّث بالنيابة عن الأكراد، بل أريد هنا أن أطرح وجهة نظري كمواطن فقط. ليس صحيحاً تصوير أوضاع الأكراد في تركية بأنّهم يعيشون في زاوية من تركية و يشكّلون كثافة سكانية في عدد من المحافظات، و محشورين في رقعة جغرافية صغيرة و محدودة و لهم مطاليب خاصة بهم. فالجغرافيا السياسية المعاصرة لتركية تشير إلى أنّهم يتوزّعون على كامل البلاد و في جهاتها الأربع. بإمكانكم السفر إلى أي محافظة تركية لتروا بأنفسكم أنّها تضمّ خليطاً من السكان الأكراد. لهذا السبب أعتقد أنّنا عندما نبحث عن حلول لمشاكل الأكراد لا ينبغي أن نتحرّى نماذج و آليات تركّز على منطقة بعينها، و كأنّنا نسعى إلى تنظيم منطقة معينة من تركية، أو نمنح مزايا لفئة أو مكوّن خاص في تركية. في ظنّي أنّ شريحة واسعة من المجتمع الكردي في تركية لا تجد أيّ مشكلة في العيش بسلام إلى جانب سائر شرائح المجتمع الأخرى، و مشاركتهم حق المواطنة. هم لا يطالبون سوى بضمانات قانونية تحفظ لهم خصوصياتهم الثقافية. بالإضافة إلى مطلب آخر و هو إتاحة الفرصة لهم لتوسيع مشاركتهم السياسية و التنفيذية، و أن يمارسوا في مناطقهم دوراً أكبر في هذين المجالين. لا توجد عندنا في تركية مشكلة اسمها مجهولية المشكلة الكردية من منظار رجال الدولة، فالحكومة مهتمة تماماً بالمشكلة، و تعرف ما هي النواقص و الإشكاليات التي تشوبها. لاتوجد عندنا مشكلة نقص المعلومات و البيانات حول الأكراد. ما ينقصنا هو ضعف الإرادة فقط. ضعف إرادة المسؤولين في الاستجابة لحقوق الأكراد و مطاليبهم، هذه هي فقط المشكلة من وجهة نظري، و إلّا فهم يعلمون جيداً ما هي المطاليب الرئيسية للأكراد، و من حسن الحظ أنّ عدداً لا بأس من المختصين و الباحثين و الأكاديميين في البلاد قاموا بإجراء دراسات حول المشاكل الثقافية و الاجتماعية و السياسية للأكراد، و حصلوا على معلومات واضحة عن مطاليب الأكراد. كما ذكرت، يرغب الأكراد في العيش بسلام في بلدهم تركية إلى جانب شرائح المجتمع الأخرى، و أن يحصلوا، في الوقت نفسه، على حقوقهم، و تعطى ضمانات قانونية لمطاليبهم، و تكون لهم علاقات وثيقة و جيدة مع بني جلدتهم أكراد العراق و سورية و إيران.


فصلية طهران: هل تعتقدون أنّ تغيير النظام السياسي في تركية يمكن أن يساعد في حلّ المشكلة الكردية؟ على سبيل المثال، إلى أيّ مدى ستتغير أوضاع الأكراد في تركية في كل من الأنظمة التالية: البرلماني، الرئاسي، الإدارة الذاتية، الفدرالي؟


*وهاب جوش كُن: لطالما كان هذا الموضوع مثار نقاش في تركية و هو، أيّ نوع أو صيغة من الأنظمة السياسية أو الأساليب التنفيذية أفضل لتركية و أنسب. لقد أُشبع هذا الموضوع نقاشاً في تركية، و مبدئياً، ليس هناك موضوع يتحرّج أحد من مناقشته. أعتقد أنّه لا توجد علاقة خاصة بين نمط الحكومة و بين حجم التنمية السياسية و الانفتاح الديمقراطي. أي، بعبارة أوضح، مهما كان نوع النظام الحاكم في تركية، رئاسي أو شبه رئاسي أو برلماني أو أيّ صيغة أخرى، فإنّ هذا لا يمكنه أن يحدث تغييراً تلقائياً في المعادلة على صُعُد أوضاع الديمقراطية و الحريات الفردية و الاجتماعية و التنمية السياسية. لا نستطيع أن نعثر على علاقة وثيقة من نمط اللازم و الملزوم بين طبيعة النظام السياسي و حجم التنمية السياسية و تطور القطاع الخاص في البلاد. المهم هو أنّ أيّ نظام سياسي أو صيغة خاصة تحكم تركية يجب أن يكون هاجسها الأول و قبل كل شيء صيانة الحقوق و حريات المواطنين بصورة تامة. و من المهم أيضاً أن تكون هناك دولة مركزية. ما نشاهده اليوم في تركية عبارة عن نظام سياسي مركزي ثقيل الخطى، يسخّر الكثير من الموارد الاقتصادية و البشرية بشكل غير سليم، و نظام كهذا يمكن أن يثير المشاكل. و من أجل خلق نوع من التطبيع و ترسيخ الأوضاع  الإنسانية و السياسية في تركية، ينبغي استحداث صيغة لا مركزية في البلد. أعني، نظام سياسي تركي يعتمد أسلوب اللامركزية في الإدارة و التنفيذ. في حال حصول توافق حول هذه الفكرة، فإنّه يمكن لاحقاً مناقشة شكل و طريقة تطبيقها، على سبيل المثال، إلى كم منطقة يجب تقسيم تركية، أو، ما هي الصلاحيات التي يجب أن تتمتع بها المحافظات و مراكز المحافظات؟ كل هذه الأمور مطروحة للنقاش و البحث. و لكن الأمر المؤكّد هو يجب نقل جزء مهم من صلاحيات المركز أو العاصمة إلى المجالس المحلية في المحافظات. و ما دمتم طرحتم السؤال، فدعني أقول، بحسب اعتقادي، في الأدبيات السياسية التركية هناك حساسية مفرطة في المجالين الإعلامي و الاجتماعي إزاء بعض المصطلحات و المفاهيم السياسية. فإذا تحدّثت مثلاً عن مصطلح الفدرالية، فسيثير حساسية خاصة لدى شريحة واسعة من المجتمع، و إذا طرحت موضوع الحكم الذاتي سوف تستشيط شريحة أخرى غضباً. من هنا فأنا أعتقد إذا أردنا الحديث عن شكل الأنظمة السياسية في تركية، فليس من الضروري طرح مفاهيم تثير الحساسيات و تستفز مشاعر بعض الشرائح في المجتمع، و كأنّ عيونهم تقدح برقاً و شرراً عند سماع هذه المفردات. بمقدورنا أن نتحدّث أولاً و قبل كل شيء عن مضمون الأنظمة السياسية و حول مختلف جوانب الحقوق الفردية و الاجتماعية، و أن نراعي عند مناقشة هذه الموضوعات عدم إثارة الحساسيات و استفزاز المشاعر.


فصلية طهران: استطاع حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 2014 م أن يفوز بعدد كبير من مجالس البلدية في تركية بلغت 103 مجالس، و انخرطت مئات الكوادر البشرية التابعة للحزب للعمل في تلك المجالس. أنتم كشخص قضى طفولته و شبابه في مدينة كردية هي دياربكر و ما تزالون تعيشون في هذه المدينة، و بالتالي تعتبرون مواطناً فيها، هل لكم أن تقيّموا أداء حزب الشعوب الديمقراطي في مجال إدارة المجالس البلدية و تقديم الخدمات للناس، هل كان أداؤه مرضياً أم لا؟


*وهاب جوش كُن: كان حزب الشعوب الديمقراطي يعاني من مشاكل جدية في مجال الإدارة و إعداد العمداء الأكفاء و تقديم الخدمات للناس، و كان دائماً في موقف ضعيف. الناس في دياربكر و سائر المناطق التي هيمنت كوادر حزب الشعوب الديمقراطي على مجالس بلدياتها يعرفون جيداً أنّ إناطة مسؤولية تلك المجالس بهذا الحزب كانت تجسيداً لرغبات الناس و آرائهم في صناديق الاقتراع المستندة إلى اعتبارات الهوية والعرق. مبدئياً، الموضوع لا يتعلّق برضى الناس عن أداء الحزب أو ترشيحه عمداء و رؤساء للمجالس البلدية ناجحين و أكفاء، بل إنّ آراءهم الانتخابية و تصويتهم كان للهوية و القومية. و في المقابل، فإنّ لحزب العدالة و التنمية مقاربة أخرى في مسألة تقديم الخدمات و إدارة المجالس البلدية فهو لا يهتمّ بالهوية و القومية ولا تعنيه هذه القضايا، و إنّما يسعى فقط إلى تقديم الخدمات ليتمكن بهذه الطريقة من زيادة شعبيته و تعميقها. و باعتقادي أنّ أداء حزب العدالة و التنمية كان جيداً في مجال خدمات مجالس البلدية في المحافظات الكردية في جنوب و جنوب شرق تركية، و كان يمتلك عمداء ذوي خبرة و كفاءة في قضايا الإدارة و العمران و البلدية. لكنّه كما قلت لا شأن له بمطاليب الناس المتعلقة بالهوية و القومية و لا هو مستعد لطرحها و مناقشتها.

 

فصلية طهران: ما هي مقاربة حزب العدالة و التنمية في المناطق الكردية فيما يخص إعداد و استخدام الكوادر و المسؤولين الناطقين باللغة الكردية؟ 


*وهاب جوش كُن:  في الحقيقة، إنّ استراتيجية حزب العدالة و التنمية في المناطق الكردية لا تتلخص في العمل على قضايا الهوية و القومية و الحقوق الثقافية. و إنّما يريد كسب شعبية و نفوذ أكبر من خلال تطبيق استراتيجية تقديم الخدمات و تعزيز الرخاء و التنمية و العمران. في مرحلة سابقة كانت لدى الحزب كوادر و مسؤولون كثر معظمهم من الأكراد، و كان باستطاعتك أن تتحدث معهم حول المشكلة الكردية. أما اليوم فلم‌يعد عددهم كبيراً و استبعد أن تبادر الحكومة إلى إعداد كوادر كردية. بل إنّ سياسة هذا الحزب هي الاستعانة بكوادر تكنوقراط أكفاء من تلك المناطق، و أن تنيط بهم المسؤولية ليستطيعوا تقديم خدمات أكبر على طريق التنمية الاقتصادية لهذه المناطق.

 

فصلية طهران: هل تستطيع التطورات السياسية و الاجتماعية الراهنة في المناطق الكردية التركية أن تسير باتجاه خيار يكون بديلاً لحزب العدالة و التنمية و حزب العمال (P.K.K)؟


*وهاب جوش كُن: تشهد المناطق الكردية التركية منذ عام 2002 م و حتى اليوم منافسة محمومة بين تيارين سياسيين. و آراء الناس في تلك المناطق منقسمة بين حزب العدالة و التنمية و حزب الشعوب الديمقراطي. و لكن مع ذلك، هناك أيضاً أحزاب و تيارات و اتجاهات أخرى تضمّ الأكراد الانفصاليين و الأكراد ذوي التوجهات الإسلامية المتشددة، و الأكراد الاشتراكيين، و أنصار الفدرالية بالإضافة إلى جماعات أخرى غيرها. و تتوزع ولاءات الأحزاب على اتجاهات سياسية متباينة، و لكن بصورة عامة، يتصدّر هذان الحزبان، حزب العدالة و التنمية و حزب الشعوب الديمقراطي، بشكل جدّي منافسات المشهد الانتخابي، و يمكن القول بأنّهما تقريباً يتناصفان النفوذ في تلك المناطق. أعتقد إنّ حظوظ الأحزاب الأخرى في الصعود و طرح نفسها كبديل لهذين الحزبين المقتدرين ما تزال ضئيلة في ضوء الظروف الراهنة، كما يستبعد جداً أن يظهر حزب سياسي جديد و قوي على الساحة حالياً. و لكن إذا تحرّكت الظروف السياسية و الاجتماعية باتجاه تطبيع الأوضاع، و توقفت الاشتباكات، فلا شك أنّه سيكون بمقدور الأحزاب و الجماعات الأخرى أن تلعب دوراً أكثر أهمية، و لكن ما دامت ظروف الحرب و التوتّر مستمرة، فإنّ الاستقطابات مستمرة أيضاً. 

 

فصلية طهران: فلنعد إلى عامي 2012 م و 2014 م عندما كان صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (P.Y.D) و كثير من الزعماء الأكراد يزورون تركية بدعوة رسمية من الحكومة التركية، لكنّه حالياً موضوع على لائحة الإرهاب الحمراء الخاصة بوزارة الداخلية التركية، بالإضافة إلى أنّ أردوغان يصدر يومياً تهديدات بشنّ حملة عسكرية ضدّ المناطق الكردية في شرق الفرات و شمال سورية، ما السبب وراء هذا التحوّل؟


*وهاب جوش كُن: عندما كانت محادثات السلام جارية بين تركية و حزب العمال (P.K.K)، و كانت تركية تعتقد أنّ بإمكان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بوصفه جزءاً من حزب العمال (P.K.K) أن يشكّل طرفاً في المحادثات، و بالتالي إمكانية التواصل معه، كان صالح مسلم، كما قلتم، يسافر إلى تركية بحرية، و يُستقبل في وزارة الداخلية و ديوان رئاسة الوزراء التركية لإجراء محادثات و حوارات. في تلك الفترة لم‌تكن تركية قد وضعت حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري على لائحة الجماعات الإرهابية، و كانت تربط أنقرة بالزعماء الأكراد السوريين علاقات طيبة. عندما كانت محادثات السلام جارية بين تركية و حزب العمال (P.K.K)، كان القادة الأتراك يعتقدون بوجود تنظيمين مهمين و كبيرين في شمال سورية. الأول تنظيم داعش، و الثاني الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري. لم‌تكن الحكومة التركية ترغب بأي شكل التفاوض مع داعش أو تجسر علاقة أو حوار معه. و لكن كان باستطاعتها التحاور مع التنظيم الثاني أعني حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، و هذا ما حصل، فقد أقامت علاقة جيدة معه. و لكن بمجرد تعرقل محادثات السلام في تركية مع حزب العمال (P.K.K) و عاد الطرفان فجأة إلى القتال و التوترات السابقة، قطعت تركية علاقاته بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية، و صنّفتهم كإرهابيين، و تصاعدت حدّة المعارضة التركية شيئاً فشيئاً لتأخذ طابعاً عدائياً و هجومياً، حتى وصلت في نهاية المطاف إلى شنّ عمليات درع الفرات و غصن الزيتون، واستخدمت تركية القوة العسكرية لحسم المسألة و هاجمت في مدينة عفرين الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي. طبعاً انطلاق هذه العمليات العسكرية جاء بضوء أخضر روسي. في الوقت الحالي، كما أشرتم، أعلنت تركية عن هدف جديد أطلقت عليه الهجوم على شرق الفرات، يحدث هذا في الوقت الذي تتواجد قوات أمريكية في شرق الفرات و لها مقرّ في شرق هذه الرقعة الجغرافية بالتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي. وطبعاً لن تشنّ تركية عملية عسكرية في شرق الفرات من دون التنسيق مع الولايات المتحدة.


فصلية طهران: هل تعتقدون أنّ دعم الولايات المتحدة لأكراد سورية في شرق الفرات سيستمر على المدى الطويل، أم يحتمل أن يكون دعماً مؤقتاً، لاستخدامهم كورقة مثلاً؟


*وهاب جوش كُن: سياسة الولايات المتحدة على الدوام هي الاستفادة من أوراق مختلفة في كل منطقة. و على ما يبدو أنّ تواجدها في شمال سورية ليس مؤقتاً أو على المدى القصير، و أنّها تنسّق مع الأكراد لغرض إطالة أمد هذا التواجد. تبغي الولايات المتحدة من وراء تواجدها في سورية تحقيق عدّة أهداف من أهمها ضمان أمن إسرائيل و محاولة منع التمدّد الإيراني في المنطقة. تعلمون أنّ الولايات المتحدة أقامت عدّة نقاط مراقبة عسكرية على طول الحدود التركية و شرق الفرات لطمأنة تركية و إزالة هواجسها بالنسبة للوجود الكردي المسلح في شمال سورية، لكنّ تلك الهواجس ما تزال تساور تركية، و مع ذلك، فهي ليست في وضع يسمح لها بشنّ حملة مباغتة أو الإقدام على عمل ما، أو أن يتطوّر خلافها مع الولايات المتحدة حول هذه المسألة ليصبح خلافاً جدياً. و في هذا السياق، أعلن جيمس جيفري المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي في الملف السوري قبل أيام قليلة أنّ أحد أهداف الولايات المتحدة إيجاد نقطة تفاهم مشتركة بين تركية و حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، و في اعتقادي أنّ هذه هي إحدى الاستراتيجيات و الأهداف المهمة للولايات المتحدة و هي أن تدفع تركية و الأكراد في شمال سورية إلى نقطة تسمح لهما بالتفاهم و التعاطي المشترك، أمّا عن حظوظ نجاحها في هذه المسألة و ما إذا كانت قادرة على تحقيق هذا النصر المهم أم لا، فما يزال هذا الأمر غير واضح و لا بدّ من الانتظار لنر ما سيحدث.

 

فصلية طهران: في هذه الأيام تصل أخبار كثيرة عن حضوركم مع رفاقكم مؤتمراً في أوسلو عاصمة النرويج، حيث تروّج الكثير من وسائل الإعلام التركية أخباراً عن مشاركتكم مع عشرة ناشطين في جماعة حكماء السلام في مؤتمر بالنرويج في إشارة قوية على ما يبدو عن احتمال انطلاق جولة جديدة من محادثات السلام بين الحكومة التركية و حزب العمال (P.K.K) ، فهل من المقرر أن تشاركوا أنتم و بقية رفاقكم كوسطاء في هذه المحادثات؟ و ما هو تحليلكم لهذه الجولة؟ 


*وهاب جوش كُن: في الحقيقة إنّ اجتماعاتنا في أوسلو لا ترقى إلى مستوى وصفها بأنّها جولة تمهيدية لبدء مسيرة جديدة من محادثات السلام. لقد كانت اجتماعات عامة، و بخلاف ما تمّ تداوله في تركية، و التعليقات التي ظهرت في هذا السياق، لم‌تكن سرية مطلقاً. كانت دعوة عامة لحضور تلك الاجتماعات، و قامت وسائل الإعلام بتصويرها و كان كل شخص يطرح ما يدور في ذهنه من أسئلة. في الواقع، كانت اجتماعات تجريبية ليعرض خلالها أعضاء جماعة حكماء السلام تجاربهم و آراءهم و مقارباتهم حول محادثات السلام بين تركية و حزب العمال (P.K.K)، و مناقشة ما يطرح من أفكار . من وجهة نظري الشخصية، إذا كان مقرراً أن تجرى جولات جديدة من محادثات السلام في تركية بين الحكومة و حزب العمال (P.K.K) فعلينا أن نولي اهتماماً للمسألة السورية بدلاً من أن نضرب أخماساً و أسداس و نقوم بتحليل مسارات هذه المحادثات في تركية. إذا تقرّر حصول اتفاقات جديدة بين أنقرة و بينهم بشأن الشمال السوري و التطورات الخاصة بأكراد تلك المنطقة، فيجب أن تعمل تركية مع حزب الاتحاد الديمقراطي (P.Y.D) على حل المشاكل العالقة بينهما، للوصول إلى تفاهمات مشتركة، حينئذ فقط هناك فرصة في إمكانية البدء بجولة جديدة من محادثات السلام.

 

فصلية طهران: نشكركم على إتاحة هذه الفرصة.


قراءة: 732