فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

كلمة رئيس التحرير

 


يعتبر تشكيل سلطة حكم ذاتي في المناطق الكردية العراقية (السليمانية وأربيل ودهوك) إنجازاً رئيسياً لأكراد العراق. وقد مهد الطريق لهذا النصر التاريخي عاملان أساسيان يتمثلان بنضال الشعب الطويل وجهود المنظمات السياسية من جهة والضعف الشديد الذي شهده نظام صدام في السنوات الأخيرة من حكمه. فبعد سقوط نظام صدام البعثي وتشكيل النظام الجديد، حظي الكرد بموجب الدستور الجديد الذي تم تبنيه في العام 2005م بامتيازات خاصة، من إنشاء مؤسسات أمنية وعسكرية، وتشكيل برلمان محلي، وما إلى ذلك. بالإضافة إلى تولي الكرد لمنصب رئاسة الجمهورية وبعض المناصب والوزارات الرئيسية في الحكومة العراقية المركزية بناءً مبدأ التوافق (ضمن قانون غير مدون)، وحصولهم على نسبة 17 بالمائة من إجمالي ميزانية مبيعات النفط العراقي، إلى جانب مزايا خارج نطاق القانون مثل البيع المباشر للنفط، وإقامة علاقات خاصة مع الدول الأخرى (خارج سيطرة الحكومة المركزية)، إلخ، كل ذلك عزز مكانة الكرد السياسية والمالية وزاد من مصداقيتهم. ونتيجة لهذه المزايا، قامت حكومة إقليم كردستان بشكل عملي بتحسين موقعها وتعزيز مكانة الكرد وتمكينهم من الحصول على نتائج كبيرة مقارنة بسائر المواطنين العراقيين الآخرين، 
إن تحقيق هذا النظام القانوني والسيادة المنظمة والتمتع بشتى الامتيازات ليس إنجازًا بسيطاً. نعم، قد لا يحظى الوضع الحالي بالرضى الكامل من قبل أبناء تلك المحافظات الكردية، وتذمرهم من بعض المشكلات التي كان من المتوقع حلها مع تشكيل حكومة الإقليم ومعالجة التحديات التي سيواجهها البعض بعد ثلاثة عقود من الحكم الذاتي في الإقليم.
بطبيعة الحال، قدمت جمهورية إيران الإسلامية كجارة وحليف قوي مساهمة كبيرة في تحقيق وحماية هذا الإنجاز العظيم، حيث حظيت تيارات القوة الرئيسية في المنطقة الكردية بدعم جمهورية إيران الإسلامية الدائم (تجلى ذلك بوضوح إبّان تهديد داعش لمدينة أربيل).
إلا أن الحكومة المركزية العراقية على الرغم من عدم ارتياحها لبعض الممارسات السياسية الكردية، ولأسباب خاصة من ضمنها خشية التورط في حرب أهلية واسعة النطاق والاشتغال بمكافحة الجماعات الإرهابية، اعتبرت معالجة المشكلات وحل الاختلافات مع أربيل خارج الأولويات وأن الوقت الراهن ليس مناسباً للدخول في صراع وتحديات من حكومة الإقليم. وقد شهدت سماء العلاقة بين بغداد وأربيل في ظل النظام الفدرالي الجديد حالة غائمة أحياناً وممطرة أخرى ولكنها لم‌تكن عاصفة أو حرجة. وقد استخدم كل من الطرفين طيلة الفترة المنصرمة أوراق الضغط والقوة التي يمتلكها لإجبار الجانب الآخر على الامتثال، غير أن هذه السياسة لم‌تؤت أكلها ولم‌تثبت فاعليتها ولم‌تساعد في حل أي من المشاكل والتحديات الثنائية. ومن الواضح أن التحديات التي تواجهها حكومة الإقليم التي تتمتع بخبرة تزيد عن 30 عاماً من الحكم، لا يمكن حصرها بالقضايا الثنائية مع الحكومة المركزية، بل هناك تحديات أخرى على الساحة المحلية والإقليمية والدولية تؤثر على مصير الكرد.

ألف: التحديات الداخلية
انتقاد الناس للأداء الحكومي، حيث يرى بعض السياسيين الكرد أن حكومة إقليم كردستان قد فشلت في الوفاء بجميع واجباتها أو في تحقيق الأهداف المعلنة مسبقاً كرؤية سياسية مؤملة، بما فيها ضروريات الالتفات إلى معالجة القضايا الاجتماعية، وحرية التعبير، والحريات الفردية والاجتماعية، ومشاكل الناس وتحديات الشباب. وقد أثارت شفافية القضايا الاقتصادية ومقدار الإيرادات التي تلقتها حكومة الإقليم من مبيعات النفط وما إلى ذلك الكثير من الانتقادات ضد حكومة أربيل في الوضع الحالي. وللسبب نفسه شهدت محافظات الإقليم في بداية ما يسمى بالربيع العربي، موجة من الاحتجاجات في هذه المناطق تم اخمادها بالقوّة.
عدم وجود الديمقراطية، وتبادل السلطة من قبل الأحزاب الكردية لا يتم من خلال اعتماد الوسائل الديمقراطية كالمؤتمرات والانتخابات الداخلية للحزب، وتوزيع سلطة الإقليم كردستان بطريقة عائلية وأسرية، كل هذا بات يمثل يمثّل حقيقة هيكلية النظام السياسي في حكومة إقليم كردستان التي تلقت انتقادات واسعة النطاق.
اتهام بعض المديرين التنفيذيين بالفساد المالي والاقتصادي في تقارير وسائل الإعلام التي تشير إلى أن الفساد المالي والاقتصادي في الهيكل السياسي للمنطقة الكردية قد تجاوز المتوسط وبات يمثل مشكلة خطيرة. 
يشار إلى أن الفساد في بعض الأحيان صار يمثل أزمة خطيرة للغاية دعت بعض الناشطين السياسيين إلى اعتبار خطر الفساد في جسد حكومة الإقليم أكثر خطورة على المجتمع من الخطر الداعشي، والتأكيد على أن الفساد متجذر بعمق وأصبح مشكلة مستشرية بين الرؤساء والمدراء التنفيذيين والنواب والوزراء وغيرهم. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة، إلا أن تمكنت من زعزعة ثقة الجمهور بالمسؤولين الحكوميين وتضرر الحكومة بتلك الاتهامات المالية سواء صدقت تلك الاتهامات أم لا.
عدم وجود دستور وقضاء قوي ومستقل، يعد من نقاط الخلأ في الإقليم الكردي، حيث فشلت القوى والأحزاب الفاعلة هناك في الاتفاق على نص دستوري، وعلى رغم وجود السند القانوني لتدوين دستور يخص الإقليم، إلا أن الخلافات الحزبية لم‌تسمح بكتابة نص دستوري، وقد تحدثت الأحزاب الفاعلة هناك عن هذا الأمر عدة مرات، ولكن شدت الخلافات بينها فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية وتقاسم السلطة وتم تهميش مسودة الدستور. وبالتالي، لا توجد محكمة عليا أو محكمة دستورية في هذه المناطق، والقضاة هناك لا يقعون تحت إشراف قضائي مستقل وقادر، كما أن القضاء يتحرك في ظل هيمنة وسلطة الحزب، واذا ما أصدر القضاء حكماً لا يمكن تنفيذ الحكم للسبب ذاته، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن للمرء أن يتوقع مواجهة جادة مع الفساد.
ومن التحديات الداخلية الأخرى التي يشهدها الإقليم إنشاء إقليمين كل إقليم يتمتع بسيادة، حيث ينقسم إقليم كردستان الآن وبصورة فعلية إلى إقليمين يحكمهما الحزب الديمقراطي (البارتي) وحزب الاتحاد الوطني. وبدلاً من تقديم الأمور في إطار المصالح والأحزاب الوطنية، فإنها باتت تنظم سلوكها على أساس المصالح الحزبية. حيث تخضع محافظتا حلبجة والسليمانية حاليًا لسلطة حزب الاتحاد الوطني، فيما تخضع محافظتا دهوك وأربيل لسيطرة الحزب الديمقراطي، كذلك الأمر بالنسبة إلى القوات العسكرية التي تعمل كالبشمركة هي عملياً منقسمة إلى فصيلين يقع كل واحد منهما تحت سيطرة أحد الحزبين النافذين، وينطبق الشيء نفسه على الشرطة والمخابرات.
إن النزاع حول الاستفتاء وتحديد مصير الحقوق الأساسية للأمم، هو الآخر يعتبر من التحديات التي شهدها الإقليم حيث يجب أن يتم بطريقة قانونية ومقبولة، ولم‌يكن هناك فهم مشترك وتوافق داخلي لتوقيت وطريقة التنظيم والتنسيق مع الحكومة المركزية والجيران وما إلى ذلك، ففي الاستفتاء الذي أجري بإصرار من بعض عناصر السلطة في المناطق الكردية والذي حظي بدعم من الحكومات أو الجهات الفاعلة الإقليمية التي أيدت الاستفتاء هذا النهج بناءً على أهدافها ومصالحها الخاصة، لم‌تؤخذ مصالح الشعوب الأصلية في الاعتبار. وعلى الرغم من التطورات اللاحقة التي أدت إلى تنحية نتائج الاستفتاء جانباً، لا تزال هناك فجوات داخلية حيث ألقت مجموعة من القادة الأكراد باللوم على الجانب الآخر بتهمة عدم قراءة الواقع جيداً فيما اتهم الفريق الآخر بالخيانة، وقد ذهب الناقدون لإقامة الاستفتاء بانه بحاجة إلى إجراء محاسبات أكثر دقة وقراءة واقعية لعواقب الاستفتاء ليتم تقييمه بجدية والخروج بنتائج مرضية، مع الأخذ بنظر الاعتبار ردود أفعال مختلف البلدان في المنطقة، والجيران والعالم بأسره، وبما أن الأمور لم‌تجر بشكل دقيق كانت التوقعات خاطئة. وفي الوضع الحالي بدلاً من أن يتحول الاستفتاء إلى عنصر يعزز النهج الوطني والسلطة الداخلية صار يمثل تحدياً داخلياً بالنسبة إلى قادة الإقليم وذريعة من أجل تعزيز الانقسام والثنائية القطبية التي يعاني منها الجميع.
قبل بضعة أشهر من الاستفتاء (في اكتوبر2017) التقيت في بغداد بالرئيس العراقي آنذاك الدكتور فؤاد معصوم لقاء حميماً وودياً للغاية سألت فيه عن آفاق الاستفتاء وآثاره المستقبيلة، فأجاب: إن تشكيل دول مستقلة ليس قراراً فردياً، وإنما هو قرار كبير له نطاق واسع ولايمكن اعتباره أمرًا مفروغًا منه. يجب أن يكون هناك تنسيق على عدة مستويات، فيجب اولاً أن تتفق التيارات السياسية الداخلية على هذا الأمر ثم تتحرك لتنفيذ القرار معاً. يجب على الدولة التي تسعى إلى الاستقلال أن تسعى وتوافق مع الدولة التي سيتم الانفصال عنها. فعلى سبيل المثال في حالة إسكتلندا والمملكة المتحدة، وافقت إسكتلندا أولاً على ضرورة إجراء استفتاء لإعلان استقلالها كدولة، وفي الوقت نفسه اتفقت مع الحكومة البريطانية على كيفية التصرف والخطوات التي يجب اعتمادها في حالة إجراء استفتاء لصالح استقلال إسكتلندا، وكيفيّة حلها في حالة حدوث مشاكل. كما يجب توفير دعم الجيران، وخاصة دول مثل إيران وتركيا، والتي سيؤثر الاستفتاء أيضاً على وضع أكرادهم. لايمكن للمرء أن يتوقع أن يتم تنفيذ مشروع استفتاء الاستقلال دون موافقة هذه الدول الإقليمية. وأضاف السيد معصوم: نحن كأحزاب كردية لم‌نعالج هذه القضايا ولم‌نتوصل إلى اتفاق مع الحكومة المركزية العراقية، و لايوجد أي تفاهم مع دول المنطقة، حيث يجب أن نتحدث إلى الجانب العراقي ونخبرهم بما نروم فعله ونستشرف رأيهم في القضية؟ و هل أن الاستقلال يشمل فقط السليمانية وأربيل ودهوك، أم أنه يشمل جميع المناطق الكردية؟ هل يشمل أيضاً المناطق المتنازع عليها؟ هل توافق الحكومة المركزية وبغداد؟ هل يتخلى الأكراد عن الخلافات؟ ففي مثل هذه المواقف (لم‌يعمد إلى حل هذه المشكلات)، نحن فقط رفعنا شعار الاستقلال من دون أن نلمس نتيجة ما.
يعتقد السيد معصوم انطلاقاً من منصبه كرئيس لجمهورية العراق، أنه وقبل تبني الشعارات وإثارة مشاعر الناس من خلال تسليط الضوء على قضية الاستقلال يجب على الساسة الكرد التوافق على القضايا المثيرة للجدل، وخاصة في المناطق المتنازع عليها (كركوك) من أجل اتخاذ خطوات فعالة في الاستفتاء. وعلى الرغم من أن جميع الطبقات الاجتماعية والسلطات الكردية تدعم الاستقلال الكردي لكن يبدو لي (والقول لمعصوم) أن نهج الدعاية الإعلامية ليس مفيدًا في هذه المرحلة وفي الوضع الحالي (خريف 2017)، حيث العراق ليس جاهزًا لمثل هذا التغيير، ولا يمكن الترويج للشعار لأنه يضلل الناس.
 الحقيقة هي أن الدكتور فؤاد يفكر بطريقته واقعية ، مشيراً وبوضوح تام إلى ما يراه في مصلحة الشعب الكردي والشعب العراقي (بغض النظر عن مدى تأثر سياسية الإثارة العاطفية في الوسط الكردي). وعلى الرغم من أنه تم تجاهل نصيحة هذا السياسي الذي تمرس في العمل السياسي، إلا أن التطورات اللاحقة أثبتت صحة تفكيره وصدق حدسه والتي يمكن أن تقلل من التكاليف المادية والمعنوية للعراق والمنطقة الكردية فيما لو أخذ بها.
واليوم، بعد ما يقرب من عامين على إثارة النقود ضد الاستفتاء الذي أقيم بسرعة و بلاروية، باتت تلك التوقعات أقرب إلى الحقيقة والواقعية وإن الاستفتاء لم‌يساهم في حل مشاكل الإقليم بل أضاف إلى المشكلة الكردية التي لم‌يتم حلها تعزيز الوضع الثنائي القطب والانقسام داخل التيارات السياسية الكردية.

ب . التحدي مع الحكومة المركزية
يؤكد الدستور، الذي أقرته جميع التيارات العراقية بما في ذلك الأكراد على وحدة الأراضي. ووفقًا للمادة 140 من الدستور، يتم أولاً تطبيع المناطق التي دمّرها النظام البعثي وعاد السكان النازحين إلى أراضيهم السابقة، يعقبه إجراء إحصاء سكاني للسكان الأصليين لتلك المناطق المتنازع عليها، وفي النهاية سيكون إجراء استفتاء لتحديد مصيرهم السياسي والإداري. لكن وإلى الآن لم‌تتمكن الحكومة العراقية من تطبيق المادة140بدقة وواقعية.

ج. التحديات الإقليمية
يتوزع الأكراد في أربع دول هي العراق وتركيا وسوريا وإيران ولهم تاريخ وطني وعرقي مشترك، ويعتبر الأكراد العراقيون أنفسهم مسلمين عراقيين، ويعتبر الفرد الكردي نفسه كردياً عراقياً، وينطبق الشيء نفسه على الشعوب الكردية في ايران وسوريا وتركية وهم يرون أنفسهم متمسكين بأراضيهم. ومعه لايمكن تجاوز هذه التبعيات بسهولة، إذ يجب ألاتؤثر القرارات الكبيرة سلباً على وضع الأكراد في الدول المجاورة. ان هذا السلوك غير مقبول لأي من البلدان وسكانها الأكراد. ولقد سمع القادة الأكراد العراقيون مراراً وتكراراً ًمن المسؤولين في دول أخرى (إقليمية ودولية على حد سواء) أن الأكراد جزء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ويجب أن تحل هذه القومية مشاكلها داخل حدود هذه البلدان الأربعة وبالتفاوض مع عواصم بلدانهم.
هذه التحديات تملي على القادة الأكراد العراقيين أنه في سياق الشؤون الداخلية يجب عليهم أن يقرروا ما يخص شؤونهم الداخلية فقط (وفقاً للقواعد) وأن يلتزموا بالتحالفات المحلية والإقليمية، ولاينبغي أن يكون سلوكهم استفزازياً للحكومات والدول المجاورة. كما وتشير التحديات الداخلية أيضاً إلى أنه ينبغي للسلطة في الإقليم أن تسعى للوصول إلى مستوى مقبول من الرضا وهذا يستدعي القيام بخطوات جادة واستثمار الفرص الاستثنائية للحكم في هذه المناطق بعرض نموذج عام للديمقراطية ورؤية وطنية وسياسة حسن جوار.


قراءة: 1111