فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

حلقة حوارية تخصصية دور الأكراد في التحولات المستقبلية للمنطقة

الحلقةالثانية؛ دراسة القضايا الكُردية في العراق و إيران
أجرى الحوار؛محمد علي دستمالي(خبير في الشؤون التركية والكردية)

تلميح
 من أجل رسم ملامح محددة و واضحة و واسعة عن الآراء و المقاربات الفكرية و السياسية و الإقليمية لمختلف الأحزاب فيما يخص تحولات القضية الكردية، عقدت فصلية طهران لدراسات السياسة الخارجية حلقة حوارية نقاشية بحضور زعماء و كبار أعضاء بعض الحركات الكردية في المنطقة، لاستبيان آرائهم في التحولات الجارية، و بالتوازي أجرت المجلة حواراً مع زعماء الأحزاب الكردية التركية و السورية و إقليم كردستان، و لغرض استكمال التحليلات المطروحة، تمّ عقد حلقة نقاشية تخصصية بحضور عدد من الناشطين و المحللين الأكراد الإيرانيين، نوقشت خلالها الاستنتاجات و الآليات المطروحة. السمة المشتركة التي تجمع الشخصيات المشاركة في الندوة هي أنّهم جميعاً مستنيرون و مثقفون من الجيل الجديد من الأكراد الإيرانيين، و يواصلون دراستهم في الجامعات الإيرانية، و لكل منهم مقارباته و آراؤه الخاصة في القضايا الكردية، فضلاًً عن تدوينهم العديد من المقالات و المؤلفات في هذا المجال. عقدت الندوة في جامعة كردستان بمدينة سنندج الإيرانية في يوم الجمعة 14 مارس̸ آذار 2019 م و بمشاركة أربع شخصيات فكرية أوردنا فيما يلي تعريفات مختصرة بشأنها، نرجو أن تحظى باهتمام القارئ الكريم.
 ۱. الدكتور صلاح الدين خديو، من مواليد 1973 م و هو كردي من مدينة مهاباد الإيرانية بمحافظة أذربيجان الغربية، خريج قسم الصيدلة في جامعة تبريز، دوّن في الآونة الأخيرة العديد من المقالات حول التحولات الكردية و تاريخ الأحزاب و الحركات الكردية نُشرت في المحافل السياسية الداخلية.
 ۲. الدكتور اسكندر مرادي، من مواليد 1977 م، من مدينة سروآباد (تقع بين سنندج و مريوان) بمحافظة كردستان، حاصل على شهادة الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة طهران، تقلّد في السنوات الأخيرة عدة مناصب إدارية مثل رئاسة جامعة بيام نور في كردستان، كما أقام عدد من الدورات و الورش التعليمية في مادة الجغرافيا السياسية.
 ۳. الدكتور اردشير بشنج، من مواليد 1979 م في مدينة جوانرود بمحافظة كرمانشاه، حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من الجامعة الإسلامية الحرة بطهران. كتب العديد من المقالات و صدرت له بعض الكتب التي تتناول القضية الكردية، و له نشاطات في الإعلام التلفزيوني.
 ۴. محمد علي دستمالي، خبير في الشؤون الكردية و التركية، و محلل و مراسل صحفي، ولد بمدينة سنندج عام 1977 م، و هو مدير هذه الحلقة النقاشية.

 

 

 

فصلية طهران:  أرجو من الأستاذ الدكتور اسكندر مرادي أن يوضّح لنا ما هي السمات التي تطبع أوضاع الأكراد في هذه المرحلة،  و بماذا تتميّز عن المراحل التي سبقتها؟


*د. اسكندر مرادي: نظراً لكون مجال تخصّصي الأكاديمي هو فرع الجغرافيا السياسية،  و معظم نشاطاتي و أبحاثي في هذا الحقل،  لذلك أفضّل أن أجيب عن سؤالكم استناداً إلى القضايا الجيوسياسية للأكراد. 
يعود رسم الجغرافيا السياسية و تخطيط الحدود و الخرائط الراهنة لبلدان الشرق الأوسط إلى أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. من أهم القضايا التي تتعلق بالشعب الكردي هي أنّ مشكلته لم‌تبرز كقضية عالمية في القرن التاسع عشر على صعيد المعادلات الدولية الكبرى،  بل بقيت محصورة في حدود البلدان التي تضمّ أقليات كردية بين ظهرانيها،  و بالتبع،  ظلّت مشكلتهم مسألة داخلية تخصّ تلك البلدان و هي العراق و سورية و تركية و إيران. و لكن في أواخر القرن العشرين،  و بالتحديد بعد التطورات التي حصلت في العراق في عام 1991 م و غزو صدام للكويت،  برزت المشكلة الكردية كقضية دولية،  و ظهرت انعكاساتها على صعيد العالم. 
تلاحظون في أيامنا هذه كيف أنّ القضايا التي تخصّ الأكراد تطرح باستمرار في منظمة الأمم المتحدة و مجلس الأمن و في وسائل الإعلام و نشرات الأخبار العالمية ،  و إنّه لحدث مهم من الناحية الجيوسياسية أن يدشّن الأكراد مديات خاصة من العلاقات و القضايا الدولية في القرن الحادي و العشرين و يصبحوا حديث العالم. في المحافل التي تطبخ فيها القرارات ذات الصلة بالقضايا العالمية، المحافل الأمريكية والاتحاد الأوروبي مثلاً،  يعدّ الأكراد،  عادةً،  حديث الساعة،  كما نجد المحافل الرسمية لوسائل الإعلام في بلدان إيران و تركية و سورية و العراق تستعرض باستمرار الأخبار و التحولات المهمة الخاصة بالأكراد. بحسب اعتقادي،  إنّ أهم فرق طرأ على أوضاع الأكراد في القرن الحادي و العشرين مقارنة بالقرن الذي سبقه هو أنّ مشكلاتهم صارت تُطرح على الصعيد العالمي.


*د. اردشير بشنج: أنا أيضاً أعتقد أنّنا لو قمنا بتبويب الوقائع و التحولات إلى عدّة مستويات سنجد أنّ أوضاع الأكراد و موقعهم في معادلات الشرق الأوسط خلال القرنين العشرين و الحادي و العشرين شهدت فروقاً جوهرية. 
1-على الصعيد الداخلي،  لا بدّ من الإشارة إلى نقطة و هي أنّ مشكلة الأكراد ما تزال قائمة في بلدان المنطقة و لكن طبعاً بدرجات و نسب مختلفة،  فما انفكّ الأكراد يناضلون في البلدان الأربعة إيران و تركية و سورية و العراق من أجل نيل حقوقهم و تحقيق مطاليبهم،  بدرجات متفاوتة كما قلنا،  بحسب البلد الذي يعيشون فيه. بعبارة أوضح،  ما تزال تلك المطاليب تشكّل «مشكلة»،  و مادامت هي مشكلة،  فهي تنطوي على قوة دافعية كامنة. 
2-زيادة مستوى التعليم و الوعي و البصيرة السياسية و التاريخية. نجد اليوم أنّ مستوى العلم و الوعي قد ارتفع في جميع مجتمعات الشرق الأوسط،  و المجتمع الكردي غير مستثنى من هذه القاعدة،  فمن نافلة القول أنّ مستوى الوعي لدى الأكراد اليوم لا يُقارن بما كان عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة. 
3-القضية الأخرى على المستوى الإقليمي،  و هي ازدياد وتيرة التنافس و الصراع بين القوى في هذه المنطقة من العالم ليجد الأكراد فيها فرصة للنشاط و التحرك. على سبيل المثال لقد أفسحت فترة الحرب العراقية الإيرانية مجالاً لأكراد العراق للتحرك في ميادين و فضاءات جديدة،  ثم استكملوها بفرص جديدة أتاحتها لهم حرب الكويت و الوقائع التي تلتها في عام 1991 م. و على الصعيد الدولي أيضاً،  فتحت سياسات القوى العالمية و تحركاتها في المنطقة فضاءات أرحب للأكراد. فقد رأيتم ،  مثلاً،  كيف ظهر الأكراد فجأة على خط الأزمة السورية كلاعب مهم بعد أن كانوا في الماضي مهمّشين و معزولين. 
4-من ناحية نجد بروز فكر «العولمة» في العالم في إطار جديد هو الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت) و العلاقات القائمة في العالم الافتراضي و شبكات التواصل الاجتماعي،  فوفّرت هذه المسألة فرصة لانتقال القضايا الكردية من محيط الحدود الأرضية إلى المديات العالمية. 
هذه أهم الفروق الجوهرية التي طرأت على أوضاع الأكراد من خلال المقارنة بين القرنين العشرين و الحادي و العشرين. لقد اكتسب الأكراد تجارب و خبرات كبيرة في العقدين الماضيين،  و لكن طبعاً بيّنوا في بعض المحطات أنّهم ما زالوا بحاجة إلى كسب خبرة أكبر،  و في كل الأحوال،  لايمكن غضّ الطرف عن حقيقة أنّ الحركات الكردية في العراق و سورية أصحبت في أيامنا هذه تمارس نشاطاتها بخبرة و مهارة أكبر،  كما برز الاهتمام بالهوية الإثنية و المؤسسات المدنية و السياسية في إيران و سورية بشكل أكثر وضوحاً. 

*د. صلاح الدين خديو: يعتقد بعض المؤرخين بضرورة أن نطرح تبويباًً خاصاًً بالنسبة للقرن العشرين. و لذلك يطلقون على الفترة من 1914 م إلى 1991م تسمية القرن العشرين الصغير. فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى و إبرام معاهدة سايكس بيكو،  شهدت منطقة الشرق الأوسط حالة من الانسلاخ و التحولات و رسم الحدود. و عام 1991 م أيضاً كان بداية لسلسلة من التحولات في العراق و المنطقة برمتها أفضت في نهاية المطاف إلى تبلور ما عُرف بسلطة «الأمر الواقع» للأكراد في العراق. و ابتداءً من عام 1991 م فما بعد أصبح للقضية الكردية صوت مسموع في المحافل الدولية. 
في ظنّي أنّ أهم حدث أو باراديغم سياسي و قانوني له صلة بالأكراد في نهاية القرن العشرين هو إعلان منطقة حظر الطيران (في شمال العراق) لأسباب إنسانية و من أجل الدفاع عن الأكراد بوجه تهديدات صدام،  و قد رمى هذا الإعلان بدولة قومية منفلتة العقال خارج إطار المشكلة الكردية. في السنوات الأخيرة،  و بعد مرحلة ما عُرف بالربيع العربي،  كانت المنطقة على موعد مرة أخرى مع تحوّل جديد كان له تأثير مباشر على مصير الأكراد حيث أبرزت الأزمة السورية دافعية الأكراد بشكل أوضح في المنطقة. صحيح أنّ دافعية الأكراد في العراق و سورية لم تكن مطلقة العنان،  لكنّها مع ذلك تمثّل تطوراً مهماً. و إضعاف موقع العراق و سورية في الشرق الأوسط إزاء القضايا الداخلية في البلدين و كذلك إزاء الأكراد يستحضر في أذهاننا ملاحظة تاريخية هي،  أنّ هذه المنطقة من العالم،  و لا سيّما المناطق الكردية في الشرق الأوسط كانت في الماضي موضع صراع و توتر مستمر بين الدولتين العثمانية و الصفوية،  لكنّنا اليوم لم نعد نسمع شيئاً عن وجود توتر أو نزاع بين البلدين،   بل إنّ ضعف العراق و سورية فيما يخص القضية الكردية،  يقابله بالتوازي زيادة قوة و اقتدار تركية و إيران،  و زيادة فرصهما في التعاون و التأثير على القضية الكردية.

فصلية طهران: عندما يجري الحديث عن القضية الكردية في المنطقة،  تستعمل بعض العبارات و المصطلحات و الملاحظات المتباينة في وصف و شرح الحركات و الأحزاب المختلفة. فالبعض يطلق على الأكراد مصطلحات من قبيل الانفصاليين و مثيري الشغب و مهدّدي الأمن و الاستقرار،  و البعض الآخر يصفهم بالفوضويين و العدميين،   بينما يرى فريق ثالث أنّ لهم الحق في تقرير مصيرهم. طبعاً هناك أيضاً من يعتقد بأنّ هذه التحركات أولاً و قبل كل شيء يجب أن تطرح في إطار المتطلبات الثقافية و الاجتماعية. ما هو رأي الأساتذة الأعزاء ؟ هل ينبغي أن ننظر إلى جميع ما يصدر عن الأحزاب و الحركات الكردية من تحركات و مبادرات على أنّها محاولات تصب في خانة تأسيس الدولة،   أم‌نستعمل في وصفها مصطلحات محورية القضاء و الأمن؟


*د. اسكندر مرادي:هذا يعتمد على الزاوية التي ننظر من خلالها إلى القضية الكردية في المنطقة،  يمكن لكل من هذه المصطلحات و التعابير أن تكون قريبة أو بعيدة عن الحقيقة. و بالاستناد إلى مبدأ بديهي،  فإنّ أحد الواجبات الأساسية الملقاة على عاتق كل دولة أو حكومة المحافظة على سيادة البلاد و وحدة أراضيها. و قد نصّت دساتير جميع البلدان على هذا المبدأ،  و لا بدّ من احترام هذا المبدأ بعيداً عن نمط الحكومة و الأيديولوجية و الفكر الذي يحكمها. على سبيل المثال،  ذُكر هذا المبدأ في الدستور الإيراني في العهد البهلوي و كذلك في عهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية و نصّ على أنّ من واجب الدولة المحافظة على حقها في السيادة على أراضي البلاد. و كذلك هو الحال بالنسبة لتركية و العراق و سائر البلدان الأخرى. ففي دستور العراق الفدرالي أيضاً تمّ التأكيد على مبدأ صيانة سيادة البلاد و وحدة أراضيها. و لكن عندماننظر إلى هذه القضية من منظار الأحزاب و الحركات الكردية يبرز أمامنا مبدأ «حق تقرير المصير» و «تشكيل الكيان»،  الذي يسعى الأكراد،  خاصة في العراق،  إلى تحقيقه منذ عام 1919 م أي تاريخ انعقاد معاهدة فرساي حتى اليوم،  و طبقاً لنفس الخطاب المستوحي من مبادئ ولسون يطالبون بتشكيل كيان سياسي لهم. و لكن هذا لا يعني وجود خلاف جوهري أو وضع يجعل أصحاب هذا الرأي يغلقون باب التواصل أو الحوار بشكل تام. فنحن نرى أنّ زعماء البلدان الأربعة العراق و سورية و تركية و إيران يشيرون إلى وجوب الاهتمام بحقوق الأكراد و مطاليبهم،  على أن يتمّ ذلك في إطار أوسع يحافظ على الحدود القائمة. و بناءً على هذا،  فكل مصطلح من المصطلحات التي أشرتم إليها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنهجٍ أو رؤية أو مصالح طرف من الأطراف المتعددة. فالبلدان الأربعة تعتقد فيما يخص القضية الكردية أنّ أيّ تغيير يطال الحدود الرسمية المعترف بها و إعادة ترتيب الوضع القائم سوف يؤدّي إلى حدوث فوضى و هرج و مرج. و بالتالي فهي تعارض حدوث مثل هذا الشيء،  و لكن كما أشرت لا معارضة لديها أو مشكلة مع مسألة الحقوق القومية و المواطنة. 
*د. اردشير بشنج: أنا أيضاً مع هذا الرأي بأنّ مسألة كفاءة الدول هنا تحظى بأهمية كبرى في موضوع حقوق الأكراد و مطاليبهم. لو وضعنا الظروف السائدة في البلدان الثلاثة التي كانت خاضعة لسلطة الدولة العثمانية تركية و سورية و العراق تحت مجهر التحليل،  سنجد أنّ حكوماتها كانت لديها فرصة لقرن كامل لتحلّ ليس فقط القضايا و المشاكل ذات الصلة بالأكراد فحسب،  و إنّما الكثير من المشاكل العالقة الأخرى أيضاً. أو على الأقل أن تخطو خطوات على طريق الحل. إلّا أنّنا نرى أنّ نموذج الدولة - الأمة و خاصة في العراق و سورية لم ينجح في مسيرته كما ينبغي،  و تمّ التعامل مع هذه المشاكل من منظار سياسي شمولي عنيف،  و الحق أقول،  إنّ هذه الدول لم تمتلك الجدارة أو الكفاءة اللازمة لوضع حلول جذرية للمشاكل. لقد تحدّث الزملاء عن موضوع اهتمام سورية بمشاكل الأكراد. و لكن لاننسى أنّ اهتمام الحكومة السورية بالقضية لم‌يأت إلّا من باب الاضطرار و اليأس عندما وجدت نفسها محاصرة بظروف صعبة و متأزمة. لهذا السبب تجد نقمة الأكراد ما تزال قائمة بالنسبة لحقوقهم و مطاليبهم.  
ملاحظة أخرى لا بدّ من طرحها هنا هي قضية معاهدة سايكس بيكو. نحن نرى أنّ البلدان الأربعة إيران و تركية و العراق و سورية تقوم عملياً بمهمة حراسة الحدود التي رسمتها هذه المعاهدة،  و هي مُجمعة على هذا الرأي. طبعاً مع لحاظ هذه الحقيقة و هي وجود تباينات في مقاربات هذه البلدان إزاء المشكلة الكردية،  على الأخص في تركية و سورية،  حيث الأوضاع هناك ذات طابع متفاوت و خاص. فمثلاً تأسيس الجمهورية التركية كان على مبدأ العِرق أو العنصر التركي الموحد،  و ينصّ الدستور التركي على أنّ جميع المواطنين أتراك. و الشيء نفسه ينطبق على الدولة السورية التي اختارت لنفسها اسم الجمهورية العربية السورية،  و لم تشر لا من قريب و لا من بعيد إلى وجود بقية المكونات الإثنية السورية،  و من بينها الأكراد. و لكن بعد أن هزّت كيانها عوامل الضعف و المشاكل الداخلية في لحظة تاريخية،  اهتمت بهذه القضية بصورة مؤقتة،  و لكن إذا ما شعرت بانتهاء هذه المشاكل،  فسوف تتناساها من جديد.
أولئك الذين يتعاطون مع جميع القضايا من نافذة أمنية،  و يعدّون أيّ مطاليب أو حقوق بمثابة مطالبات انفصالية،  يدورون في حلقة محدودة و ضيقة الأفق،  في حين أصبح المستنيرون و المثقفون في عالمنا اليوم ينظرون إلى المطاليب الإثنية و الثقافية و السياسية نظرة جدية من زاوية حقوق الإنسان و القضايا الدينية و بمعزل عن النظرة الأمنية الضيقة. من هؤلاء مثلاً نعوم تشاومسكي و أمثاله ممّن يؤكدون دائماً على ضرورة ألّا يتم تحليل القضايا ذات الصلة بالقومية و الإثنية من زاوية أمنية بحتة. و على الرغم من أنّ هذه الآراء الجامعية و المستنيرة في العالم لا تتوفر على سلطة سياسية أو تنفيذية،  لكنّها على أيّ حال تستقطب أنصار كثر  و تُطرح كنظريات سياسية و علمية.


*د. صلاح الدين خديو: عندما يتقابل الباراديغمان،  حق السيادة و حق تقرير المصير،  وجهاً لوجه،  و يعملان بصورة متضادة،  فمن الطبيعي أن تكون النظرة إلى هذه القضايا من زاويتين مختلفتين و متناقضتين جداً. فالقائلون بحق واحد و باراديغم واحد هو حق السيادة،  لا يتحمّلون وجود أيّ اختلاف أو مطاليب،  و يحسبون المطاليب الإثنية و الثقافية تمرّداً أو خروجاً على السلطة،  أما الذين يؤمنون بحق تقرير المصير كأولوية،  فينظرون إلى التنوع و التعدّدية الثقافية و المطاليب الإثنية كقضايا مهمة و ذات قيمة. من العسير جداً أن ننظر إلى هذه القضايا من زوايا أخلاقية و انفعالية و قيمية. لذا،  يجدر بنا أن نتعاطى مع هذه الباراديغمات و الإصلاحات من منظار الوقائع الموضوعية و الاجتماعية الماثلة في المجتمعات و البلدان.
التنمية والديمقراطية من بين الأدوات الفاعلة والمهمة التي يمكن استخدامها كآلية سلمية و إنسانية لوضع حدّ لهذه التناقضات و التعارضات. عندما تشهد المجتمعات المتطورة تنمية جذرية في جميع المجالات والحقول،  حينئذ يتسنّى لنا إيجاد حلول للمشاكل على أساس سلوك ديمقراطي و منح حقوق مواطنة متساوية. فاللجوء إلى الأساليب العنيفة لن تكون في صالح أيّ طرف،  بل سوف تضرّ الجميع.
في الحقيقة،  لا بد من القول بأنّ نموذج الدولة - الأمة قد فشل تماماً في هذه المنطقة من العالم،  و تبعاً لذلك فشلت الحركة القومية الكردية أيضاً فشلاً ذريعاً. في الوقت الحاضر،  نلاحظ كيف أنّ بلداً مثل تركية حقّق نجاحات باهرة في مجال التنمية الاقتصادية و السياسية قياساً بماهو موجود في العراق و سورية و كذلك في إيران،  في بعض النواحي. و لكن من حيث أنّ زعماء تركية و أصحاب السلطة و النفوذ في هذا البلد لا يستطيعون استيعاب الفوارق الثقافية فإنّهم يعانون من مشكلة فهم المطاليب القومية و الثقافية. أن تطلق بعض بلدان الشرق الأوسط وصف الحركات الفوضوية على الحركات الكردية و ما شابهها،  فإنّ مردّ ذلك سياسات تلك البلدان. في الواقع إنّ بلدان المنطقة الشرق الأوسطية تفتقد إلى رغبة حقيقية في التنمية الاقتصادية و الديمقراطية ليس بالمقارنة مع البلدان المتطورة مثل أوروبا فقط و إنّما حتى بالمقارنة مع بلدان أمريكا اللاتينية و جنوب آسيا أيضاً،  و لو قامت بلدان الشرق الأوسط بتأسيس سوق مشتركة مبنية على مصالحها الاقتصادية،  فلا شكّ في أنّ مثل هذه السوق سوف تترك تأثيراً إيجابياً حتى على حل المشاكل الكردية. 


فصلية طهران:  ما هو تقييمكم لتجربة الأكراد في الحكم في إقليم كردستان العراق؟ كما تعلمون فإنّهم و منذ عام 1991 م حتى 2003 م مارسوا تجربة حكم ذاتي غير مكتملة في إقليم كردستان اعتماداً على إمكاناتهم و البنية التحتية البدائية و البسيطة،  و بعد عام 2003 م و سقوط النظام البعثي الصدامي و تأسيس العراق الجديد أقاموا نظاماً سياسياً رسمياً باسم إقليم كردستان العراق يتمتّع بمبدأ فصل السلطات و يتوفّر على بنى تحتية و مداخيل و حقوق و إمكانات عديدة. ما هي برأيكم أهم السمات التي تتميّز بها تجربة الأكراد في الحكم و إدارة شؤون إقليم كردستان العراق في فترة العراق الجديد؟


*د. اسكندر مرادي: قبل أن نتناول بالبحث و التحليل تجربة الحكم في إقليم كردستان العراق،  أودّ أن أشير إلى أنّ ثمة معضلة جدية تؤرّق الأكراد في منطقة الشرق الأوسط اسمها الانسداد الجغرافي و الصعوبات الناجمة عن الموقع الجغرافي و التي تشكّل دائماً مشكلة معقدة و مزعجة. فمثلاً،  لولا أنّ تركية تضمّ أقلية كردية في جنوب شرق البلاد،  لتعاملت،  على الأرجح،  على نحوٍ مغاير مع مسألة طرح إقليم كردستان العراق لمطاليبه،  و كذلك الحال بالنسبة لإيران،  فلولا وجود سكان أكراد على أراضيها،  لاتخذت قرارات مختلفة عن تلك التي اتخذتها في مواجهة استفتاء الاستقلال و سائر سياسات الإقليم. 
نعود إلى مسألة تقييم تجربة حكم الأكراد في إقليم كردستان العراق،  في البدء أجد من الضروري أن أنبّه إلى نقطة مهمة و هي أنّ الأكراد في إقليم كردستان ليسوا جماعة أو ظاهرة مجرّدة لا تربطهم أيّ علاقة بما يدور حولهم من معادلات إقليمية و دولية،  بل هم انعكاس للخصوصيات السياسية و التنفيذية و الثقافية لهذه المنطقة،  و لذا،  من غير المعقول أن ننتظر من المسؤولين في إقليم كردستان أن يقدّموا لنا معجزة. فلا أحد يقول أنّهم نجحوا تماماً في جميع قراراتهم و تدابيرهم السياسية،  و أنّ أداءهم لا تشوبه شائبة أو إشكال. و ليس بوسع أحد القول أنّ نظامهم الإداري و القضائي مكتمل و خالٍ من كل عيب و نقص،  و أنّهم استطاعوا تطبيق ديمقراطية حقيقية و حية و نابضة. كما لا أحد يزعم أنّهم التزموا جانب العدل و الإنصاف في مجال التنمية الاقتصادية و تقديم الخدمات الاقتصادية للناس، و سلكوا سلوكاً ديمقراطياً خالصاً. بطبيعة الحال،  هم أيضاً يتعاطون مع نفس القضايا التي تتعاطاها سائر البلدان في هذا الجزء من العالم و المعتادة في ثقافتها السياسية و التنفيذية. و من هنا أقول،  إنّ المسؤولين السياسيين و التنفيذيين في إقليم كردستان قدّموا في بعض الميادين تجارب ناجحة و موفقة،  و أخفقوا في ميادين أخرى،  و مرّوا بتجارب مريرة. من التجارب المريرة،  على سبيل المثال،  أنّهم يعانون منذ سنوات عديدة من قتال و صراع داخل البيت الكردي،  و أسفر هذا الاقتتال عن إزهاق أرواح المئات من الشباب،  و قد برهن زعماء الأحزاب الكردية دائماً أنّهم يرجّحون مصالحهم الحزبية على مصالح الشعب في المعادلات السياسية المتعلقة بإقليم كردستان.
لقد كتب "جاناثان رندل" كتاباً حول الأكراد ترجمه المرحوم إبراهيم يونسي إلى اللغة الفارسية يحتوي على ملاحظات مثيرة. يقول المؤلف في كتابه: كنت أسأل نفسي دائماً من بعيد،  لماذا لم يستطع الأكراد،  كسائر الشعوب الأخرى،  تأسيس دولة مستقلة خاصة بهم،  و عندما سافرت إلى كردستان و اطلعت على الأوضاع عن قرب وجدت الجواب،  و عرفت أنّ التوترات الداخلية و الصراع على المصالح،  أحد العوامل المهمة في هذا الفشل. 
لقد فشل الأكراد في تأسيس برلمان مقتدر و مؤثّر في إقليم كردستان يكون ممثلاً حقيقياً للشعب و مدافعاً عن مطاليبه،  و يعمل وفق نهجٍ بعيد عن الحزبية،  كما فشلوا في تشكيل حكومة موحدة و متماسكة تبسط سلطتها السياسية و نفوذها الاجتماعي بشكل متساوٍ على جميع مناطق كردستان. و هناك مطاليب اجتماعية كثيرة يطرحها شعب إقليم كردستان حالياً حيث يطالب بعدم تسييس قوات البيشمركة من قبل الأحزاب و أن لا تُستغل كأداة في الصراعات الحزبية،  و يكون البرلمان مصدراً لاتخاذ القرارات في القضايا السياسية و الاقتصادية التي تهم الشعب،  و أن تعبّر القرارات عن إرادة الشعب و ليس عن مصالح الأحزاب. لقد رأينا الاختلاف بين الأكراد حتى في مسألة الاستفتاء،  فالأحزاب الكردية لم تكن على قلب رجلٍ واحد. فالحزب الديمقراطي الكردستاني كان يصرّ على إجراء الاستفتاء بينما عارضه الاتحاد الوطني الكردستاني (يكيتي)،  و يقيناً،  لو كان الاتحاد الوطني هو الذي اقترح الاستفتاء لعارضه الحزب الديمقراطي! لم تقتصر هذه الخلافات على المجالات الأمنية و السياسية و العسكرية فحسب،  بل امتدت إلى أروقة الجامعات أيضاً،  التي صارت ساحة لممارسة النشاطات الحزبية. و لكن في المقابل فإنّهم،  على أي حال،  قد حقّقوا  بعض النجاحات في عدد من الميادين،  فصفحات تجربة الحكم في إقليم كردستان ليست كلها سوداء و مريرة. أعود و أكرّر على هذه النقطة لابدّ أن ننظر إلى أداء زعماء الإقليم و النظام السياسي في كردستان في سياق الأوضاع و الظروف السائدة في الشرق الأوسط،  و أن لا ننسى أنّ بعض المشاكل السياسية و الاجتماعية و التنفيذية لها ارتباط عميق بالتقاليد السياسية و التنفيذية في عموم المنطقة. في الوقت الحاضر هناك رغبة و نزعة قوية نحو العمل الديمقراطي و نشاطات مؤسسات المجتمع المدني و ربّما تعدّ الأفضل و الأنضج مقارنة بما هو قائم في العديد من دول المنطقة. 
*د. اردشير بشنج: أنا أيضاً أعتقد بضرورة أن ننظر إلى تجربة الأكراد في الحكم في إقليم كردستان العراق و نقيّم أداءهم في سياق بلدان الشرق الأوسط. إذ ليس من الإنصاف مقارنتهم بالمعايير السياسية و التنفيذية و الاقتصادية لأوروبا الغربية. 
نحاول هنا تقديم تقييم عام ضمن رؤية نسبية و في ضوء  بعض المعايير المحدّدة. على سبيل المثال،  لم تكن للأكراد في إقليم كردستان،  كما هو معلوم،  تجربة طويلة في مجال الحكم و إدارة البلاد،  لكنّهم أظهروا مهارة فائقة في ميادين عدّة مثل الانتخابات و الديمقراطية و حرية التعبير و المطبوعات و أمور من هذا القبيل و اكتسبوا خبرة جيدة لا تجعلهم في وضع مقبول فقط و إنّما تؤهلهم لأن يرتقوا مدارج و مراتب متفوقة مقارنة ببعض مناطق الشرق الأوسط. و لكن طبعاً لم يخلُ أداؤهم من بعض الإشكاليات و النواقص. نذكر هنا مثلاً أنّه ما تزال التقاليد و العلاقات الأسرية و المحسوبية تلقي بظلال ثقيلة على القرارات و التدابير المتّخذة في بعض القضايا،  و أنّ بعض القوانين و الخصوصيات العشائرية طاغية على زعماء الإقليم،  و ما تزال الخشية و القلق و المخاطرة من انقسام الإقليم إلى شطرين قائمة. هذه بعض الإشكاليات التي يعاني منها الإقليم. 
*د. صلاح الدين خديو: تأييداً لما قاله الأساتذة الزملاء،  أعتقد أنّ الأكراد في إقليم كردستان استطاعوا أن يكتسبوا خبرات جيدة و إيجابية من بعض القضايا لتسجّل لصالحهم. من هذه النقاط الإيجابية المسجلة لصالحهم أنّهم استطاعوا تحقيق أمن و استقرار نسبي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم،  و هذه بلا شك ظاهرة لها قيمتها و أهميتها. و على الصعيدين التنفيذي و الإداري أيضاً حقّقوا نجاحات من خلال تأسيسهم لنظام تنفيذي يعنى نسبياً بقضايا الناس و احتياجاتهم و له القدرة على إدارة الدولة و البلاد. أما أهم الإشكاليات أو العيوب التي أفرزتها تجربة الأكراد في الحكم في إقليم كردستان مسألة الحكومة الوطنية،  ففي مقدمة الواجبات التي تقع على عاتق أيّ حكومة أو نظام سياسي هي بسط سلطتها الوطنية في حدود الخارطة الجغرافية التي تحكمها،  و لكن ما نشهده للأسف هو ليس وجود حكومة واحدة بل توجد عملياً حكومتان أو كيانان سياسيان في الإقليم،  حيث استطاع كل كيان أن يفرض سلطته على شطر من الإقليم. و توصف هذه الظاهرة في الأدبيات السياسية الكردية لإقليم كردستان بظاهرة «الإدارة المزدوجة» أو «الحكومة المزدوجة». بل القضية أبعد من ذلك،  ربما ترقى إلى مستوى الدولتين أو البلدين أو الشعبين. و هي بلا شكّ تشكّل قضية جدية و خطيرة للغاية. فمسعود بارزاني حتى و هو في ذروة قدرته كرئيس لإقليم كردستان لم يكن قادراً على عزل أو تعيين شرطي بسيط في السليمانية،  أي خارج سلطة الحزب الديمقراطي،  و في المقابل كان جلال طالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أيضاً عاجزاً عن تعيين موظف بسيط في محافظتي أربيل و دهوك. و ما يزال هذا الوضع قائماً في الإقليم،  و طبعاً لا حاجة بنا إلى القول بأنّها إشكالية غاية في الخطورة،  و عيب جوهري و أساسي. منذ عام 1964م عندما انشق إبراهيم أحمد و جلال طالباني عن البارتي (الحزب الديمقراطي الكردستاني)،  و أسّسا حزب الاتحاد الوطني الكردستاني،  فإنّ هذا الوضع أو الاختلاف السياسي و التاريخي في وجهات النظر بين الحزبين مستمر حتى يومنا هذا،  حتى أفضى في نهاية المطاف إلى قيام حكومتين سياسيتين. 


فصلية طهران:  ما هو تقييمكم بالنسبة لإجراء الاستفتاء في إقليم كردستان؟


*د. صلاح الدين خديو: لقد كتبت و نشرت في رفض خطوة الاستفتاء العديد من المقالات و ما زلت أنتقدها،  و الملاحظة الأولى التي أشير إليها دائماً في مقالاتي حول أسباب رفض هذه الفكرة هي،  حتى لو سلّمنا جدلاً بشرعية إجراء الاستفتاء عملاً بمبدأ حق تقرير المصير للشعوب،  مع ذلك يبقى  السؤال المطروح هو، هل كان توقيت إجراء الاستفتاء مناسباً في ظلّ ظروف المنطقة و العراق أم لا؟ هذا سؤال مهم للغاية. 
الدولة ليست ظاهرة نعلن عن تأسيسها أولاً و من ثمّ تتبعها عملية التأسيس شيئاً فشيئاً. بل الخطوة الأولى هي تأسيس الدولة ثم بعد ذلك الإعلان عن وجودها. كانت الأحزاب السياسية في الإقليم منشغلة بصراعاتها و الدعايات الداخلية،  بالإضافة إلى أنّ جزءاً من المشكلة يتعلّق بالأمور التي تربط الأكراد مع الحكومة المركزية العراقية في بغداد حول الميزانية و تسويق النفط و قضايا من هذا القبيل،  و التي استطاعت أن تشكّل عوامل مساعدة على تسعير الخلافات. أغلب الظنّ أنّه لم يكن هناك إجماع في الرأي حول إجراء الاستفتاء حتى داخل صفوف الحزب الديمقراطي،  و يُعتقد أنّ أشخاصاً مثل نيجيرفان بارزاني و فاضل ميراني لم يكونا على قناعة بأنّ توقيت الاستفتاء كان مناسباً. لكنّ الماكنة الدعائية الهائلة للحزب الديمقراطي الكردستاني صوّرت إجراء الاستفتاء على أنّها قضية كرامة وطنية و بالتالي لا يمكن العدول عن القرار. و برأيي أنّ الأضرار التي تسبّب بها إجراء الاستفتاء أكبر بكثير من الفوائد التي حقّقها. فالقائمون على الاستفتاء لم يدرسوا بعناية التوازنات السياسية في العراق و المنطقة و العالم،  كما لم تكن نصائح المستشارين موفقة و صحيحة،  و بالتالي كان قراراً خاطئاً. 
*د. اردشير بشنج: لقد طُرحت أمور عديدة حول موضوع الاستفتاء في الإقليم،  من بينها،  تساؤلات بعض المختصّين و المحللين من زعماء الإقليم  عن سبب إصرارهم على تأسيس دولة قومية في الوقت الذي يتجه فيه عالمنا صوب العولمة و إلغاء الحدود؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول إنّ مسارات تأسيس الدول و النظرة إلى الحدود و قضية العولمة ليست متوازية و متطابقة في جميع مناطق العالم. فما يزال مسار تأسيس الدولة - الأمة فعالاً في منطقتنا و لم ينته بعد،  و بالتالي ليس من الغرابة في شيء الانتماء إلى المدارس القومية في ظل هذه الأوضاع الفكرية و السياسية و الاجتماعية،  لا بل إنّه من الطبيعي جداً. فعندما تتمحور القومية العربية أو التركية حول فكرة العرق أو الجنس،  يصبح الكردي هنا بمثابة «الآخر»،  فتسوقه إلى الاحتماء بفكرة الدولة القومية. من هنا يمكن إيجاد تسويغ قومي و أخلاقي لخطوة إجراء الاستفتاء. و على أيّ حال يجب أن لا ننسى هنا أنّ الدولة العراقية هي وليدة تحولات سايكس بيكو و التدخلات الأجنبية،  و قد ظلّت عاجزة عن إيجاد الحلول لمشاكل الأكراد و الاهتمام بمطاليبهم طيلة قرن من الزمان. أمّا السؤال عمّا إذا كان توقيت إجراء الاستفتاء كان مناسباً و كانت جميع البنى التحتية مهيّأة لذلك أم لا؟ فهذا موضوع آخر. لم تكن الجهوزية تامة لذلك،  لم تؤخذ كثير من الأمور بعين الاعتبار،  و النظر في بعض التفاصيل البسيطة يُظهر إلى أيّ حد كان القرار مرتجلاً و مستعجلاً. فعلى سبيل المثال،  لم يتم إعداد نشيد وطني خاص أو استعراض وطني لهذه المناسبة. أنا هنا أريد أن أطرح وجهة نظري الشخصية و أقول،  لو كنت في ذلك الوقت مستشاراً سياسياً لمسعود بارزاني لاقترحت عليه أن يجري استفتاء يتعلّق بالمادة 140 حول مصير كركوك بدلاً من الاستفتاء على استقلال كردستان و الانفصال عن العراق. لقد تصوّر الكثير من الناس أنّ زعماء الإقليم أجروا المشاورات اللازمة مع تركية أو إيران في هذا الموضوع. أتذكر أن أحد المراسلين سأل هوشيار زيباري السياسي الكردي و وزير الخارجية العراقي الأسبق قبل 48 ساعة من إجراء الاستفتاء: بماذا تفسّرون غضب أردوغان إلى هذا الحدّ من قراركم بشأن إجراء الاستفتاء؟ فأجاب بابتسامة: لم‌نطلعه على قرارنا. 
إذن،  بنظرة عامة يمكن القول إنّه لم تكن هناك جهوزية كافية لإجراء الاستفتاء. و بالنسبة لكركوك فلو كانت هناك مقاومة لمدة 24 ساعة على الأقل لكان من المحتمل أن يتغير مسار الأوضاع باتجاه آخر. و إذا أردت أن أقدم خلاصة نهائية لحديثي أقول،  ليس هناك مآخذ على إجراء الاستفتاء من الناحيتين الأخلاقية و القانونية،  و لكن مع ذلك،  لا يمكن أن نغضّ الطرف عن النتائج و العواقب التي ترتّبت عليه،  فالإقليم فقد 51 في المئة من الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته،  و ثلثي منابع النفط بسبب إجرائه الاستفتاء. 
*د. اسكندر مرادي:أعتقد أنّه بدلاً من الحديث عمّا إذا كان إجراء الاستفتاء ضرورياً أم لا،  أن نركّز اهتمامنا على هذه النقطة و هي،  أنّ إجراء الاستفتاء و السعي إلى الانفصال و إقامة دولة مستقلة لم يعد أمراً مقبولاً في عالمنا المعاصر،  و ما من دولة أو قوة في العالم ستوافق على هذا القرار. و خير مثال على ذلك الاتحاد الأوروبي الذي كان في جميع مواقفه السياسية و بياناته الرسمية يدافع دائماً و بشكل جاد عن حقوق القوميات و حقوق الإنسان و الحقوق الثقافية و الأقليات،  لكنّه لم  و لن يؤيّد استقلال القوميات الصغيرة عن الدول متعددة القوميات. و لنا في أسبانيا مثال واضح على هذا الموقف. فعندما كانت كاتالونيا بصدد إعلان الاستقلال عن أسبانيا،  عارض الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة. إذن،  فالخطاب السياسي العالمي و العلاقات الدولية لا تؤيّد مطاليب الانفصال و تأسيس الدول الجديدة،  و هو بالقطع يعارض تقسيم الدول،  لكنّه في نفس الوقت يدافع عن الديمقراطية و حقوق الأقليات،  و لذا علينا أن نضع في حسباننا هذه المسألة كحقيقة واقعة في النظام الدولي. 
أؤيّد الرأي القائل بأنّه لو كان الأكراد وفّروا جهودهم و إمكاناتهم لتفعيل مواد الدستور العراقي و تطبيقها بالكامل ضمن النظام السياسي و القانوني العراقي،  لكانوا حصلوا على نتائج أفضل و أنفع من إجراء استفتاء الاستقلال. 

 

فصلية طهران: ما هو رأيكم بمقاربات الجمهورية الإسلامية الإيرانية إزاء القضايا المتعلقة بأكراد المنطقة؟


*د. صلاح الدين خديو: إنّه سؤال مهم،  و نحتاج إلى مجال و فرصة أكبر لنتناول الموضوع من زواياه المختلفة،  و نظراً لضيق المجال في هذه الحلقة النقاشية سوف أحاول أن أقدّم إجابة سريعة و موجزة. استناداً إلى العوامل و الأسباب التي سآتي على ذكرها خلال حديثي،  أرى أنّ أفضل مدخل لتحليل مقاربات الجمهورية الإسلامية الإيرانية إزاء القضية الكردية في الشرق الأوسط،  هو أن أعقد مقارنة بين مقاربة كل من إيران و تركية لهذه القضية. بحسب اعتقادي الشخصي،  إنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية و الجمهورية التركية ينظران إلى المشكلة الكردية و الملف الكردي في الشرق الأوسط من زاوية أمنية. بيد أنّ هناك فارق جوهري مهم يفصل بين المقاربتين،  و هو أنّ الجمهورية التركية ترى في القضية الكردية تهديداً جدياً لهويتها القومية و الثقافية،  و لذا فهي تتعاطى معها من منظار الأيديولوجية القومية التركية. بينما لاتتبنّى الجمهورية الإسلامية هذه المقاربة بسبب طبيعة الثورة و النظام السياسي. و لو نظرنا إلى المسألة من الزاوية النظرية و التحليل المفهومي لتركيبة الدولة و النظام السياسي فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يُنظر إليها من قبل جميع المكونات و الإثنيات الإيرانية كدولة قومية ضمن الحدود الجغرافية للبلاد،  لأنّ هوية النظام السياسي للجمهورية الإسلامية في إيران مستمدة من مبدأ الحكومة الدينية،  و تتميّز هذه المسألة بخصوصية شديدة بحيث لا يمكن مقارنتها بتركيبة الدولة القومية في الدول الأخرى،  و تضع هذه النقطة بالذات أمام الأكراد فرصاً كثيرة،  و تعتبر بالنسبة لنا نقطة إيجابية من جهات عدّة. 
من وجهة نظر شخصية،  فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنظر إلى الملف الكردي كملف أمني،  و لكن طبعاً ليس تهديداً لخصوصياتها الحضارية و الثقافية و اللغوية. في حين أنّ لتركية نظرة أمنية للقضية الكردية أيضاً و تعتبرها في نفس الوقت تهديداً قومياً ثقافياً حضارياً،  و هذا ما يفسّر،  عادةً،  العنف الذي تقترن به نظرتها و مقاربتها و تعاملها مع القضية الكردية. و في المقابل،  لما كانت الجمهورية الإسلامية دولة غير قومية،  بل تقوم على أسس نظرية دينية،  فهي تتعامل مع القضية الكردية برحابة صدر أكبر،  مقارنة بتركية. لأنّ نظامها السياسي يرتكز على مبدأ الأمة (بحسب المفهوم الإسلامي) و قد حرّرت نفسها من قيود الدولة القومية الأحادية و الهوية الإثنية.
من ناحية أخرى،  فإنّنا نلحظ في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية في إيران و لا سيّما في مجال السياسة الإقليمية أنّ دعمها لعدد من الدول و الحركات السياسية و الثورية يقوم على أساس مبادئها و منطلقاتها الدينية و العقائدية،  و قد أصبح ذلك بالنسبة للجمهورية الإسلامية مقاربة سياسية مهمة،  و ربما بسبب هذه المقاربة،  أحياناً،  تفضل أن تتعامل مع الأكراد بهذا الأسلوب،  و أن تنظر إليهم كحركات ثورية تندرج ضمن نفس المبادئ التي تؤمن بها،  تارةً كفرصة،  و أخرى كتهديد بالنسبة للجمهورية الإسلامية. و مع ذلك لا تجد تناقضاً جدياً بين الهوية الكردية و بين منظومتها الدينية و العقائدية. في حين نجد أنّ تركية تعاني من فوبيا القضية الكردية،  و تشعر بهلع غريب و مجهول،  ليس في منطقتنا فحسب،  بل لو أنّ حركة كردية ظهرت في أقصى القارة الأفريقية فإنّ أول قرار تتخذه تركية هو الاعتراض على تلك الحركة و السعى لمحاربتها. 
في الحقيقة،  إنّ الدولة التركية منذ حوادث ما بعد الحرب العالمية الأولى،  تحمل في ذاكرتها هاجساً تاريخياً مستمراً و هو خطر التقسيم و الانفصال فأصبح بمثابة نهج سياسي و فكري للدولة،  و ما تزال حتى اليوم أسيرة هذا الهاجس و الخوف،  الأمر الذي يفسّر طبيعة مقاربتها للقضية الكردية. و في نفس الوقت،  نجد ثمة فارق كبير لجهة الكثافة السكانية للأكراد في إيران و تركية. فعدد الأكراد في تركية يتراوح بين 20 إلى 25 مليون نسمة،  أي إنّهم يشكّلون ربع سكان البلاد و ثاني أقلية سكانية فيها. و من الطبيعي أن يكون لهذا العامل تأثيرات من الناحيتين السياسية و الأمنية على مقاربة ذلك البلد،  و هو يختلف عن عدد سكان الأكراد في إيران و تأثير هذا الحجم السكاني على مقاربات طهران.
و لا يمكن التغاضي هنا أبداً عن دور العامل الديني المهم و هو أنّ أكراد إيران يُصنّفون ضمن الفريقين الرئيسيين،  أعني أهل السنّة و الشيعة،  و كل فريق يقارب الأفكار و الأهداف الكردية من زاوية نظر مختلفة،  فالأفكار و المطاليب الكردية أخفّ وطأة عند الأكراد الشيعة في إيران منها عند الأكراد السنّة،  و لو أردنا (على سبيل المثال كفرضية إحصائية مجردّة فقط) أن ننقص الأكراد الشيعة من إحصاء الأكراد الإيرانيين،  ربّما لن يصل عدد نفوس جميع الأكراد السنّة الإيرانيين في أحسن الأحوال إلى 4.5 مليون نسمة ،  و معلوم إنّ هذا العدد من الناحية الجيوسياسية لا يشكّل تهديداً في المنظار العام للسياسات الداخلية للجمهورية الإسلامية في إيران. هذا في حين أنّ نسمة الأكراد في العراق و تركية يشكّلون حوالي نسبة الربع أو أكثر بقليل قياساً لمجموع السكان في البلدين. أؤكّد مرة أخرى على أنّ الفرق الذي ذكرته في إحصاءات الأكراد من الشيعة و أهل السنة مبنيٌّ على فرضية أنّ المطاليب و التوجّهات القومية الكردية أشدّ و أقوى في المناطق الكردية السنّية،  لذا لا يتوهّم أحد بأنّنا نقصد من ذلك أنّ الأكراد الشيعة ليسوا أكراداً أصلاء. فهذا التصوّر غير واقعي البتة. و في نفس الوقت إذا أخذنا التجارب و التأثير التاريخي للأحزاب كمؤشر،  فليس لنا أن نجزم بأنّ جميع الأكراد السنّة يؤمنون بنفس المبادئ القومية الكردية. و في كل الأحوال،  تظلّ المقارنة السكانية للأكراد بالنسبة لغيرهم من القوميات في إيران و تركية و سورية و العراق متباينة،  فالأكراد في إيران لا يشكّلون أقلية ثانية و لا نسبة سكانية عالية.


*د. اسكندر مرادي:تقصد أنّ الأكراد في إيران لا يشكّلون عاملاً جيوسياسياً مهماً؟
*د. صلاح الدين خديو: نعم بالضبط،  يجب أن ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية،  فالمسألة السكانية و الإحصائية مسألة مهمة بالتأكيد،  و لا ينبغي أن نمرّ عليها مرّ الكرام. إنّ المعادلة السكانية و الجوهر الديني العقدي الخاص للجمهورية الإسلامية هو سبب التباين المهم بين مقاربتي إيران و تركية للقضية الكردية،  فأقصى ما يمكن أن تشكّله القضية الكردية من وجهة نظر طهران هي أنّها قضية أمنية محدودة لا أكثر.
*د. اردشير بشنج: قبل أن نتناول مقاربة الجمهورية الإسلامية للقضية الكردية في المنطقة و موقع الأكراد في السياسة الخارجية لطهران،  ربما نجد من الضروري أن نقدّم إشارة موجزة و سريعة عن العصر البهلوي. أعتقد أنّ مراسيم تتويج شاه إيران محمد رضا بهلوي شكّلت نقطة تحول كبرى في التاريخ الإيراني الحديث على صعيد المكونات الإثنية و القومية،  حيث كانت تنطوي على معاني ضمنية بتجاهل القوميات غير الفارسية في إيران،  في الوقت الذي كان فيه الأكراد يعتقدون أنّهم ينتمون تاريخياً إلى السلالة الميدية،  فبعد مراسيم التتويج و الاحتفالات الباذخة بذكرى مرور 2500 عام على تأسيس الشاهنشاهية في بلاد فارس و التركيز على القومية الفارسية،  بدأ نهج التنكّر للقوميات الأخرى،  بيد أنّ الأوضاع في ظلّ الجمهورية الإسلامية لم تعد كذلك،  فإيران تمتلك تركيبة فكرية و ثقافية و اجتماعية و حضارية غنية و واسعة جداً،  و هي تمثّل ثروة ثقافية حقيقية. بعد انتصار الثورة الإسلامية و قيام نظام الجمهورية الإسلامية،  تشكّلت رقعة حضارية و ثقافية واسعة على صعيد الفكر و السياسة الإقليمة تسع منطقة آسيا الوسطى مروراً بإيران و أفغانستان و الباكستان و أفغانستان و الشرق الأوسط و المناطق الكردية في البلدان الأربعة. 
لا تركّز الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سياستها الإقليمية على الخارطة الجغرافية للسياسة الحضارية و الفكرية،  بل على الخارطة الجيوسياسية الشيعية و التي تشمل العراق و جنوب لبنان و سورية و البحرين و نوعمّا اليمن. و بالنتيجة فإنّنا لا نلحظ أيّ نشاط أو ديناميكية خاصة في دبلوماسية الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المجال الجغرافي و الحضاري لإيران الثقافية. على العكس تماماً مما يحصل في المجال الجيوسياسي الشيعي الذي يعدّ ساحة تشهد للجمورية الإسلامية ديناميكية خلاقة. فعلى سبيل المثال،  لا تنبض علاقات الجمهورية الإسلامية بطاجيكستان بأيّ حيوية. و لا توجد نشاطات يعتدّ بها في مجال إيران الثقافية و المناطق الكردية ،  في حين يأخذ هذا النشاط زخماً أكبر في المجال الجغرافي الشيعي. بينما نلاحظ أنّ تركية تنظّم سياستها الخارجية بناءً على نفوذها الثقافي في مجالها الحيوي الممتد من تركستان و شرق آسيا إلى المناطق التركية التي تقطنها طائفة الأويغور الصينية و سائر المناطق الأخرى،  فجعلت من المجال الجغرافي لانتشار اللغة التركية ركيزة لتعزيز سياستها الخارجية،  و يبدو أنّ أداءها كان ناجحاً على نحو أتاح لها تحقيق إنجازات على الصعيد الدبلوماسي و العلاقات الإقليمية بالتوازي مع النشاط الثقافي.
اسمحوا لي أن أعرض على حضراتكم مثالاً واضحاً. عندما سيطر الأكراد على مدينة عفرين الكردية،  أقاموا تمثالاً يخلّد ذكرى كاوه الحداد المذكور في الأسطورة القديمة،  في حينها قلت لأصدقائي و الخبراء في وزارة الخارجية،  علينا أن نقرأ ما في هذا العمل من رسائل لإيران،  و الذي يعني نزوع الأكراد نحو المجال الحيوي لإيران الثقافية. و لكن ما من أحد في إيران قرأ تلك الرسالة و أعارها أيّ أهمية،  و حتى عندما احتلت القوات التركية مدينة عفرين و قامت بإزالة تمثال كاوه الحداد و وضعت مكانه تمثالاً آخر،  كذلك لم يعر أحد في إيران هذا الحدث أيّ أهمية. و لكن عندما أجري استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان العراق ربما تصور الكثير أنّ إقليم كردستان باعتباره جزءاً من المجال الجغرافي لإيران الثقافية و أنّ ذلك لا يشكّل تهديداً من وجهة نظر الذين يميلون إلى هذا المجال،   و لكن رأينا كيف اتحدت ردود الأفعال بالنسبة لجميع التيارات السياسية داخل إيران و خارجها،  من اليساريين إلى الملكيين و غيرهم،  كلهم أجمعوا على معارضة استقلال الأكراد في العراق. لأنّهم من زاوية سياسية خاصة اعتقدوا أنّ ذلك يمكن أن يشكّل مقدمة لتقسيم سورية و تركية. على الرغم من الوشائج الثقافية و اللغوية و الأدبية العميقة التي تربط الأكراد بإيران،  إلّا أنّه مع ذلك لا توجد رؤية جدية و علمية حول هذا الموضوع،  فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تفتقد لاستراتيجية خاصة للتعاطي مع القضايا السياسية و الثقافية للأكراد،  و لاحظنا في أحيان كثيرة أنّها تقوم باستغلال مختلف القضايا الكردية في منطقتنا. من الضروري على إيران الابتعاد عن الإجراءات التكتيكية و المواقف الشكلية و الاستعراضية في مقاربتها للقضايا السياسية و الثقافية ذات الصلة بالأكراد عندما يتطلّب الأمر سياسة أشمل و مقاربة أوسع. و مثال على هذه المواقف الاستعراضية الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيخ روحاني في اجتماعات سوتشي حول أكراد سورية،  فقد كانت الكلمة إلى حدّ بعيد شكلية و تشريفاتية،  لذا يلزم أن نفكّر و نعمل بجدية أكثر من ذلك.
و في كل الأحوال،  هناك قضية مهمة،  شئنا أم أبينا،  اسمها الوشيجة الثقافية و الإثنية،  و لا يمكن أن نغضّ الطرف عنها. دعوني أتكلم بصراحة،  أعتقد أنّ أكراد إقليم كردستان لم ينزعجوا من شدّة وطأة الموقف الإيراني إزاء إجراء الاستفتاء مثلما انزعج أكراد إيران من هذا الموقف. و كنتيجة لهذا السياق،  فإنّ السياسة الإقليمية في التعاطي مع أكراد المنطقة تترك تأثيراً أيضاً على القضايا الداخلية،  و نظراً للانتشار الكبير لخدمات الإنترنيت و شبكات التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي،  فقد حظي هذا الحدث باهتمام أكراد إيران،  و انعكست هذه الرؤية على العالم الافتراضي،  حيث كانت السياسة الإيرانية هي العامل الرئيسي وراء ردود الأفعال العنيفة على استفتاء إقليم كردستان.
*د. اسكندر مرادي: إحدى النقاط الإيجابية التي يمكن أن نشير إليها حول موقع الأكراد في إيران هو،  ضمن المنظار الاجتماعي و السوسيولوجي العام توجد نظرة إيجابية إزاء هذا المكون الإثني في عموم الخريطة الجغرافية لإيران،  فلا أحد يحمل إزاءهم أي ضغينة أو عدم قبول. فالكل في إيران يعترف بأنّ الأكراد شكّلوا و ما زالوا مكوناً مهماً و إثنية أصيلة و مؤثرة في تاريخ حضارة الأمة الإيرانية،  فلا اعتراض لأحد على هذه النقطة. هذه النظرة الحضارية الإيجابية باعتقادي تمثّل قيمة. إنّنا نلاحظ في الظروف الراهنة أنّ الجمهورية الإسلامية بادرت إلى اتخاذ بعض الخطوات مثلاً نظرتها الإيجابية للأكراد في المعادلتين السورية و العراقية. و ربما تتذكرون أنّه خلال الحرب العراقية الإيرانية كان للأكراد موقفاً مؤثّراً و مسانداً للجمهورية الإسلامية الإيرانية لايحاكيه موقف الأكراد في تركية و ربما الشيء نفسه في العراق و سورية.
النقطة الأخرى الإيجابية التي أودّ الإشارة إليها هي التحولات التي طرأت في السنوات الماضية،  حيث نرى زيادة اهتمام التركيبة السياسية الحاكمة في الجمهورية الإسلامية بالنخب الكردية و السعي للاستفادة من قدرات الشخصيات الكردية في مختلف الميادين،  الموارد البشرية مثلاً،  بغية تحسين و توسيع دائرة اتخاذ القرارات السياسية و التنفيذية. و تشير الدلائل إلى حدوث تحسّن في نظرة نظام الجمهورية الإسلامية إزاء الأكراد في الداخل و الخارج يوماً بعد آخر و سوف نشهد انفتاحاً أكبر في المستقبل في هذه المسيرة. لا شك في أنّ الاهتمام بمشاركة النخب الكردية في البنية الإدارية و التنفيذية للبلاد هي خطوة جيدة و مقاربة ذات قيمة. و لحسن الحظ فإنّ الجمهورية الإسلاميةالإيرانية لا تتبنى نظرة أيديولوجية عنصرية إزاء القضية الكردية،  و كما تفضل الدكتور خديو و أشار إلى أنّ ثمة منطلقات و نقاط إيجابية قيّمة للتعاطي مع الأكراد.

 

فصلية طهران: في ضوء الظروف السياسية الراهنة في إيران،  و الإمكانات المتوفرة،  ما هو برأيكم المسار الأنسب سياسياً و فكرياً للأكراد داخل إيران و أيّ نهج أفضل لتحقيق المطاليب الكردية بصورة سلمية و سليمة؟


*د. صلاح الدين خديو: أفضل طريق ممكن برأيي لتحقيق المطاليب الكردية داخل إيران هو منح حقوق المواطنة و هو أهم مطلب بالنسبة لنا نحن الأكراد في هذا البلد. أعتقد أنّ حقوق المواطنة هي إحدى الحلقات المفقودة بين الأكراد و نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية،  و إذا ما تمّ الاعتراف بهذه الحقوق وفقاً لأسس دقيقة و واضحة،  فإنّ جزءاً مهماً من المشاكل ستجد طريقها إلى الحل. الأمر المؤسف أنّ أوضاع الأكراد السنّة في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية و دورهم في التركيبة التنفيذية و الإدارية للبلاد و حصتهم من التنمية كانت أقل من المكونات الأخرى،  و هي ثلمة يجب سدّها.
إنّ تحديد مذهب بعينه كمذهب رسمي في البلاد ليس أمراً غريباً في حدّ ذاته،  فقد يحصل ذلك في إيران أو تركية أو الدول الأوروبية و العديد من دول العالم. قبل الثورة أيضاً كان المذهب الرسمي في البلاد هو المذهب الشيعي و لا أعتقد أنّ هذه المسألة كانت تشكّل مشكلة لأحد. و لكن المشكلة تبدأ عندما يلعب الموضوع الشيعي السني دوراً في تفسير العلاقة بين الدين و الدولة و إدارة القضايا الكبرى للبلاد و لا سيّما القضايا المتعلقة بمجال الموارد البشرية للتنمية و المناصب التنفيذية و الإدارية في المحافظات و مختلف المناطق،  و تُتّخذ كمعيار للتقييم و الفرز. هذه قضية لا بدّ من الوقوف عندها.
هنا يصبح لا مفرّ من اعتماد معيار الكفاءة في اختيار الأشخاص للمناصب المختلفة فهو مبدأ مهم يُسهى عنه أحياناً. إنّنا و بعد مرور أربعة عقود على انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية ما زلنا نشهد وجود عراقيل تعترض اختيار شخصية كردية كمحافظ لمحافظة كردستان،  فلا أحد مستعد للقيام بمثل هذه المبادرة حتى الآن،  في حين يوجد بالتأكيد من هو أهل لتقلّد هذا المنصب من المدراء و الكوادر الكردية في هذه المناطق ممّن يتّصفون بالكفاءة و الإخلاص،  و لذلك يجب أن لا نحرم البلاد من الاستفادة من قدرات و مواهب النخب السياسية الكردية. و أخيراً،  أؤكّد مرة أخرى على الأهمية الخاصة التي تنطوي عليها مسألة السعي لمنح حقوق المواطنة لأكراد إيران. و طبعاً لن يتحقّق ذلك إلّا ببذل جهود كبيرة،  و في إطار نشاط سياسي سلمي لئلا تتكرّر أخطاء الماضي،  و أن نمضي في هذا الطريق على نحوٍ نجنّب فيه الأكراد و الجمهورية الإسلامية الإيرانية أيّ شرّ. 
من المهم ألّا يتخلّف أكراد إيران عن أكراد تركية في مسيرة الحصول على حقوق المواطنة. لماذا يتم تحويل موضوع عادي و بسيط هو منصب محافظ كردستان إلى جدال ديني و مذهبي؟ المحافظ يجب أن يكون أولاً و قبل كل شيء مدير كفء و مقتدر،  و لا يوجد أيّ إلزام قانوني بأن يكون محافظ كردستان من المذهب الشيعي. ما الضير إذا اختير محافظ أو حاكم عسكري شيعي لكردستان،  و اختير مدير سياسي كردي سني كمحافظ أو حاكم عسكري لإحدى المحافظات الشيعية؟ حدوث مثل هذا الشيء سيكون بالتأكيد مفيداً و ذا قيمة،  و يؤدّي إلى تنمية الثروات الاجتماعية و الموارد البشرية في البلاد. يجب أن نذهب لأبعد من هذه المواقف،  و أن نضع حقوق المواطنة ضمن رؤية أوسع و أشمل كأهم مصدر للاستقرار و الثبات و الأمن و المساواة. و بالمناسبة إنّ إيران تمتلك من القدرات و الإمكانات ما هو أعظم و أهم بكثير ممّا لدى تركية تتيح لها تحقيق تواصل و ثبات أكبر مع الأكراد في مجال العلاقات الكردية شرط أن تكون مستعدة لمنح المواطنين الأكراد و لا سيّما أهل السنّة منهم حقوق مواطنة مساوية لبقية مواطني البلاد،  و ذلك لمجموع العوامل التي ذكرتها آنفاً و علاقتها المباشرة بجوهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
*د. اردشير بشنج: أنا أيضاً أعتقد أنّ حقوق المواطنة ذات أهمية خاصة بالنسبة لأكراد إيران،  و لو كانوا تمتّعوا بهذه الحقوق بصورة تامة و كاملة،  لاستطعنا حلّ الكثير من  المشاكل،  و لكن يهمّني هنا أن أشير إلى موضوع نظري و دقيق هو،  إنّنا عندما نتحدّث عن حقوق المواطنة و مبدأ المساواة،  فإنّ بعض تفاصيل هذا الموضوع لا تتكيّف مع الجوهر الديني و المذهبي للجمهورية الإسلامية في إيران،  و عليه،  لا نستطيع القول بالمساواة التامة،  لأنّنا جميعاً نعلم بأنّه طبقاً لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية فإنّ الموقعين المهمين الأول و الثاني في الدولة،  أعني القائد و رئيس الجمهورية هما من حصة المواطنين الشيعة و هو مبدأ ثابت لا يتغيّر. و لكن إذا اعتقدتم في ضوء تعريف حقوق المواطنة و الأخذ بالاعتبار هذه المادة الدستورية بضرورة إشراك الأكراد من أهل السنّة في تقلّد المناصب التنفيذية في البلاد شأنهم شأن جميع مواطني البلاد فذلك أمر جيد،  و نحن لا نرى وجود أيّ مانع في الوقت الحاضر لتوزير إحدى الشخصيات الكردية السنية،  وفقاً لما تسمح به المواد الدستورية و لكن عملياً لا يحصل هذا،  ليس فقط وزير بل لا يتم تعيين محافظ كردي سنّي أيضاً،  و هذه قضية مهمة لا بدّ أن تحفّزنا على حلّ هذا النمط من المشاكل على أساس المنافع و الفوائد التي تنطوي عليها حقوق المواطنة.
النقطة الأخرى المهمة التي تقتضي التنويه هي أنّنا اليوم و بفضل التقدم الهائل في مجال الاتصالات و العلاقات الواسعة التي تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي،  و التي تجعل أكراد إيران مطلعين على الأوضاع المعيشية و الحياتية لأكراد البلدان الأخرى،  و كمحلّل سياسي عندما أسافر إلى إقليم كردستان العراق و أجد بني جلدتي هناك يتمتّعون بأوضاع معيشية و فرص عمل أفضل،  تراودني أحلام بأن أحظى في بلدي بمستوى من التنمية و الرخاء لا يقلّ عمّا وجدته عندهم. 
و في سياق الاهتمام بمشاكل الأكراد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية و اتّخاذ القرارات بشأنهم هناك معضلة أخرى نعاني منها تتعلق بعدم إشراك الأكراد في مراكز صنع القرار في طهران،  حيث لايستعان بالنخب الكردية للأسف،  و قد يكون أحد أسباب ذلك الأحداث المريرة المترسبة في الذاكرة منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة و نشاطات الجماعات المعادية التي حملت السلاح ضدّ الجمهورية الإسلامية و ما نتج عن ذلك من تجارب أليمة. مع ذلك أقول،  لا بدّ أن نغادر تلك المرحلة،  و نوفّر للنخب الكردية الفرصة لتلعب دوراً إيجابياً،  و في ظنّي سيكون دوراً مهماً و مؤثّراً  ليتمكنوا من متابعة مطاليبهم في أجواء مستقرة بعيدة عن أيّ عنف و توتر. و نحن نلاحظ كيف يتشدّد مجلس وصاية الدستور في تدقيق صلاحيات مرشحي المناطق الكردية لمجلس الشورى الإسلامي ممّا يؤدّي،  للأسف،  إلى ترشّح أشخاص يتّسم غالبيتهم بعدم الكفاءة و الضعف و السلبية،  و لا شأن لهم بمتابعة المطاليب و الحقوق،  و هذا النوع من النواب ضرره على النظام أكثر من نفعه،  لأنّه يقدّم انطباعاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام  و طبيعي في الظاهر،  بينما هناك تراكم للمشاكل تحت السطح بعضها فوق بعض. أعتقد أنّ على نظام الجمهورية الإسلامية العمل على توظيف قدرات النخب الكردية بنحو أكبر حتى لا يستمر حرمان البلد و الشعب من قدرات الكوادر الكردية و علومها و تخصصاتها. 
*د. اسكندر مرادي:على الأكراد في إيران أن يسعوا إلى تحقيق التنمية الشاملة بأصرح عبارة و أفصح بيان،  التنمية على جميع الصُعُد السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و سائر الميادين الأخرى. أعتقد أنّنا نمتلك القدرات و الكفاءات اللازمة لذلك. لقد رأينا مراراً تأكيدات سماحة قائد الثورة و هو أعلى مسؤول في البلاد على أنّ التعدّد الإثني في إيران هو فرصة سانحة و ليس تهديداً. عدا هذا،  و كما أشرت إلى ذلك سابقاً،  لايحمل المجتمع الإيراني غير الكردي،  لحسن الحظ،  أيّ نظرة سلبية أو عدائية للأكراد. كما لا نلحظ أيّ موقف سلبي أو ازدرائي إزاء اللغة و الأدب الكردي على صعيد القضايا الاجتماعية و الثقافية في إيران،  و خلاصة القول،  لا يوجد سبب لرفض الأكراد و إقصائهم. 
و مع ذلك،  فقد شهدت السنوات الأخيرة تطورات مهمة و ذات قيمة،  عندما عيّنت وزارة الخارجية سفيرين من أهل السنّة لدى فيتنام و بروناي أحدهما كردي و الآخر من المكون البلوشي. كما تمّ ترشيح بعض الشخصيات الكردية السنّية لشغل منصب الحاكم العسكري. و لأول مرة أيضاً تمّ ترشيح كردي من أهل السنّة لمنصب رئيس جامعة كردستان. و أنا أيضاً بوصفي كردي سنّي كنت رئيس جامعة (پيام نور) و كذلك خلفني في المنصب كردي سنّي. و كذلك رئيسا جامعة العلوم الطبية في كردستان و الجامعة التربوية من الأكراد،  و هناك عدد لا بأس به من الأكراد يشغلون مناصب مدراء عامين في مختلف الدوائر. هذه الأمثلة التي استعرضتها كلّها تدلّ على وجود انفتاح جيد و إيجابي،  و بطبيعة الحال،  فإنّ تحولات من هذا النوع تتطلب وقتاً و جهداً،  و لا يتوقّع أحد أن يتغيّر كل شيء بين ليلة و ضحاها. إنّنا لو اطّلعنا على القوانين العليا للمجلس الأعلى للثورة الثقافية لن نجد فيها أي موقف سلبي إزاء المكونات الإثنية،  أضف إلى ذلك موقف سماحة قائد الثورة الذي يعتبر الإساءة إلى أهل السنّة خطاً أحمر،  و قد أعطى توجيهات صارمة في هذا السياق. بناءً على ما قلنا،  فثمّة إمكانات و محفّزات جيدة في السلطة و الحكومة و المجتمع الإيراني تتيح طرح مطاليب الأكراد في إيران ضمن مسار معقول و واقعي و متابعتها و تنفيذها،  و قناعتي هي أنّه سيدخل الأكراد السنّة في المستقبل القريب معترك المناصب العليا مثل وكيل وزارة،  حتى تتحسّن الأوضاع و تتطوّر نحو الأحسن رويداً رويداً


فصلية طهران: شكراً لكم مرة أخرى لمشاركتكم في هذا الحلقة النقاشية.


قراءة: 925