فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

السياسة الأمريكية تجاه إيران؛ أربعون عاماً من صراع الإرادات

المهندس باقرجبر الزبيدی(بيان جبر)
وزير الداخلية العراقي الأسبق

الموجز
حظيت إيران بأهمية كبيرة من لدن المخطط الاستراتيجي  الأمريكي وبلغ النفوذ الأمريكي في هذا البلد الحيوي والمهم في غرب آسيا ذروته بعد حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953 و لكن اندلاع الثورة الإسلامية فاجأت واشنطن بمواقفها الثوری، ولم تقف سياسية إيران الثورة عند حدود المواقف المعلنة المناهضة للاستكبار العالمي فقط وإنما تعدتها إلى تقديم العون والمساعدة إلى حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها المقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية المسلحة بما فيها الدعم العسكري والمالي واللوجستي وهذا ما ساهم في خلق صحوة إسلامية عارمة لم يشهدها عالمنا العربي والإسلامي منذ قرون وهذا ما أقلق الغرب وعلى رأسه أمريكا التي انتهجت سياسية العداء للجمهورية الإسلامية و....
الكلمات الأساسية
إيران، أمريكا، إسرائيل، اتحاد السوفيتي، داعش

 

 

 

المقدمة
لكي نفهم السياسية الأمريكية تجاه إيران خلال العقود الأربعة الأخيرة لابد من العودة إلى الجذور التاريخية للعلاقات بين البلدين  والتي تعود إلى العام 1888 حينما أرسلت الدولة القاجارية التي كانت تحكم إيران أنذاك أول سفير لها إلى واشنطن و قدشهدت العلاقة بين البلدين نقلة نوعية وتطور غير مسبوق بعد الحرب العالمية الثانية حينما توجهت واشنطن إلى الشرق الأوسط لملئ  الفراغ الذي يمكن أن يحصل فيه بسبب تراجع النفوذ الفرنسي والبريطاني بسبب تداعيات الحرب ولرغبة أمريكا في الاستحواذ على سوق النفط العالمي والذي يتركز في تلك المنطقة إنتاجاًواحتياطاً.

الأبعاد التاريخية للعلاقات الثنائية
قد حظيت إيران بأهمية كبيرة من لدن المخطط الاستراتيجي  الأمريكي وذلك لمجاورتها للاتحاد السوفيتي الذي كان يسعى لمد نفوذه في ذلك البلد ذو الموقع الجيوسياسي بالغ الأهمية ومن ثم الوصول عبره إلى المياه الدافئة حلم القياصرة على مدى التاريخ.
وكان من نتائج التواجد الأمريكي في إيران فشل السوفيت في مشاريعهم لفصل مناطق آذربيجان وكردستان عن جسم الدولة الإيرانية  عام 1946 وفي نفس ذلك العام تولى الجنرال هيرمن شوارزكوف ( والد الجنرال شوارزكوف قائد القوات الأمريكية في حرب الخليج الثانية) مهمة الإشراف على قوى الشرطة والأمن الإيرانية.
وبلغ النفوذ الأمريكي في ذلك البلد الحيوي والمهم في غرب آسيا ذروته بعد الانقلاب الذي قام به الجنرال زاهدي ضد حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953 بدعم مباشر من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)  وذلك إثر قيام حكومة الدكتور مصدق بأول تجربة لتأميم النفط في دول العالم الثالث . وعاد الشاه من إيطاليا إلى طهران ليعطي أمريكا الأفضلية في كل تعاملات إيران الخارجية السياسية منها والاقتصادية والعسكرية حتى أن قانوناً صدر في إيران أعطى بموجبه الحصانة الكاملة لحاملي الجنسية الأمريكية الموجودين على الأراضي الإيرانية ومنع محاكمتهم في حال ارتكابهم جرائم في إيران .
وهذا راكم الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة الإسلامية في كل أرجاء إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس)  والتي فاجأت الدوائر السياسية والاستخبارية في واشنطن وحظيت نظراً لضخامتها بمتابعة من وسائل الإعلام في العالم. تقول مادلين أولبرايت  وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بهذا الصدد "فاجأتنا الثورة في إيران لم‌نر لها شيء مماثل من قبل كان يعتقد أن الإسلام كقوة سياسية في طور الانحسار لا المد فشل خبراؤنا باستيعاب عمق العداء للشاه وسرعان ما عرفنا إن الثورة الإيرانية لم‌ تكن مجرد انقلاب أو تغيير في النظام أو حتى حرب أهلية إنما زلزال سياسي حقيقي مماثل للثورتين الفرنسية والروسية1"
 ولعل من أهم وأبلغ الشعارات التي رفعتها الثورة الإسلامية وعملت بجد على تطبيقها شعار (لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية) والذي لم يطرح للاستهلاك المحلي كما جرت العادة في العديد من الدول المؤد لجة التي ترفع شعارات براقة دون أن تجد تلك الشعارات طريقها إلى التطبيق العملي وكان من مصاديق تطبيق ذلك الشعار فك ارتباط إيران بحلف (السنتو) وإلغاء دورها كشرطي للخليج الفارسي لصالح الغرب وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية في شتى المجالات الأخرى مع إسرائيل وتسليم سفارتها في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية واتخاذ موقف رافض وقاطع من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ومن مبدأ الصلح المنفرد الذي اعتمدته بعض الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني وغيرها من المواقف المبدئية والمشهودة ولم تكن تلك القرارات الثورية ضد النفوذ الأمريكي وعموم المعسكر الغربي تعني في عرف الثورة ودولتها الارتماء في أحضان المعسكر الشرقي وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي كما فعلت العديد من حركات التحرر في العالم بعد وصولها إلى السلطة وانتهى وجودها بانهيار ذلك المعسكر أواخر الثمانيات من القرن الماضي.  وعندما غزى الاتحاد السوفيتي أفغانستان أواخر عام 1979 أعلنت إيران أدانتها وشجبها لذلك الغزو و سارعت إلى مد يد العون للشعب الأفغاني المجاهد والذي تدفق الملايين من أبنائه كلاجئين  إلى الأراضي الإيرانية المجاورة وبذلك أعطت  الجمهورية الإسلامية  نموذجاً فريداً لكل شعوب العالم المناضلة في سبيل الحرية والاستقلال ولم تقف سياسية إيران الثورة عند حدود المواقف المعلنة المناهضة للاستكبار العالمي وأذنابه وإنما تعدتها إلى تقديم العون والمساعدة إلى حركات التحرر في العالم وفي مقدمتها المقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية المسلحة بما فيها الدعم العسكري والمالي واللوجستي وهذا ما ساهم في خلق صحوة إسلامية عارمة لم‌يشهدها عالمنا العربي والإسلامي منذ قرون.

مواصلة العدوان الأمريكي واستمراره
شهدت منطقة الشرق الأوسط متغيرات سياسية وفكرية متسارعة بفعل تأثير الصحوة الإسلامية التي أحدثتها الثورة الإسلامية في إيران وأصبح التيار الإسلامي يتقدم على ما عداه من تيارات فكرية وسياسية أخرى مما جعل المنطقة في مواجهة  تحولات كبرى وهذا ما أقلق الغرب وعلى رأسه أمريكا التي انتهجت سياسية العداء للجمهورية الإسلامية الفتية وتم الإعلان عن موافقة الإدارة الأمريكية على استقبال الشاه المخلوع على أراضيها بذريعة العلاج الطبي فيما كان عدد كبير من أنصار الشاه وأركان حكمه قد دخلوا أمريكا بصفة لاجئين سياسيين  وهذا ما أثار حفيظة الجماهير الإيرانية الغاضبة من سياسة أمريكا  المعادية لتطلعات الشعوب والداعمة بلاحدود للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة فشهدت طهران مظاهرات حاشدة توجهت إلى مقر السفارة الأمريكية وحاصرتها وهي تندد بأمريكا ومؤامراتها ضد إيران ثم قامت على إثرها مجموعة من الشباب من الطلبة السائرين على خط الإمام يوم 4 / تشرين الثاني / 1979 باقتحام السفارة واحتجاز العاملين فيها وعددهم (52) شخصاً وعلى إثرها جرت جولات من التفاوض لأطلاق سراحهم استمرت عدة أشهر من دون طائل .. وبعد ذلك قرر الرئيس الأمريكي في حينها جيمي كارتر اللجوء إلى الخيار العسكري لأطلاق سراح الرهائن وتقرر الإعداد لعملية عسكرية ضخمة تقرر البدء بها يوم 24 / نيسان /  1980 وتقضي بالقيام بإنزال قوات خاصة ( دلتا فورس) في نقطة ما من صحراء طبس وسط إيران وعلى بعد (500) كم شرق العاصمة طهران تتجمع فيها تلك القوات وتنطلق من هناك لاقتحام السفارة وإطلاق سراحه الرهائن وشارك في العملية التي تطلبت استعدادات ضخمة واستمر الإعداد لها منذ تشرين الثاني / 1979 ثلاث طائرات نقل ضخمة من طراز (130 C) و 8 طائرات هليكوبتر مع غطاء جوي مؤلف من تشكيلات من طائرات  (F14) و (F4) وإثناء التنفيذ والإنزال في المنطقة المحددة من  صحراء طبس حدثت بعض المعرقلات الطارئة هبت وفي الأثناء إضافة إلى ذلك عاصفة رملية مفاجئة منعت بعض الطائرات التي انطلقت من حاملة الطائرات الأمريكية ( نيمتز) التي كانت تبحر في خليج عمان من الهبوط في طبس لتنطلق منها كما كان مخطط في المرحلة الثانية من الخطة باتجاه أهدافها في طهران مما أربك العملية برمتها فتم الغائها وصدرت الأوامر بترك إحدى طائرات الهليكوبتر التي أصابها العطل في مكانها وإثناء الانسحاب المفاجئ والسريع ارتطمت إحدى طائرات الهليكوبتر بأحد طائرات النقل مما أدى إلى تحطم الطائرتين ومقتل 8 عسكريين كانوا على متنيهما وفشلت العملية برمتها وقد وصف الإمام الخميني العاصفة بأنها معجزه اللاهية بحق .. وكان لفشل العملية الأثر الأكبر في تعقيد أزمة الرهائن  ولم تفلح محاولات الرئيس كارتر الذي كان يخوض الانتخابات الرئاسية أمام منافسه الجمهوري ريغن في الإفراج عنهم رغم الوساطات التي بذلت من قبل العديد من الدول إلا إن الأزمة حُلّت قبل يوم واحد من مغادرة الرئيس الأمريكي كارتر البيت الأبيض بعد خسارته في الانتخابات فوفقاً لاتفاق الجزائر جرى إطلاق سراح الرهائن يوم 19 / 1 / 1981 بعد (444) يوم من الاحتجاز وكان لأزمة الرهائن كما أجمع عليه العديد من المحللين السياسيين من الأسباب الرئيسية لخسارته في الانتخابات وكانت القطيعة وحالة العداء بين إيران وأمريكا قد بلغت ذروتها قبل ترك الرئيس كارتر البيت الأبيض وقبل حل أزمة الرهائن وكان التفكير منصباً في دوائر صنع القرار في واشنطن  على إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية قبل أن يثبت أقدامه فكانت هناك محاولة انقلابية قامت بها مجموعة من ضباط الجيش عام 1980 إلا أنها وئدت من قبل سلطات الثورة وهي في مهدها لذلك لم يكن هناك إلا طريق العدوان العسكري المباشر ولم يكن من هو مستعد للقيام بذلك سوى نظام البعث الحاكم في العراق وخاصة بعد تسلم صدام حسين التكريتي السلطة بعد إزاحة أحمد حسن البكر عن سدة الحكم في تموز 1979  وبداء الحشد العسكري على الحدود مع إيران بعد أن تم إعداد الترتيبات النهائية للحرب باجتماع سري عقد في قاعدة المفرق الجوية الأردنية القريبة من الحدود مع العراق بين صدام حسين والدكتور زبغنيو بريجينسكي مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي بعدها أعلن صدام حسين يوم 17 / ايلول / 1980 بشكل رسمي ومن المجلس الوطني العراقي عن إلغاء اتفاقية الجزائر التي وقعها بنفسه يوم 6 / 3 / 1975 مع شاه إيران  وفي يوم 22 / 9 / 1980 شن نظام بعث العراق عدوانه السافر على الجمهورية الإسلامية باسم (قادسية صدام) واندلعت ما عرف بحرب الخليج الأولى التي استمرت ثمانية سنوات وهي أطول حرب نظامية شهدها القرن العشرين وكان الهدف الرئيسي منها إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية في إيران التي رفعت شعار ( الدفاع المقدس) واستطاعت رغم تفكك الجيش الإيراني بعد الثورة  والنقص الحاد في قطع الغيار والحظرالأمريكي المفروض على السلاح والذي شكل مشكلة حقيقة للقوات المسلحة الإيرانية التي تعتمد اساساً على السلاح ذو المنشئ الغربي من استعادة زمام المبادرة ودحر العدوان مع كل الدعم الأمريكي لنظام صدام وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد أعلنت في شباط 1982 رفع اسم العراق من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وبناء على توجيه رئاسي وقعه الرئيس ريغن . وصل إلى بغداد يوم 27 / تموز / 1982 توماس تويتن أحد ضباط  الـ CIA  لتقديم معلومات استخبارية وصورالأقمار الاصطناعية الأمريكية عن مسارح العمليات العسكرية على طول جبهة الحرب بعد ذلك أصبح هناك بعثة مقيمة للـ CIA في بغداد منذ العام 1983 مركزها منطقة الجادرية ومؤلفة من ثلاث ضباط ومهمتها تقديم المعلومات الاستخبارية وصور الأقمار الاصطناعية عن جبهات القتال كما تولي الجانب الأمريكي بناء محطة اتصالات متطورة وذات تكنلوجيا عالية في بغداد وانتقل الدعم الأمريكي إلى مرحلة تقديم الاستشارات العسكرية للقيادات العسكرية أعقبها تقديم الأسلحة والمعدات ذات الاستخدام المزدوج وكان يتم ذلك في البداية عن طريق دولة ثالثة هي مصر أو الأردن أو السعودية أو الكويت ثم أصبحت  تورد بعدها إلى العراق مباشرة بموافقة الكونغرس الأمريكي . وكان الرئيس الأمريكي ريغن  قد عين دونالد رامسفيلد والذي أصبح لاحقاً وزير الدفاع في عهد بوش الإبن مبعوثاً خاصاً له إلى الشرق الأوسط أواخر عام 1983  وقد قام بزيارة بغداد في كانون أول / 1983  التقى خلالها بصدام حسين ونقلت اللقاء وسائل الإعلام العراقية والعالمية كما قام بزيارة مماثلة إلى بغداد في أذار / 1984  وكانت العلاقات العراقية الأمريكية قد بلغت مرحلة متقدمة بالإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما  في 26 تشرين الثاني 1984 بعد أن كانت قد قطعت رسمياً في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف إثر عدوان الخامس من حزيران عام 1967 وبعد عودة تلك العلاقات بدأت الشركات الأمريكية تعمل في العراق بشكل رسمي بما فيها الشركات المنتجة للأسلحة الكيماوية والبيولوجية وهناك قائمة طويلة ومعروفة بالشركات الأمريكية والأوروبية وخاصة البريطانية والألمانية الغربية والفرنسية والهولندية والتي كان لها دور كبير في مساعدة النظام العراقي على إنتاج الأسلحة الكيمياوية التي استخدمت في جبهات الحرب ضد إيران وفي الداخل العراقي ولم يقتصر التدخل الأمريكي في الحرب على دعم العراق ومساعدته وإنما وصل إلى مرحلة التدخل العسكري المباشر بما عرف بحرب الناقلات ففي عام 1987  قامت السفن الحربية الأمريكية بتدمير منصتي نفط عائمتين في الخليج والهجوم على قطع بحرية إيرانية في 18 / 4 / 1988 وإغراق اثنين منها وكان ذروة التدخل العسكري الأمريكي هو إسقاط طائرة الركاب الإيرانية الإيرباص وعلى متنها (295) راكب يوم 3/ 7 / 1988 من قبل المدمرة الأمريكية (يواس إس فينسن ) بصاروخ بحر جو وهي في طريقها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة مما أدى إلى انفجارها في الجو ومقتل جميع ركابها وادعت الولايات المتحدة رسمياً أن الحادث كان خطأً في التقدير وكان قائد المدمرة الكابتن وليام روجرز قد منح عام 1990 وسام الاستحقاق الأمريكي والذي يمنح  إلى أفراد القوات المسلحة الأمريكية في حال تحقيقهم إنجاز في عملهم العسكري
فرض الحصار
اعتادت أمريكا اللجوء إلى سلاح العقوبات وفرض الحصار لتركيع الشعوب وإملاء الشروط على الدول التي لا تتماشى مع سياستها فبعد احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران أمر الرئيس الأمريكي كارتر بتجميد ما قيمته (12) مليار دولار من الأصول الإيرانية بما فيها ودائع في البنوك الأمريكية وتصاعدت العقوبات الأمريكية على طهران خلال سنوات الحرب المفروضة على إيران لتدخل في إطار قانون جائر أصدرته الإدارة الأمريكية  عام 1984 باسم (قانون العقوبات على إيران) وهو الذي أصبح أساساً لكل الإجراءات العقابية التي اتخذت ضد الشعب الإيراني المسلم والذي لم يزده الحصار خصوصاً في جانبه الاقتصادي والمالي إلا إصراراً على التمسك بمبادئ  وقيم الثورة الإسلامية فالتاريخ يعيد نفسه كما يقال حيث لم‌يزد الحصار الذي تعرض له المسلمون الأوائل في شعب أبي طالب في مكة المكرمة أوئل الدعوة الإسلامية إلا إصراراً على التمسك بقيم الإسلام ومبادئه الخالدة ورب ضارة نافعة كما يقول المثل العربي فإن استمرار الحصار دفع الدولة الإيرانية ومؤسساتها إلى الاعتماد على الذات وبناء قدرات علمية وصناعية واكتساب خبرات في قطاعات إنتاجية حيوية كالزراعة والخدمات أغنت إيران واقتصادها عن استيراد الكثير من المنتجات التي كانت تستوردها سابقاً من الخارج  كما تطورت الصناعات الدفاعية حتى غدت إيران في العقود اللاحقة واحدة من بين أهم الدول في العالم المنتجة للأسلحة  والمعدات العسكرية كما تطورت قدرات إيران  العلمية وخاصة في مجال الأبحاث النووية مما أثار رعب دول المعسكر الغربي وبينها إسرائيل من احتمال امتلاك إيران برنامج لتطوير الأسلحة النووية رغم نفي إيران وتأكديها على أن برنامجها النووي هو للأغراض السلمية وبعد توقيع الاتفاق النووي في 14/7/2015 بين إيران ومجموعة  خمسة زائد واحد بضمنها أميركا رفعت العقوبات عن إيران التي أثبتت للعالم أجمع إنها رقم صعب لا يمكن  تجاوزه  أو تخطيه في معادلة الشرق الأوسط بالغة الحساسية وهذا ما رفع الأعباء عن كاهل إيران ومكنها من التفرغ  للبناء الداخلي وتقديم المزيد من الدعم والإسناد لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية ولسوريا في معركتها ضد الإرهاب العابر للحدود مما جعل من محور المقاومة  سداً منيعاً في مواجهة التمدد والعدوان الإسرائيلي والغربي في المنطقة وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب إلى الخروج غير المبرر من الاتفاق النووي ومن طرف واحد في 8 / 5 / 2018  وبتشجيع سعودي-إماراتي-إسرائيلي علني وذلك للحد من نفوذ إيران في المنطقة ومحاصرتها بحزمة غير مسبوقة من العقوبات تضمنت الحظر على تصدير النفط وعقوبات على البنك المركزي الإيراني وشملت العقوبات حتى الدول والشركات التي تتعامل مع إيران ورغم ضراوة العقوبات إلا إن إيران استطاعت إلى حد ما تجاوز أثارها على بنية الدولة والمجتمع وهي تعمل حثيثاً على التعاون مع الشركاء على بناء نظام جديد للعلاقات الدولية والتبادل التجاري بين الدول يقوم على أسس جديدة من أهمها استبدال الدولار بالعملة المحلية وهذا ما نجحت فيه إيران إلى حد بعيد في تعاملها مع اقتصاديات كبرى مثل الصين والهند و روسيا وتركيا وهو ما سيرتد سلباً في المستقبل على الدولار أداة أمريكا الفعالة في السيطرة على الاقتصاد العالمي كما إن إيران خطت خطوة فعالة في التعاون مع أهم التحالفات الاقتصادية العالمية كمنظمة البريكس ودول اتفاقية شنغهاي مما يوفر لها ضمانات وحماية أفضل ريثما يستقروضع اقتصادها بعيداً عن الهيمنة والتحكم الأمريكي.
دعم أعداء الثورة 
اتجهت أميركا إلى المراهنة على أعداء الثورة داخل إيران بعد فشل سياستها السابقة وكانت منظمة خلق في مقدمة تلك القوى التي وضعت نفسها في خدمة المخططات التي تستهدف الشعب الإيراني ومنجزاته التي تحققت على مدى العقود الأربعة الماضية، وكانت السلطات الأمريكية في العراق تصر بعد سقوط نظام البعث البائد على بقاء عناصر منظمة خلق في معسكر أشرف وباقي المناطق في العراق رغم التأكيد الجماهيري الصارم على إخراجهم من البلاد بسبب الجرائم الوحشية التي ارتكبوها بحق أبناء الشعب العراقي خلال الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وفي انتفاضة الرمادي عام 1995 واستمر الدعم الأمريكي لتلك المنظمة الإرهابية التي رفعت وزارة الخارجية الأمريكية اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية عام 2012 فكان حضور كبارالمسؤولين الأمريكان مستمراً في المؤتمرات التي تقيمها وأهمها المؤتمر الذي عقدته في باريس عام 2017 والذي عبر فيه بيل ريتشاردسون سفير أمريكا السابق في الأمم المتحدة خلال الفترة (1997-1998) عن توقعاته بشأن مستقبل الحكم في إيران وعن أمله يوصل منظمة خلق إلى سلطة بقوله (نحن بحاجة إلى نظام جديد وهذا النظام هو مجاهدي خلق2) كما أعلن جون بولتن في نفس المؤتمر وذلك قبل إن يختاره الرئيس ترامب بأشهر لمنصب مستشار الأمن القومي (أنهم سيحتفلون بسقوط الحكومة الإيرانية قبل عام 20193) ولكن الذي حدث إزاحته هوعن منصبه قبل انتهاء العام 2019 والحكومة الإيرانية في محلها باقية لم تتزحزح ومن صور الدعم الأمريكي لمنظمة خلق السماح لها بافتتاح مكتب للعلاقات العامة في واشنطن تحت مسمى (مجلس المقاومة الوطني الإيراني) وهو ينشط في أروقة الكونغرس والخارجية الأمريكية ويحظى برعايتهما... ولا يقتصر الدعم الأمريكي لأعداء الثورة على الجانب السياسي و الإعلامي وإنما هناك دعم مالي مباشر للجماعات الإرهابية المسلحة وخاصة في مناطق كردستان وبلوشستان الإيرانية ففي (أوائل عام 2006 طلبت كونداليزا رايس مبلغ 750 مليون دولار إضافي لمساعدة المنظمات المسلحة المناهضة لإيران) إلا أن تلك السياسة باءت بالفشل الذريع هي الأخرى بعد الضربات الساحقة التي وجهتها القوات الأمنية الإيرانية إلى تلك المنظمات المارقة كمنظمة بيجاك والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني التي تتخذ من إقليم كردستان العراق قواعد لها ومنظمة جند الله البلوشية التي تستخدم الأراضي الباكستانية في عملياتها الإرهابية داخل إيران ... ولم تعدم أمريكا وأجهزتها المخابراتية الوسيلة لإثارة الاضطرابات في الجمهورية الإسلامية معولة في ذلك على ما يسمى بقوى ومنظمات المجتمع المدني التي تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي في نشاطاتها الهدامة والتي تحركت في العام 2018 و2019 مستغلة الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أثارها تشديد الحصار على إيران على أمل استنساخ تجربة الربيع العربي وما أسفر عنه من زلزال مدمر ضرب المنطقة العربية منذ عام 2011 ولازال تأثير ارتداداته حاضره في بعض المجتمعات العربية والذي لم تكن نشأته وتحركه بعيداً عن الدوائر الأمريكية والغربية وأريد لتلك التجربة المرة والمدمرة للبلاد والعباد أن تتكرر في إيران إلا أن وعي الشعب الإيراني ويقظة السلطات الحكومية وحنكتها في التعامل مع حالات كهذه فوت الفرصة على أعداء الثورة في الداخل والخارج.
محاصرة إيران بالتحالفات الإقليمية والدولية 
تشكل التحالفات الثنائية والجماعية أحد أهم أدوات السياسية الخارجية الأمريكية ولم تفقد تلك الإستراتيجية العالمية أهميتها بعد الحرب الباردة فبقي حلف الأطلسي رغم انهيار حلف وارشو واستمر تشكيل الأحلاف المؤقتة بعد كل أزمة أو حرب تخوضها أمريكا وهذا ما وفر لها في أغلب الأحيان شرعية للتدخل خاصة أذا حظي بموافقة من مجلس الأمن الدولي ... ونظراً لطبيعة المواجهة في منطقة الخليج والتي لا تقتصر على المجابهة بين أمريكا وإيران وإنما هناك وجه أخر لها يتمثل بالمواجهة بين إيران والسعودية ومعها بعض دول الخليج حلفاء أمريكا التي تركت من جانبها الصراع يستعر بين الطرفين المطلين على الخليج إلى حد المجابهة المباشر دون أي تدخل مباشر منها على أمل أن تفشل السعودية وحلفائها في تلك المواجهة فتزيد من ابتزازهم واخذ المزيد من التنازلات منهم، وكانت السعودية قد راهنت في البداية على درع الجزيرة إلا أن الرهان سقط سريعاً بانفراط عقد مجلس التعاون الخليجي لذلك بداء التعويل على مصر وعلى وعود الرئيس السيسي بأن الجيش المصري متأهب لنجدة دول الخليج التي أمنها من أمن مصر القومي كما صرح الرئيس المصري وإن الأمر لا يتعدى (مسافة السكة) على حد تعبيره . ألا إن التجربة أثبتت أن مصر تنئ بنفسها عن حروب السعودية العبثية ومشاريعها الفاشلة كما هو الحال منذ خمس سنوات في اليمن ومنذ ثمان سنوات في سوريا و حتى التعاون العسكري المحدود معها لم ينتج عنه أكثر من مناورة ( درع العرب-1) التي جرت في قاعدة محمد نجيب العسكرية على الأراضي المصرية في تشرين الثاني/2018 بمشاركة عدة دول عربية دون أن تتحول تلك التدريبات إلى أكثر من مناورة عربية مشتركة ودون أي تعهد من جانب الدول المشاركة بحماية السعودية أو الاستعداد لمواجهة إيران في وقت كثر فيه الحديث عن تقارب خليجي إسرائيلي يحمل إبعاد تلك المواجهة مع ما وصف بالعدو المشترك للطرفين وهو إيران وليصبح الصراع معها بديلاً عن الصراع العربي-الإسرائيلي والذي جرى التفاهم على إنهاءه فيما عرف بصفقة القرن وبداء التمهيد لذلك الحلف وتهيئة المقدمات له في مؤتمر وارشو الذي عقد في شباط/2019 والذي جلس رؤساء الوفود العرب المشاركين فيه إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بيبي نتنياهو على طاولة واحده وأمام عدسات الكاميرا وبدأت تسريبات إعلامية تتحدث عن تشكيل (ناتو عربي) بعد المؤتمر يضم دول الخليج زائداً مصر والأردن لمواجهة إيران ثم جاءت ورشة البحرين بمشاركة إسرائيلية في نفس الإطار إلا أن النتائج في المحصلة كانت أبخس من المقدمات بما فيها مشروع تشكيل (التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية في الخليج) الذي أعلنت عنه أمريكا مؤخراً والذي سارعت السعودية والإمارات إلى الانضمام إليه رغم إدراكها لطبيعة اللعبة الأمريكية تجاه ما يدور في الخليج خاصة بعد الضربة الأخيرة التي تعرضت لها منشأت شركة ارامكو النفطية في 14/9/2019.
استغلال الجماعات الإرهابية والتكفيرية
لازال لغز تأسيس داعش محاطاً بالسرية والكتمان وإن كان قد أميط ألثام عن أحداث ووقائع ترتبط بذلك التأسيس منها أن معظم مؤسسي داعش وهم خليط من قيادات القاعدة وضباط الجيش والأجهزة الأمنية في نظام البعث البائد من الذين أودعوا في معتقل بوكة في البصرة وهو بمثابة مدرسة كما هو معروف لإعداد وتخريج عتاة السلفية التكفيرية حيث تم تبنيهم من قبل الاستخبارات الأمريكية ومن ثم أطلاق سراحهم ليلتحقوا بما يسمى بدولة العراق الإسلامية بمن فيهم أبو بكر البغدادي الذي تزعم التنظيم بعد مقتل سلفه أبو عمر البغدادي وأسس على أنقاضه داعش عام 2013 وقد كشف ترامب أثناء خوض حملته الانتخابية عن سر ذلك التنظيم عندما أعلن أمام الرأي العام أن داعش هو صنيعة الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلنتون التي سبق لها وإن أشارت إلى شي من هذا القبيل في مذكراتها، وهناك شواهد من ميادين القتال دلت على ذلك منها قيام الطائرات المروحية الأمريكية بإنزال المؤن والعتاد لشراذم داعش المحاصرة ونقل قيادات ومقاتلين منهم من مكان إلى أخر في سوح القتال سواء في العراق أو سوريا هذا في المدى المنظور أما على المدى الأبعد فقد كان من الواضح أن هناك مسعى من الأمريكان ومعهم دول أخرى لتوظيف ذلك التنظيم الإرهابي في مخططاتهم التي تستهدف منطقة الشرق الأوسط بأسرها وليكون بديلاً لدعاة السلفية الجهادية في العالم عن تنظيم القاعدة المسؤول عن أحداث  /أيلول/2001. وكان داعش بعد انطلاق إرتاله من سوريا وإسقاطه الموصل في 10/6/2014 قد استهدف عبر محافظة صلاح الدين العاصمة بغداد الذي أصبح على مشارفها فكانت فتوى المرجعية العليا في النجف الأشرف بالجهاد الكفائي والذي تشكل على أساسها الحشد الشعبي المجاهد والإسناد العسكري الإيراني بالأسلحة والذخيرة والخبراء والذي جاء بناء على طلب رسمي عراقي الإثر المباشر في دفع الغزاة البرابرة وإرجاعهم من حيث أتوا إلى أن تم قبرهم في معركة الموصل الخالدة وكان داعش قد أعلن على صفحته على توتير وإثناء زحفه على بغداد ( أن هدفنا هو تدمير رموز الشرك في النجف وسامراء وكربلاء، وبعد تدمير الرموز في العراق سنأتي لهدم مشهد في إيران4).
ولم يكن داعش يهدف إلى تهديد إيران من وسط وجنوب العراق فحسب وإنما زحفت قواته على أربيل في آب/ 2014 بهدف استهداف حدود الجمهورية الإسلامية من شمال العراق أيضا وقد سارع فيلق القدس التابع لحرس الثورة الإسلامية إلى مد بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي بالسلاح والذخيرة فوراً مع قوة مقاتلة من الفيلق ساهمت في صد داعش ومنعه من الوصول إلى أربيل ودفعه إلى ما وراء منطقة مخمور في محافظة الموصل لذلك لجاء داعش إلى محاولة اختراق إيران من الداخل هذه المرة وذلك بشن هجوم مزدوج يوم 7/6/2017 في العاصمة طهران استهدف مقر البرلمان الإيراني والأخر مرقد الإمام الخميني ألا أن قوات الأمن الإيرانية أحبطت الهجومين وقضت على المهاجمين وكان رد الجمهورية الإسلامية على الهجومين صاعقاً ومدمراً فقد شنت القوات الجوية الفضائية التابعة لحرس الثورة الإيرانية في 18/6/2017 هجوماً بالصواريخ البالستية من قواعدها في محافظتي كرمنشاه وكردستان على معسكرات ومقرات قيادة لداعش في محافظة دير الزور السورية وكانت الضربات دقيقة ومباشرة وتم تصويرها بالطائرات الإيرانية المسيرة التي انطلقت من قواعد لها قرب العاصمة السورية دمشق فكانت تلك رسالة واضحة وصريحة إلى داعمي داعش ومموليه بإن ذراع إيران العسكري قادر إلى الوصول إلى أي نقطة حساسة في الشرق الأوسط. ولم يقتصر تمدد داعش على العراق وسوريا وإنما شمل لبنان أيضاً حيث أصبح لداعش إمارة في جبال لبنان الشرقية وكذلك لجبهة النصرة السورية المرتبطة بالقاعدة بدعم وتغطية من بعض قوى 14 آذار اللبنانية بغية إيجاد معادل سلفي تكفيري مسلح مواجه لحزب الله في الداخل اللبناني ألا أن معادلة (الجيش-الشعب-المقاومة)التي طرحها حزب الله هي التي انتصرت في النهاية واستطاع الجيش اللبناني وقوات حزب الله من تحرير جرود عرسال أولاً وجرود رأس بعلبك والقاع في مرحلة لاحقه وبالتعاون مع الجيش السوري في المقلب الآخر من الحدود وطرد فلول داعش والنصرة من كافة الأراضي اللبنانية وإلى الأبد؛ وذلك بالتزامن مع الانتصارات الكبرى التي تحققت في الداخل السوري واندحار التحالف الأمريكي الإسرائيلي الخليجي الأوربي لإسقاط الدولة السورية التي صمدت قيادتها في المعركة الكبرى التي كان لروسيا الاتحادية دور فعال فيها إلى جانب إيران التي أمنت عمقها الاستراتيجي وبذلك انتقل محور المقاومة من الدفاع إلى الهجوم في كل الجبهات التي قاتل فيها وأصبح وجوده على خطوط وقف أطلاق النار في الجولان المحتل وفي جنوب لبنان حقيقة واقعه وهو مسلح بمئات الآلاف من الصواريخ القادرة على تهديد الكيان الإسرائيلي في العمق.

(الحاشية)
1 . أبحاث استراتيجية : مجلة دورية تصدر عن مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية (العدد 17) نيسان ، ص44
2 . صحيفة الاستقلال، 28/إيلول/2019 (مجاهدي خلق الإيرانية .. من قائمة أمريكا السوداء إلى اروقة الكونغرس)
3 . المصدر السابق
4 . الموسوعة الحرة : إيران و داعش (تهديد داعش لإيران)  ar.wikipedia.org/wiki


قراءة: 866