فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

كلمة رئيس التحرير

خطأ الحسابات و التوازن السلبي
حسين صفدري


خطأ الحسابات و التوازن السلبي
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامپ بنبرة متغطرسة و متعجرفة مسؤوليته عن جريمة اغتيال القائد الباسل لجبهة المقاومة الشهيد الحاج قاسم سليماني من دون أن يأخذ في اعتباره منصبه الرسمي٬ و أضاف: إنّ هذا العمل قد تمّ بأمرٍ منه شخصياً. و زعم أنّه اتّخذ هذا القرار من أجل الحؤول دون وقوع حرب. كما أنّ وزير خارجيته مايك بومبيو أكبر الداعين إلى الديمقراطية و حقوق الإنسان قام بخطوة مماثلة علّه يصيب شيئاً من غنائم هذه المعركة الدامية٬ واصفاً هذا السلوك الإرهابي بالعمل «الشجاع». هذا الرجل الذي اعتاد في التحولات الدولية و معادلات غرب آسيا أن‌يتقمّص دور وزير دفاع الولايات المتحدة بدلاً من ممارسة دوره كوزير للخارجية لم‌يكتف بهذا القدر من الغباء السياسي بل ذهب لأبعد من ذلك و اعترف بكل وقاحة بأنّه هو أيضاً شارك في صنع هذا القرار٬ حيث صرّح رسمياً: لا بدّ من القول بأنّني كنت جزءاً من عملية صنع هذا القرار. 
في الحقيقة٬ لم تكن حادثة اغتيال الشهيد الحاج قاسم سليماني الذي شكّل في العقدين الأخيرين تحدياً كبيراً للمشاريع الاستكبارية للولايات المتحدة خارج الحدود الجغرافية للجمهورية الإسلامية و استطاع أن يحوّل أمريكا من نظام سياسي بلامنافس إلى مجرّد حكومة عادية و مهزومة٬ أقول لم تكن حادثة الاغتيال هذه مفاجئة بالنسبة لكثير من المراقبين السياسيين بل و حتى للشهيد سليماني نفسه. و لكن أن يعلن أعلى مسؤول في أقوى دولة في العالم رسمياً مسؤوليته عن هذا العمل الإرهابي٬ و أن يتباهى بذلك بكل صلف و وقاحة٬ فهذا ما لم يكن متوقعاً. لم يكن السلوك غير الطبيعي للرئيس الأمريكي المفلس و وزير خارجيته الصاخب٬ مجرّد تعبير عن شعور انفعالي٬ و إنّما سلوك خارج مقاييس الأعراف مردّه الهزائم المتتالية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في مواجهة المقاومة الباسلة للجمهورية الإسلامية الإيرانية. إنّ عقوداً من هزائم البيت الأبيض و فشله في منع حصول الجمهورية الإسلامية على أدوات القوة و الاقتدار و إجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات بعد الانسحاب من الاتفاق النووي٬ و فشله في كبح جماح القوة الصاروخية لإيران٬ و كذلك إخفاقه في الحدّ من النفوذ الإقليمي الإيراني٬ و هزيمته في العراق و سورية و لبنان و اليمن و فك عرى تحالف هذه البلدان مع إيران٬ بالإضافة إلى عشرات القضايا التي تسجّل في خانة الهزائم الملموسة و غير الملموسة للولايات المتحدة، و الآن يحاول زعماء البيت الأبيض التشبّث بمكتسبات هذه العملية الإرهابية عبر التغطية على جميع تلك الهزائم٬ و أن يتنفسوا الصعداء من خلال سعيهم لصنع انتصار وهمي. إنّ الخطأ الذي ارتكبه ترامب بإصداره قرار تنفيذ هذه العملية الإرهابية على الأراضي العراقية٬ على الرغم من نجاحه في إزاحة القائد سليماني فيزيقياً من ميدان المواجهة مع قوات البنتاغون و العناصر التكفيرية الإرهابية (عملاء أمريكا)٬ لكنّ الحقيقة هي أنّه بهذا الخطأ الاستراتيجي قد غيّر موازين القوى في منطقة غرب آسيا لصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية. و في ضوء الوقائع المستجدة بعد اغتيال الشهيد الحاج قاسم سليماني٬ لن تمضي التحولات الاستراتيجية في المنطقة وفقاً لسيناريوهات البنتاغون و الـ CIA و البيت الأبيض. لقد اعتقد ترامب و مستشاروه أن القضاء على قائد إيراني مرموق كان له دور في جميع هزائم الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين سيتيح لهم: 
- زيادة الرصيد العالمي للولايات المتحدة و للرئيس الأمريكي شخصياً؛ 
- دفع إيران نحو العزلة و الإحباط و الانفعال بعد هذه الحملة (الصاعقة)؛ 
- سوق البلدان المجاورة لإيران في المنطقة إلى بيت الطاعة للولايات المتحدة بفعل أجواء الخوف و القلق التي ستتولد عن استعراض القوة الذي سيعقب تنفيذ هذه العملية الإرهابية. 
- إسدال الستار على قضية المحاكمة البرلمانية للرئيس من قبل النواب الديمقراطيين و التي أثّرت على المعادلات الداخلية٬ و محاولة إنهائها لصالح ترامب. لقد اعتقدوا أنّه من خلال خلق أوضاع مواجهة مع إيران سوف يهيمنون على المشهد السياسي في أمريكا٬ و يدفعون الجناح المعارض للحزب الحاكم إلى التزام الصمت في وضع المواجهة مع العدو الخارجي. 
- و أخيراً قرع طبول النصر و التعمية على الهزائم المكررة لترامب على الصعيد السياسي عبر تهيئة الأجواء و رفع حمى الحملات الانتخابية لصالح دونالد ترامب و ضمان انتصاره.
لكنّ الأحداث أخذت وجهة مغايرة بعد هذه العملية الإرهابية الأمريكية في فجر الثالث من يناير/̸ كانون الثاني 2020 م٬ و سفّهت أحلام المخططين لهذه العمليات الإرهابية و جعلتها هواء في شبك ممّا ترتّب عليها نتائج معكوسة٬ منها على سبيل المثال؛
أ. سقوط المكانة العالمية للولايات المتحدة و سمعتها أمام الرأي العام العالمي لتهبط إلى مستوى فريق إرهابي. هذا البلد الذي يدّعي قيادة العالم يسير نحو الهاوية و الحضيض بسبب هذه التصرّفات٬ و صار يمارس دوره كمجموعة إرهابية. لن‌يتسنّى بعد الآن للإدارة الأمريكية أن تظهر بمظهر الدولة المقتدرة التي تمارس دوراً بنّاءً في التطورات الثنائية أو متعددة الأطراف بعد تبنّيها للنماذج السلوكية الإرهابية و الأساليب العنترية. و لن تثق أيّ دولة (حتى حلفاء الولايات المتحدة) بدور البيت الأبيض. 
ب. إنّ الردّ السريع و الحاسم و المعلن للجمهورية الإسلامية الإيرانية على الاعتداء الإرهابي للبيت الأبيض المتمثّل في الرشقات الصاروخية على قاعدة عين الأسد قدأنهى فرضية أنّ امتلاك الولايات المتحدة لعوامل القوة يتيح لها التصرّف كما يحلو لها من دون أن تتحمّل تكاليف أخطائها٬ و أثبت أنّ الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية في الردّ على أيّ اعتداء من قبل العدو لم يكن مجرّد تهديد أجوف أو دعاية إعلامية. إنّه قرار استراتيجيي يجعل إيران مصرّة على التصدّي لأيّ اعتداء. و قد أكّد قائد الثورة الإسلامية على هذا القرار بوصفه المسؤول الأول عن رسم السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية  حيث قال سماحته: "لن ندفع البلاد نحو الحرب أبداً٬ لكنّنا سوف نتصدّى بكل حزم و اقتدار لكل من يريد أن يفرض إرادته علينا". 

ج. لقد كشف هذا الردّ عن قدرات إيران في تطبيق سياساتها الإقليمية و عن عجز الولايات المتحدة لتقييد إيران أو منعها من تحقيق أهداف ثورتها الإسلامية في المنطقة. ففي تقرير من 130 صفحة لوكالة المعلومات الدفاعية الأمريكية (دی آی‌ای) التابع للبنتاغون لتحليل قدرات إيران العسكرية (كإحدى العوامل المحفزة على تحقيق أهداف السياسة الخارجية)٬ و كذلك مقاصدها و استراتيجيتها و إمكاناتها العسكرية؛ حدّد التقرير هدفين عسكريين استراتيجيين تسعى إيران لتحقيقهما هما "الإبقاء على النظام و الهيمنة على منطقة غرب آسيا". و قد جاء في التقرير٬
«وفي إطار تحقيق هذين الهدفين تلجأ إيران إلى تطبيق مقاربات مركبة أو هجينة٬ و تقوم بتوظيف عناصر تقيلدية و غير تقليدية في آنٍ معاً.
للوهلة الأولى٬ تبتني استراتيجية إيران التقليدية على خلق قوة ردع و قدرة ردّ انتقامية ضدّ المهاجمين. 
وفي حال أخفقت استراتيجية الردع٬ فإنّها تُظهر قدرتها و إصرارها على تحميل الخصم تكاليف باهضة عبر استخدام مجموعة متكاملة من هذه القدرات لاستعادة قوة ردعها. 
ولأجل ترسيخ عمق استراتيجيتها تلجأ إيران إلى العمليات العسكرية غير التقليدية و شبكة من الشركاء العسكريين و الوكلاء الخاضعين لنفوذها».
وأشار التقرير إلى قدرات إيران الصاروخية ودورها في تطبيق سياساتها: «تسعى طهران إلى قيادة منظومة إقليمية مستقرة تُحكم فيها هيمنتها المطلقة. لقد بقي حلفاء هذا البلد دون أن يمسّهم أيّ ضرر٬ بينما نفوذ الولايات المتحدة و شركائها في المنطقة في تناقص مستمر٬ و قد هُزمت الجماعات السنّية المتطرّفة».
ووفقاً لتقييم وكالة المعلومات الدفاعية الأمريكية فإنّ طهران تجد نفسها على وشك بلوغ هذا الهدف٬ لأنّها تتوفر على قدرات متنوعة من بينها؛ 
- قدرات الصواريخ الباليستية التي تشكّل إحدى مقومات الردع الاستراتيجي.
- للصواريخ الإيرانية القدرة على شنّ حملات من مسافات بعيدة لردع الأعداء عن مهاجمة أراضيها.
- تمتلك إيران أكبر ترسانة صاروخية في الشرق الأوسط٬ و عدد كبير من الصواريخ الباليستية قريبة المدى و قصيرة المدى و متوسطة المدى التي تصل إلى 2000 كم بما يتيح لها تغطية المنطقة برمتها. 
- تمتلك إيران برنامجاً موسعاً لتصنيع الصواريخ و هو في حال نمو مستمر على صعيدي المسافة و التطور٬ و لم تفلح عشرات المحاولات الأمريكية لتعطيل تطوّر القدرات التسليحية لإيران. 
- إنّ امتلاك إيران لموقع جيوسياسي على طول الخليج الفارسي و مضيق هرمز يتيح لها قدرات بحرية كبيرة لتنفيذ تكتيكات غير متكافئة باستخدام المنصات أو أنواع الأسلحة التي بمقدورها أن تشكّل عامل مؤثر في التغلّب على القوة البحرية للعدو.
- طائفة واسعة من هذه القدرات متاحة لإيران و تشمل: صواريخ كروز مضادة للسفن٬ القوارب الصغيرة السريعة٬ الألغام البحرية٬ الغواصات٬ طائرات مسيّرة٬ صواريخ باليستية مضادة للسفن٬ و مضادات الدفاع الجوي. 
كما أشار التقرير المذكور إلى أنّ «إيران هي البلد الوحيد في الخليج الفارسي الذي يمتلك أسطول من الغواصات».
هذه جوانب من المعلومات التي تمتلكها وكالة المعلومات الدفاعية الأمريكية عن القدرات العسكرية الإيرانية التي يوظّفها العسكريون في الجمهورية الإسلامية لتطبيق السياسات الإقليمية. ناهيك عن النفوذ المعنوي لإيران بين شعوب المنطقة و الذي يمثّل التأثير الأكبر في إدارة تحولات المنطقة٬ و الذي قلّ ما يدركه العسكريون الأمريكان. و هو النفوذ الذي دفع قائد الثورة الإسلامية في خطبة صلاة الجمعة إلى إماطة اللثام عن فيلق القدس الذي لا حدود له٬ الفيلق الذي ظهر خلال التشييع المهيب الذي لن يتكرر لجنازة الشهيد الحاج قاسم سليماني عندما خرجت ملايين الجماهير في مسيرات امتدّت لعدّة كيلومترات في العراق و لبنان و فلسطين و كشمير و الباكستان ... و غيرها. 

د. بعد عملية الثأر الإيرانية و استهداف قاعدة عين الأسد٬ سوف تستعيد البلدان أو اللاعبون الذين  يشوب علاقتهم بالولايات المتحدة بعض التوتر أو التحديات٬ سوف يستعيدون ثقتهم بأنفسهم و يمارسون دورهم بثقة أكبر تجاه اعتداءات البيت الأبيض. و يندرج في هذا السياق٬ إسقاط طائرة E-11A في غزني بأفغانستان و تصريح ذبیح الله مجاهد الناطق باسم حركة طالبان الذي أعلن فيه مسؤولية الحركة عن إسقاط الطائرة٬ و تأكيده على أنّ العمليات العسكرية ضدّ الولايات المتحدة سوف تستمر٬ و كذلك تصويت البرلمان العراقي على قرار إخراج القوات الأمريكية و إلزام الحكومة على إنهاء التواجد الأجنبي٬ و المسيرات المليونية في العراق المناهضة للولايات المتحدة في يوم الجمعة 25 يناير /كانون الثاني٬ كلّ هذه نماذج من الاصطفافات المعلنة ضدّ العقلية الاستكبارية للبيت الأبيض و التي انبهر العالم بمشاهدتها. و في هذا الإطار٬ فإنّ الرأي العام يحمّل المسؤولين الأمريكان أسباب تشنج الأجواء السياسية و الأمنية في منطقة غرب آسيا الذين يسعون إلى إدارة الأحداث عبر تبنّي أساليب إرهابية. 
هـ. و قد كان لانطلاق الموجة المعادية للولايات المتحدة و المطالبة بقطع أيدي زعماء البيت الأبيض عن البلدان الأخرى٬ تكاليف باهضة على الإدارة الأمريكية و ستتحمّل المزيد في المستقبل٬ كما ستتواصل تلك الموجة بشكل معلن و أكثر من أيّ وقت مضى. إنّ فشل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في دوره في التحولات الأخيرة في لبنان (موضوع تشكيل الوزارة الجديدة برئاسة حسان دياب) دفع به إلى الإدلاء بتصريح تعلوه نبرة منهزمة حيث قال: لن تتعامل الولايات المتحدة إلّا مع «حكومة غير فاسدة» في لبنان تلتزم بالقيام بإصلاحات و تنفيذ مطالب الشعب، و في خضم شعوره بعدم الرضا من التحولات اللبنانية و محاولته تأليب الحكومة الجديدة ضدّ حزب‌الله٬ أدلى بتصريح ينمّ عن تدخّل في الشؤون اللبنانية٬ قائلاً: الاحتجاجات في لبنان تقول لحزب الله كفى. إنّ بومبيو الذي يسعى إلى تهميش تيار المقاومة بعد اغتيال الشهيد سليماني يجد نفسه مضطراً إلى الإدلاء باستنتاجات خاطئة و قلب الحقائق٬ لكن يجب عليه و على الرئيس المؤقت للبيت الأبيض أن يعلما أنّ حساباتهما الخاطئة قد وضعت التوازن السياسي و الأمني و استراتيجية المنطقة باتجاه معاكس للمصالح الأمريكية.


قراءة: 859