فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

اليمن؛ جذور الأزمة وإفرازاتها

علي مراد

كاتب و باحث لبناني.

الخلاصة
مع تبدّل مراكز النفوذ الدولي بعد الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، ظلّ اليمن محط أنظار القوى الدولية، الطامحة للسيطرة على الممرات والمضائق المائية الدولية ضمن رقعة الشطرنج الواسعة للتنافس والحروب بالوكالة بين القطبَين العالميَّين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. تعرّض اليمن لاعتداءات من قبل جارته السعودية منذ قيام دولتها الأولى أواخر القرن الثامن عشر، وتجدّدت في ثلاثينيات القرن العشرين مع دولتها الثالثة التي أسّسها عبد العزيز آل‌سعود، لكن بقيت اللعبة هي نفسها، محاولة الإمساك بالقرار اليمني بما يخدم السياسة الدولية التي أرادتها بريطانيا ولاحقاً أميركا.
كانت السعودية في العقود الماضیة لاعباً أساسياً في اليمن و مع انطلاق ما يسمى بـ "الربيع العربي" اقتنعت السعودیة بالكامل بأنّها تمتلك القرار اليمني. هذا الاقتناع قددفعها إلى التدخّل أكثر من مرة من موقع الوصي على اليمنيين. فمن المبادرة الخليجية إلى شراء ولاءات قيادات حزب التجمع اليمني للإصلاح، إلى دعم السلفيين بالمال والسلاح و... و بعد شعور الریاض بأنّ الأمور فلتت من يدها في اليمن، بادر لشن العدوان بشكل مباشر على اليمنيين بدعم أميركي وتحالف من بعض الدول العربية، سعياً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة هيمنتها على القرار اليمني.

 

 

 

مقدمة
عند مقاربة الأزمة في اليمن ومحاولة فهمها وفك رموز الأطراف الأساسيين الفاعلين فيها، هناك عوامل ومحطات تاريخية تفرض نفسها على الباحث، فتاريخ اليمن الداخلي والإقليمي مع جيرانه يحفل بالتفاصيل التي إذا ما دُرِسَت بعناية، يمكن فهم كثير من حيثيات وسياقات الصراع الدائر هناك منذ أكثر من خمسة أعوام. لطالما نُظِر إلى الموقع الجغرافي لليمن على أنّه محدِّد رئيسي ضمن لعبة الصراعات والنفوذ والمصالح الدولية، فقبل قرون كانت دول الاستعمار القديم تعتبره بوابة العبور بين الشرق والغرب لموقعه الحساس على طريق الملاحة وخطوط التجارة بين الهند وباقي المستعمرات في الشرق والسواحل الجنوبية لتلك الدول في أوروبا. 
مع تبدّل مراكز النفوذ الدولي بعد الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، ظلّ اليمن محط أنظار القوى الدولية، الطامحة للسيطرة على الممرات والمضائق المائية الدولية ضمن رقعة الشطرنج الواسعة للتنافس والحروب بالوكالة بين القطبَين العالميَّين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية. تعرّض اليمن لاعتداءات من قبل جارته السعودية منذ قيام دولتها الأولى أواخر القرن الثامن عشر، وتجدّدت في ثلاثينيات القرن العشرين مع دولتها الثالثة التي أسّسها عبد العزيز آل سعود، لكن بقيت اللعبة هي نفسها، محاولة الإمساك بالقرار اليمني بما يخدم السياسة الدولية التي أرادتها بريطانيا ولاحقاً أميركا.
ومع المد القومي الذي اجتاح الدول العربية في ستينيات القرن الماضي، كانت السعودية لاعباً أساسياً في اليمن للحؤول دون نجاح ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962، من خلال دعم المملكة المتوكلية بالمال والسلاح، رغم أنّ رواسب حرب الثلاثينيات كانت لا تزال موجودة في النفوس، إلا أنّ مصلحة السعودية ومن خلفها بريطانيا والأردن في بقاء الحكم الملكي في اليمن دفعها إلى دعم الإمام محمد البدر حميدالدين، لكن الجمهوريين الذين دعمهم الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر نجحوا في نهاية المطاف بالسيطرة على صنعاء وإنهاء حكم المملكة المتوكلية. 
نجحت السعودية بنسج علاقة مع النظام الجديد الذي تشكّل في صنعاء بعد ثورة سبتمبر 1962، واستغلّت إلى جانب ذلك الطبيعة القبلية للشمال اليمني لتأسيس شبكة من المرتبطين بها معتمدة سياسة الترغيب والعطاءات والرشى. دعم النظام السعودي قيادات قبلية وأكاديميين وضباطاً بالجيش وسياسيين برواتب شهرية سخية، ما سمح له بضمان مصالح أمنية وسياسية وفّرت له مصادرة القرار اليمني واحتوائه وفق ما يضمن مصالحه بالهيمنة على جيرانه1. الاقتناع الكامل لدى السعودية بأنّها تمتلك القرار اليمني دفعها إلى التدخّل أكثر من مرة مع انطلاق ما يسمى بـ "الربيع العربي" من موقع الوصي على اليمنيين. فمن المبادرة الخليجية إلى شراء ولاءات قيادات حزب التجمع اليمني للإصلاح، إلى دعم السلفيين بالمال والسلاح لقتال حركة أنصار الله بين 2012 و2014، اقتنعت الرياض بأنّ الأمور فلتت من يدها في اليمن، وذلك ما استدرجها لشن العدوان بشكل مباشر على اليمنيين بدعم أميركي وتحالف من بعض الدول العربية، سعياً لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة هيمنتها على القرار اليمني، وهذا ما لم ولن يتحقّق لها لتعاظم ونمو حركة التحرّر في صنعاء.
جذور الأزمة
إن الاقتصاد اليمني الهش هو أحد الأسباب الرئيسية للأزمات في اليمن. الدولة ذات الدخل المنخفض التي تعتمد على الموارد النفطية. يمثّل النفط ما يقرب من 25 % من الناتج المحلي الإجمالي و 70% من عائدات الدولة. ظل متوسط ​​معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحقيقي منذ عام 2000 يتراوح بين 3 إلى 4 في المئة، وقد أدّى انخفاض أسعار النفط منذ منتصف عام 2008 إلى تفاقم الضغط على اقتصاد البلاد، وللتعامل مع آثار انخفاض الموارد النفطية، حاول اليمن تنشيط القطاعات غير النفطية من خلال تنفيذ خطة الإصلاحات الاقتصادية التي تم وضعها عام 2006. وبناء على هذه الخطة، تمكّنت البلاد من تصدير الغاز الطبيعي المسال لأول مرة في تشرين الأول عام 2009.
التهميش الاقتصادي والتنموي
لطالما واجه اليمن تحديات صعبة طويلة الأجل كالنقص في الموارد المائية وارتفاع معدل النمو السكاني، إلى جانب المشاكل الاقتصادية العامة. لكن قلّة اهتمام الحكومات اليمنية المتعاقبة منذ سقوط نظام الإمامة وتعمّدها تهميش المناطق الشمالية، أدّى إلى تدهور الأزمة الاقتصادية والمعيشية للسكان في المحافظات الشمالية، الأمر الذي أضاف أبعاداً اقتصادية واجتماعية إلى الأبعاد السياسية والثقافية لمشروع السيد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي لمقارعة سياسات نظام علي عبد الله صالح، الذي نما وانتشر بعد استشهاده ليصبح حركة حملت اسم "أنصار الله".
محاولات توهيب المجتمع
على المستوى الديني والمذهبي، كان اليمن مثالًا مثيراً للاهتمام للتعايش السلمي بين الطائفتَين الزيدية والسنّية الشافعية. صلى أتباع الطائفتين في اليمن، في ظاهرة تكاد تكون الفريدة من نوعها في الدول الإسلامية، في نفس المساجد وخلف نفس الإمام. كان هذا مثالًا فريداً للوحدة (ولا يزال)، كما أظهر أنه لا يوجد فرق كبير بين الطوائف الإسلامية. لكن تسلّل السلفية الوهابية السعودية إلى المجتمع اليمني، وخاصة منذ سبعينيات القرن الماضي، أدّى إلى ظهور توتّرات مذهبية جراء اعتماد الوهابيين سياسة التكفير التي استهدفت الزيديين بشكل أساسي والصوفيين الشوافع. 
إزاء التغوّل الذي مارسه النظام السعودي على البيئة الزيدية في شمال اليمن مستعملاً ذراعَين سياسي قبلي (منظومة نظام حكم صالح ومشايخ قبليين) وثقافي (التيار السلفي الوهابي بقيادة الشيخ مقبل الوادعي)، كان لابدّ من حصول ردة فعل تمثّلت بظاهرة حركة "الشباب المؤمن" التي برز فيها نجم السيد حسين بدر الدين الحوثي. لقد أدّى مسعى الوهابية للقضاء على الزيدية ثقافياً في معقلها اليمني إلى حصول النقيض مما أرادته تماماً، فمع يقظة الزيدية ونهوضها بعد استجماعها كل ما من شأنه تأييدها وتعزيز قوتها، انبعثت عائدةً من أفولها التاريخي، عودة تصاعدية بالغة القوة عقائدياً وثقافياً معاً في حركة السيد حسين الحوثي وتجلياتها وولاء حاضنتها الشعبية. 
هذه الحافزية لإثبات الوجود والتعبير عن الموروث الثقافي للبيئة الزيدية، بالإضافة إلى عامل انصياع النظام السياسي للسياسة السعودية والأميركية، مكّنت التيار المقموع لعقود من الصمود في وجه القوة العسكرية الضاربة للنظام اليمني وحروبه العاصفة الست بين عامَي 2004 و2010. ولعل القرينة الأساسية على أنّ ذراعَي النظام السعودي كانا يقفان وراء محاولات النظام اليمني إسقاط تجربة السيد الحوثي في الفترة المذكورة آنفاً كانت بإقحام السعودية جيشها وحرسها الوطني في الحرب السادسة على الحوثيين (أغسطس/ آب 2009 - فبراير/ شباط 2010) إلى جانب جيش علي عبد الله صالح، في مشاركة عسكرية مباشرة تعكس عمق القلق السعودي ومدى إصرار الرياض على سحق الحركة واستئصالها، سعياً لصون استثمارها وتزخيم دورها بالاقتحام الطائفي المذكور سابقاً ورعايته2.
التصويب على التوجهات الوحدوية
أثبتت إفرازات حرب صعدة المسماة "السادسة" نتائج على مستوى الداخل اليمني والإقليم، منها أن حركة أنصار الله الفتية بقيادة السيد عبد الملك الحوثي، الشاب الذي برهن عن أهليته وحكمته القيادية، فرضت نفسها كمكوّن سياسي يمني كان له مشاركة فاعلة في ثورة عام 2011 ولاحقاً في مؤتمر الحوار الوطني عامَي 2013 و2014. بالإضافة إلى بروز قوة محلّية يمنية قادرة على إلحاق الهزيمة العسكرية بمشروع الهيمنة السعودي على السيادة اليمنية، بعد الهزيمة الفضيحة التي مُنِيت بها القوات المسلحة السعودية على يد مقاتلي اللجان الشعبية اليمنية في المنطقة الحدودية السعودية - اليمنية3.
طرحت حركة أنصار الله خطاباً عبّر عن رؤيتها السياسية المستوحاة من كتابات ومحاضرات السيد حسين بدر الدين الحوثي، التي عكست أفكاراً تتماشى مع التوجهات لدى أتباع المذهب السني الشافعي، مثل الوحدة الإسلامية، والآثار النبوية، ومحاربة الفساد، ومقارعة المشروع الأميركي في المنطقة. وهذا قدّم الحركة كنموذج وحدوي قادر على توحيد أبناء المجتمع اليمني على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وتسخير الطاقات لاستعادة السيادة اليمنية والتحرر من ربقة الهيمنة السعودية والأميركية. هذا التوجّه والخطاب لحركة أنصار الله، الذي كرّسته تطبيقياً على امتداد العدوان المستمر منذ عام 2015 ساهم في زيادة حجم الاستقطاب في المحافظات المعروفة تاريخياً بأنها سنّية4. على سبيل المثال لا الحصر، بقيت محافظة الحديدة الغربية المعروف أنها سنيّة شافعية على ولائها لخط حركة أنصارالله بالتصدّي للعدوان، وقاتل أبناؤها السنّة في صفوف الجيش واللجان الشعبية إبّان معركة الساحل الغربي عام 2018 إلى جانب إخوانهم المقاتلين الزيديين، وأعلن مفتيها الراحل الشيخ محمد على مرعي التصدي للعدوان والالتزام بتوجيهات السيدعبدالملك الحوثي5. وكذلك في محافظة إب السنّية بالكامل، التي رفضت محاولات جبهة العدوان إقناعها بالانضمام إلى المعسكر المعادي لحركة أنصار الله6.
"استعادة الشرعية" كذريعة
حاولت السعودية باستمرار منذ الثمانينات وصولاً إلى عام 2012 لتقويض بروز أي تيار يتبنّى توجّهات وأهداف تسعى للاستقلال بالقرار اليمني عن التبعية للرياض والمشروع الأميركي في المنطقة. رفع النظام السعودي من حجم دعمه لتحالف ضم الجنرال علي محسن الأحمر وحزب الإصلاح والجماعات السلفية الوهابية في دماج بمحافظة صعدة لقتال حركة أنصار الله ومحاصرتها في المحافظة، لكن بحلول أواخر عام 2013 انتصرت الحركة عسكرياً واتجهت إلى محافظة البيضاء بداية عام 2014 وحسمت المعركة أيضاً في رداع مع بقايا السلفيين المدعومين سعودياً7. ومع انتصار الثورة المؤيدة شعبياً ودخول قوات اللجان الشعبية التابعة لأنصار الله إلى صنعاء في 21 أيلول/سبتمبر عام 2014، ظهر التوتّر والقلق السعودي الذي عبّر عنه وزير خارجية النظام السعودي الأسبق سعود الفيصل8، وشنّ الإعلام السعودي حملة لشيطنة أنصار الله، وأطلق الدعاة والمشايخ السعوديون فتاوى تدعو لـ "الجهاد" ضدهم9.
بعد دخول صنعاء توصّلت حركة أنصار الله وباقي القوى السياسية إلى ما عُرف بـ"اتفاق السلم والشراكة" الذي نصّ على تشكيل حكومة كفاءات تتضمن جميع ألوان الطيف السياسي اليمني في غضون شهر من توقيع الاتفاق، بالإضافة إلى تعيين مستشارين للرئاسة من حركة أنصار الله والحراك الجنوبي، مع استمرار حكومة محمد سالم باسندوه التي استقالت ثم كُلفت بتصريف الأعمال في البلاد. الملفت أن هذا الاتفاق كان برعاية أممية وبحضور مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن آنذاك جمال بن عمر10. ويذهب مراقبون إلى اعتبار أنّ الموقف السعودي من اتفاق السلم والشراكة جاء لينسف ما تمسى بـ "المبادرة الخليجية" التي سعت إلى إنقاذ السلطة اليمنية التابعة للسعودية بتركيبتها ومنظومتها الفاسدة، ولذلك سعت السعودية إلى إسقاط الاتفاق – رغم إعلانها الترحيب بتوقيعه – بالقوة العسكرية بعد تهريب عبد ربه منصور هادي إلى خارج اليمن11.
شهدت الفترة الممتدة بين 21 أيلول/سبتمبر عام 2014 و26 آذار/مارس عام 2015 تطورات ميدانية أهمها وصول قوات الجيش واللجان الشعبية اليمنية إلى عدن وباقي المحافظات الجنوبية.  لكن التطور الأبرز على صعيد استعادة القرار السيادي لليمن تمثّل بتفتيش وإيقاف الأجهزة الأمنية اليمنية - للمرة الأولى في تاريخ اليمن - الطائرات العسكرية الأميركية في قاعدة الديلمي العسكرية في صنعاء12. بالإضافة إلى توقيع السلطات في صنعاء مذكرة تفاهم مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية للنقل الجوي نصّت على تنظيم 14 رحلة لكل جانب أسبوعياً، وتقديم الجانب الإيراني خدمات في مجالات تدريب كوادر الطيران المدني وبناء وتأهيل وتشغيل المطارات وأعمال الصيانة للمدارج والأجهزة الملاحية وغيرها من أعمال الإضاءة والهندسة13. هذه التطورات دفعت الرياض ومن خلفها واشنطن إلى الإيقان بأنّهما فقدتا نفوذهما في اليمن، الأمر الذي سرّع من ترتيب العدوان الذي أعلن انطلاقه عادل الجبير من واشنطن فجر السادس والعشرين من آذار/مارس عام 2015.
في المحصّلة، وكدليل مصادَق عليه أممياً بأنّ مسبّبات الأزمة والحرب الحالية في اليمن لم تكن لأسباب داخلية صرفة كما ادّعت الأطراف المعتدية، كشف المبعوث الأممي الأسبق إلى اليمن جمال بن عمر في مقابلة صحفية في نيسان/أبريل عام 2015، ثم في جلسة لمجلس الأمن الدولي بأنّ "الأطراف السياسية المتناحرة في اليمن كانت على وشك التوصل إلى اتفاق شراكة حين بدأت الغارات السعودية (العدوان)"14. إذاً كان الهدف المبيّت للنظام السعودي والتحالف الذي جمعته الرياض بدعم أميركي عشية انطلاق حربها على اليمن هو ضرب حركة أنصار الله ومشروعها التحرري، وليس ما ادعته من سعي لـ "استعادة الشرعية"، حيث أن عبد ربه منصور هادي كان قد قدّم استقالته في صنعاء في 22 كانون الثاني/يناير عام 2015، ولكن تعذُّرَ انعقاد مجلس النواب اليمني للنظر بالاستقالة أحيى آمال السعودية باستعمال "شرعية" عبد ربه منصور هادي كمبرّر لعدوانها على الشعب اليمني وحركة أنصار الله تحديداً. 
محاولات إبادة مشروع التحرّر
وقد أثبتت تجربة الحرب أنّ السعوديين ومنذ البداية كان هدفهم تصفية مشروع التحرر المتمثّل بحركة أنصار الله، فابتداءً من عام 2018 بدأ المسؤولون السعوديون يكشفون عن نواياهم الحقيقية عندما أفصحوا بأنّ هدفهم في اليمن هو "الحؤول دون وجود حزب الله جديد على حدودهم الجنوبية"، وليس ما ادعوا بأنّه حرص على إعادة هادي إلى صنعاء15. وتظهر البيانات الإحصائية للغارات الجوية على المحافظات اليمنية بين 26 آذار/مارس عام 2015 و31 أيار/مايو عام 2020 أنّ معقل حركة أنصار الله في محافظة صعدة كان الأكثر تعرّضاً للغارات الجوية، مقارنة بصنعاء (العاصمة ومقر الشرعية التي يُفتَرَض إعادة هادي إليها)، ومأرب بوابة العاصمة الشرقية. للمزيد أنظر الرسوم البيانية 3،2،1.

 


الرؤية السعودية العمياء للحرب
عندما قرر محمد بن سلمان – نجل الملك ووزير الدفاع السعودي عام 2015 - التدخل العسكري في اليمن، كانت توقّعاته بأن يسيطر على صنعاء في غضون أشهر. بعد كل شيء، كانت المملكة العربية السعودية ضمن تصنيف أكثر 5 دول في العالم من حيث الإنفاق العسكري، وقد انطلق ابن سلمان من اعتقاد أن الترسانة العسكرية الكبيرة تعني بالنتيجة براعة عسكرية، وهو اعتقاد قاصر وخاطئ. إن الجمع بين الافتقار إلى التخطيط والخبرة القتالية، والتردّد في التضحية بالدم السعودي لتقليل معارضة الحرب إلى أدنى حد عنى بالنسبة للسعوديين أنه يجب استدعاء قوات أجنبية ومرتزقة لخوض الحرب بالنيابة عنهم. ورغم مشاركة الإماراتيين ومساعدة كل من الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والسودانيين والأردنيين والمغاربة وغيرهم الكثيرين، ظلت حركة أنصار الله - بلجانها الشعبية والقبائل والجيش الموالين لها - راسخة في المناطق التي تسيطر عليها في شمال اليمن. وترافق الهجوم البري وافتتاح الجهات مع حملة جوية وحشية وحصار اقتصادي هدفه التجويع ومفاقمة الأوبئة والأمراض، مما أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والبنية التحتية. وفي الوقت الذي كانت فيه السعودية تحاول تسويق أجندة قومية لإثبات قوتها العسكرية، كان يمكن اعتبار الدبلوماسية علامة ضعف، وتم تجاهل الدعوات المتكرّرة الصادرة عن الأمم المتحدة ودول العالم لإيقاف الحرب والذهاب إلى طاولة المفاوضات16.
مكاسب وخسائر طرفي النزاع
بعد دخول العام السادس من عمر العدوان على اليمنيين في آذار/مارس عام 2020، اتّسع عدد الأطراف الدوليين والمراقبين الذين باتوا يميلون إلى الاستنتاج بأنّ السعودية والأطراف الذين معها انتقلوا إلى حالة الدفاع وردة الفعل، بينما انتقلت حركة أنصار الله وحلفائها إلى حالة الهجوم بعد استيعاب هجمات السعوديين والقوات المرتزقة التي قاتلوا بها. لم يعد التساؤل حالياً – كما كان قبل عام 2019 - عن عدد الغارات الجوية السعودية والمواقع العسكرية المستهدفة التابعة لحركة أنصار الله، بل عن الهجمات المضادة والصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة التي بات الداخل السعودي بمنشآته العسكرية والنفطية فيها هدفاً سهلاً للقوة الصاروخية التابعة للجيش واللجان الشعبية اليمنية17.
علاوة على الهزيمة العسكرية التي مُنِيَت بها السعودية رغم كل محاولاتها، إلا أنّ أبرز ما تميّز به أداؤها الضعيف والعاجز كان في إدارة معسكر حربها. ففي صيف عام 2019 نشب قتال بين قوات عبد ربه منصور هادي وحزب الإصلاح من جهة وقوات المجلس الإنتقالي الجنوبي والحزام الأمني والنخب الحضرمية والشبوانية (المدعومة إماراتياً). تلى جولات القتال في أب/أغسطس وأيلول/سبتمبر اتفاق بين الطرفين رعته السعودية في الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر، لكنه لم يُطبَّق وعادت الخلافات للظهور، خاصة بعد إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي أواخر نيسان/أبريل الفائت عن قيام الإدارة الذاتية في المناطق التي يسيطر عليها ولا سيما مدينة عدن18، في تجلٍّ واضح لعجز السعودية عن إدارة الخلافات والتناقضات في الفريق المحسوب عليها، وأيضاً في الحؤول دون ظهور تضارب في المصالح بينها وبين شريكتها دولة الإمارات.
ومع تسارع الأحداث في الخليج الفارسي ابتداءً من أيار/مايو عام 2019 بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأميركية، واستشعار الإمارات العربية المتحدة خطر التعرّض إلى الاستهداف المباشر على خلفية انخراطها في المخطط الأميركي الساعي للضغط على إيران وقوى المقاومة في المنطقة ضمن ما سُمِّي "حملة الضغوط القصوى"، أعلنت أبوظبي أنها بصدد الانسحاب من اليمن وأرسلت وفداً أمنياً إلى إيران لتحييد نفسها عن الصراع وتحاشي تعرّضها للاستهداف في عمقها كما حصل مع السعودية بتعرض منشآتها النفطية الحساسة في ابقيق للاستهداف من قبل اليمنيين رداً على استمرارها في العدوان والحصار على الشعب اليمني19.
وفي كانون الثاني/يناير عام 2020 أعلن السودان على لسان الناطق باسم قوات الدعم السريع التابعة للجيش السوداني العميد جمال جمعة عن تقليص عدد القوات السودانية في اليمن من قرابة 5000 إلى 600 جندي، في خطوة وُصِفَت بأنها انسحاب مع حرص سوداني واضح على حفظ ماء وجه السعودية عبر الإعلان عن إبقاء قوة رمزية على غرار ما حصل مع دول أخرى في تحالف العدوان على اليمن20. وكانت وسائل إعلام قد تحدثت العام الماضي عن خلاف مغربي سعودي أدّى إلى سحب الرباط جنودها المشاركين في تحالف العدوان، لتنضم المغرب إلى قطر التي طُرِدَت من التحالف بعد نشوب الأزمة معها في صيف 2017.
في مقابلات سابقة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع وسائل إعلامية غربية ادّعى أنّ "الخيارات في اليمن هي بين السيء والأسوأ". بنظره "السيء" هو استمرار الحرب حتى وإن كانت بلا أفق نصر عسكري، و"الأسوأ" هو إيقافها بموجب حل سياسي سلمي، وهذا يعني اعترافاً بالانتصار اليمني على السعودية. والواقع أنّ أي تسليم سعودي بحقيقة ما أفرزته الحرب على أرض الواقع يعني حكماً تسليم الأميركيين وباقي الداعمين بالأمر الواقع (انتصار اليمنيين) الذي يصعب عليهم تقبّله، فهؤلاء يساهمون بشكل مباشر في الحرب بالسلاح والتخطيط والتدريب ووضع الأهداف والقيادة في غرف العمليات، ويجهضون كل جهد يُبذَل لإنهاء الحرب أو إيقاف بيع المزيد من شحنات السلاح لتحالف العدوان بقيادة السعودية21.
أما بالنسبة لحركة أنصار الله فقد أثبتت الحركة بعد صمودها لأكثر من ست سنوات أنّها جديرة بثقة شعبها الذي أيّدها ودعمها، فهي اليوم أكثر عدداً وقوة عما كانت عليه مع بدء العدوان، وتدير حكومة الإنقاذ الوطني المدعومة منها مناطق الشمال اليمني – رغم الحصار وقلة الموارد – بمسؤولية واقتدار، واستطاعت انصارالله أن تجهض كل محاولات الاختراق التي حاول تحالف العدوان إنجازها عبر دعم تحركات قبلية وحزبية للانقلاب على صنعاء. أما عسكرياً، فقد استعادت قوات الجيش واللجان الشعبية من العدوان محافظات بأكملها كمحافظة الجوف وأجزاء كبيرة من محافظة مأرب وكسرت كل محاولات النظام السعودي إنجاح اختراقات في مديريات محافظتي صعدة وحجة الحدوديتين. والأهم من كل ذلك أنها فرضت على النظام السعودي معادلات ردع تمثّلت بأنّ قصف المدنيين وارتكاب المجازر سيقابله ردود صاروخية ونوعية في العمق السعودي، في العاصمة السعودية والمنشآت والموانئ النفطية، التي كان بنظر السعوديين من المستحيل تصوّر استهدافها مع بدء العدوان.

خاتمة
إنّ تتبّع مسار العدوان المستمر على اليمن منذ 2015 يثبت بالدليل تحطّم العنجهية السعودية المنطلقة من عقد النقص والحقد التاريخي تجاه اليمنيين الذين يمتلكون حضارة ضاربة في عمق التاريخ، ومن الاستعلاءهم عليهم انطلاقاً من تصوّر أنّ ثروتهم النفطية وغناهم المادي يجعل انتصارهم في الحرب على اليمنيين "الفقراء" أمراً طبيعياً يجب أن يتحقّق. يتّضح لمن يملك أدنى مستوى من المعارف العسكرية أنّ‌السعوديين لم يمتلكوا رؤية عسكرية واضحة للحرب قبل شنّها، ولا تصوّراً مسبقاً لكيفية الانسحاب منها. هذا التخبّط السعودي المعتمد على الأميركي لوجستياً سقط أمام اليمنيين المتسلّحين بالإيمان العقائدي قبل التجهيز العسكري، وبحكمة قيادة اعتمدت سياسة الصبر الاستراتيجي والنفس الطويل لإيصال القوى المعتدية إلى مرحلة الإنهاك، ثم بدء الهجوم الذي يتقن اليمنيون فنونه استناداً إلى خبرتهم العسكرية المتقدّمة التي اكتسبوها في حروبهم السابقة، ولا سيما حرب عام 2009 التي سيطر فيها أنصار الله على مناطق سعودية ولم ينسحبوا منها حتى جرى توقيع اتفاق سياسي لإنهاء الحرب آنذلك. طالما أن سياق الحرب يسير فيه اليمنيون باتجاه تصاعدي، فيما السعوديون - الذين تآكل تحالفهم مقارنة بعام 2015 – ينحدرون بوتيرة سريعة، عندها لن يكون مفاجئاً مشهد انتقال اليمنيين إلى مرحلة جديدة في تكتيكهم العسكري بالسيطرة على مناطق داخل الحدود السعودية.


(الحاشية)
1-  فيصل محمد عبد الغفار، الربيع العربي، (الجنادرية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2015)، صفحة 114
2-  كريم الحنكي، "الطبيعة اللصوصيّة الوهابيَّة للحرب على اليمن"، جريدة الأخبار اللبنانية، 13 تشرين الثاني 2015
https://al-akhbar.com/Opinion/7799
3- Michel Knights, “The Houthi War Machine: From Guerrilla War to State Capture”, Combating Terrorism Center At West Point, September 2018, Volume 11, Issue 8
https://ctc.usma.edu/houthi-war-machine-guerrilla-war-state-capture/
4- Sama’a Al-Hamdani, “Understanding the Houthi Faction in Yemen”, Lawfare, April 7, 2019
https://www.lawfareblog.com/understanding-houthi-faction-yemen
5-  21 سبتمبر، " الحديدة: رابطة علماء اليمن والجبهة التعبوية تقوم بزيارة تفقدية للشيخ محمد علي مرعي"، 09/04/2017
http://www.21sep.net/35388
6-  وكالة الصحافة اليمنية، " محافظة إب ترد على إغراءات التحالف"، 16/04/2019
http://www.ypagency.net/154588
7-  الجزيرة نت، "2014 عام الحوثيين في اليمن"، 26/12/2014
https://bit.ly/3f9Kf4M
8-  اليوم السابع، " الرئيس اليمنى يتلقى اتصالاً من سعود الفيصل"، 09/09/2014
https://bit.ly/1r9TFBV
9- رأي اليوم، "داعية سعودي: الجهاد ضد الحوثيين واجب واجتماع أهل اليمن على ذلك فرض"، 22/09/2014
https://bit.ly/38oAEVq
10-  الجزيرة نت، "نص اتفاق السلم والشراكة الوطنية لإنهاء الأزمة في اليمن"، 22/09/2014
https://bit.ly/3iwV2YU
11-  إيلي شلهوب، "كيف تدحرج موقف آل سعود نحو الحرب في اليمن؟"، 17 نيسان، 2015
https://al-akhbar.com/Yemen/19257
12-  المرصاد، "تفتيش الطائرات الأمريكية بمطار صنعاء وإيقافها لأول مرة تثير غضب السفير الأمريكي وتُشعرة بالقلق"، 13 كانون الأول، 2014
https://bit.ly/3f0mBYH
13-  قناة العالم، " توقيع مذكرة تفاهم في مجال النقل الجوي بين اليمن وإيران"، 28 شباط/فبراير، 2015
https://bit.ly/2ZFNPNA
14-  الميادين نت، "جمال بن عمر: اليمن كان قريباً من اتفاق سياسي قبل بدء الغارات السعودية"، 27 نيسان، 2015
 https://bit.ly/3isKg64
15-  سي أن أن عربية، "خالد بن سلمان: المملكة لن تسمح للحوثي أن يصبح حزب الله آخر"، 16 أغسطس/آب، 2018
https://cnn.it/31Qukoa
16- Nicholas Dunais, “To End The War In Yemen, Saudi Arabia Must Put Aside Hubris And Revive Tribal Patronage”, September 25, 2019
https://bit.ly/3f0Q1FQ
17-  الجزيرة نت، "خسائر بالمليارات.. استنزاف السعودية في الوحل اليمني"، 30/09/2019
https://bit.ly/2BGagdw
18-  مجموعة الأزمات الدولية، "تحاشي تجدد الصراع على جنوب اليمن"، 29 نيسان، 2020
https://bit.ly/2YZcMVm
19-  التدخل الإماراتي في اليمن، الأدوار والمصالح / العدد السادس والثلاثون تموز 2019، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق
http://www.dirasat.net/uploads/research/2417861.pdf
20- عمار الأشول، "السودان ... بقاء رمزيّ في اليمن لحفظ ماء وجه التحالف"، المونيتور، 3 شباط/فبراير 2020
https://bit.ly/2CackdF
21-  منذ دخوله إلى البيت الأبيض وحتى الآن، استعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الفيتو ست مرات لإسقاط ستة محاولات من قبل الكونغرس الأميركي إما لإنهاء الدعم الأميركي لتحالف العدوان على اليمن أو لبيع المزيد من الأسلحة للإمارات والسعودية. للمزيد أنظر:
https://www.senate.gov/legislative/vetoes/TrumpDJ.htm


قراءة: 1288