فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

من يذهب إليها لا يعود

أنیس نقاش
* منسق شبكة أمان للدراسات الإستراتيجية.

لمحة
أنيس نقاش مفكر وباحث في الشؤون الإستراتيجية والإقليمية. من مواليد بيروت عام 1951 إلتحق بحركة فتح  لتحرير فلسطين عام1968، من أوائل من دعموا الثورة الإسلامية في إيران وأنخرطوا في بناء المقاومة اللبنانية متخصص في علوم الإجتماع والسياسة الدولية. مؤلف كتاب "الكونفدرالية المشرقية، صراع السياسات والهويات". وله عدة مقالات نشرت في عدة صحف ومجلات متخصصة.  
ليس هناك سحب في الجو، ما هذا الدخان؟
لم يمت أحد في الحي لم هذا الصراخ ؟
تلك الأراضي اليمنية لم هي وعرة جداً
آه يالهذه اليمن.. لقد سحقت زهرتها
من يذهب إليها لا يعود أتعجب لماذا ؟
هنا قلعة "هوش"* الطريق إليها متعرج إلى أعلى
من يذهب إليها لا يعود أتساءل عن السبب ؟
الأوز يتجول أمام الثكنات
يدي وذراعاي وقلبي المتألم يرتعشان
الفتيات يبكين على من ذهب إلى اليمن
آه يالهذه اليمن زهراتها الحلبة
من يذهب إليها لا يعود أتعجب لماذا؟
هنا قلعة هوش الطريق إليها متعرج إلى أعلى
من يذهب إليها لا يعود أتساءل عن السبب؟

 

*قلعة عثمانية في اليمن بين تعز وصنعاء

 

 

 

 


أغنية رثاء اليمن هي أغنية شعبية تركية تتحدث عن الجنود الأتراك الذين تم إرسالهم إلى اليمن في الحرب العالمية الأولى لخوض معركة ضد المملكة المتحدة والمتمردين العرب على الأمبراطورية العثمانية . ذهبوا إلى اليمن من معمورة العزيز ، وهي مدينة في شرق تركيا. وماتوا جميعا في اليمن. لذلك بعد هذه المأساة، كتبت الأغنية اليمنية من قبل السكان المحليين لمعمورة العزيز عن ذكريات وفاة الجنود في اليمن.
بالتأكيد أن إبن سلمان لم يقرأ أو يسمع عن هذه الأغنية ولم تكن ثقافته التاريخية  السياسية تسمح له باستخلاص الدروس والعبر التي تقول: أن اليمن مقبرة للغزاة، ففي حين كانت الأمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ترسل جيوشها إلى أطراف حدود الأمبراطورية لمزيد من الفتوحات، وكانت قادرة على إخضاع العديد من التمردات المحلية، إلا أن قواتها لاقت شر هزيمة في اليمن، حتى أن أحد من جنودها لم يعد إلى أهله، وما زالت هذه الأغننية الشعبية المرثية لذكرى هؤلاء الجنود تعتبر جزء من التراث الشعبي التركي.
الأمبراطورية العثمانية لم تكن الوحيدة التي تلقت مثل هذه الهزيمة، فبريطانيا العظمى وأمبراطوريتها التي لم تكن لتغيب عنها الشمس ، لم تسيطر سوى على عدن ومحيطها عندما استولت قوات "شركة الهند الشرقية "على هذا الميناء الإستراتيجي، الذي كان يساعدها لخدمة حركة بواخرها العابرة إلى الهند.
مع إفتتاح قناة السويس إزدادت حيوية هذا الميناء، وأهمية ممر باب المندب، الذي يشكل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر والممر الإلزامي من الجنوب بإتجاه قناة السويس ومن ثم نحو البحر الأبيض المتوسط.
بالنسبة للملكة السعودية كان اليمن وما زال يشكل البعد الإستراتيجي الأكثر تأثيراً في واقع المملكة ومستقبلها، كما كان دائماً مؤثراً في ما ضيها. فاليمن جغرافيا هو القاعدة الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، وهو ديموغرافيا منتشر من خلال الجالية اليمنية، واحدة من أكثرشعوب الجزيرة ديناميكية علمياً وتجارياً وهي منتشرة في معظم الدول  في شبه الجزيرة العربية.
سياسة المملكة منذ أن وجدت، كمملكة لآل سعود، بدعم بريطاني، إرتبطت تاريخياً بسياسات الغرب عموماً، ورسخت هذه الشراكة مع الولايات المتحدة، منذ لقاء عبدالعزيز إبن سعود، مع الرئيس روزفلت على ظهر المدمرة كوينسي أثناء عودته من مؤتمر يالطا بين الحلفاء، والذي قسم العالم إلى مناطق نفوذ.
خلال أكثر من سبعون عاماً إرتبطت المملكة بالإستراتيجية الأميركية وتطورت إلى ثلاث مراحل يمكن وصفها بالشكل التالي:"ألتأسيس الأول للعلاقات جاء مع بداية اهتمام واشنطن بالمملكة السعودية بسبب النفط، خاصة بعدما تسببت الحرب العالمية الثانية فى استهلاك كميات كبيرة من مخزونها النفطى. وفى فبراير 1943، نقل وزير الداخلية الأمريكى آنذاك، هارولد آيكس، لرئيسه روزفلت اعتقاده بأنه لدى السعودية أكبر احتياطات من النفط فى العالم. وبعد أقل من أسبوع، أعلن روزفلت أن المملكة السعودية تمثل أهمية كبرى للدفاع عن الولايات المتحدة. كما دعا الرئيس الملك السعودى لزيارة واشنطن، أو إرسال وفد يمثله. وتم التخطيط جيداً لقمّة التأسيس لعلاقات التحالف الاستراتيجى الأمريكى السعودى القائمة على معادلة النفط مقابل الحماية.
 ومن ثم احتضنت قناة السويس اجتماعاً تاريخياً فى شهر فبراير 1945 بين مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزير آل سعود والرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت على ظهر المدمرة الأمريكية كوينسى. وخلال اللقاء الذى امتد لخمس ساعات وضع الطرفان أُسس التحالف الاستراتيجى بين الدولتين وهو ما صمد أمام تغيرات دولية كبيرة وهزات عنيفة فى علاقات الرياض بواشنطن الثنائية. وتمحورت العلاقة الاستراتيجية حول علاقة خاصة تضمن بها واشنطن أمن السعودية وأمن حدودها، مقابل توفير النفط للولايات المتحدة وللأسواق العالمية بأسعار مناسبة. ولم تكن العلاقة قائمة بالأساس على أى كيمياء شخصية بين زعيمين، ولا على أدوار يلعبانها فى تصورات الآخر عن مستقبل المنطقة.
 بعد أشهر من اللقاء توفى الرئيس روزفلت، وبعد سبع سنوات توفى الملك عبدالعزيز. وخلف الملك عبدالعزير أولاده بدء من الملك سعود ثم فيصل ثم خالد ثم فهد ثم عبدالله ومن ثم الملك سلمان. وعلى الجانب الأمريكى جاء الرئيس الديموقراطى ترومان والجمهورى أيزنهاور والديموقراطى كينيدى والديموقراطى جونسون والجمهورى نيكسون والجمهورى فورد والديموقراطى كارتر والجمهورى ريجان والجمهورى بوش الأب والديموقراطى كلينتون والجمهورى بوش الإبن ثم الديموقراطى أوباما. ولم تؤثر وفاة ملك سعودى أو تغير رئيس أمريكى فى ثوابت علاقات الرياض وواشنطن.1
خلال هذه الفترة تشاركت المملكة مع الولايات المتحدة باكثر من عملية إنقلاب عسكري في الإقليم طالت سوريا والعراق وأطاحت بالوحدة المصرية السورية، وقامت بعدة محاولات لإغتيال الرئيس عبد الناصر، كان أهمها الفضيحة الكبرى التي كشفها عبد الناصر من خلال شك دفعه الملك سعود بن عبدالعزيز نفسه لهذا الغرض. 2
عملت المملكة جاهدة لجلب مصر نحو إتفاقيات كامب ديفيد ودفع المقاومة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات مع العدو الصهوني، وخاضت حرب اليمن ضد الحكومة الجمهورية المدعومة من قبل مصر عبد الناصر، مما أدى إلى إستنزاف موارد الطرفين، وشل جزء من القوات المصرية الخاصة التي كانت بعيدة في اليمن عندما شن على مصر عدوان عام 1967 وادى إلى إحتلال سيناء وجزء من الأراضي السورية. وبذلك ثبت من خلال هذه الأحداث، أن المملكة كانت وما زالت تتسبب بإضعاف الموقف العربي تجاه نفوذ الغرب وتتآمر على حرية شعوب الإقليم لصالح غستراتيجية غربية.
ومنذ الحرب العالمية الثانية تحالف البلدان ضد الشيوعية وقاموا بدعم استقرار أسعار النفط والمحافظة على سلامة حقوله وشحنه عبر الخليج كما عملوا على تعزيز استقرار اقتصادات الدول الغربية بداية من خلال شحن النفط إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ضمن ما عرف بمشروع مارشال لإعمار أوروبا بعد الحرب ، كما قاموا بالإستثمار في أوروبا ومن ثم قاموا بتدوير عائدات النفط الهائلة في بنوك روكفلور الأميركية والتزموا بإتفاقية سرية بتسعير النفط بالدولار الأميركي مما ساعد في الحفاظ عليه كعملة أساسية خاصة بعد فك إرتباطه بالذهب أثناء ولاية الرئيس نيكسون بعد حرب فيتنام.3 .
شاركت المملكلة مع نظام الشاه في إيران بتمويل الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 بطلب من وكالة المخابرات المركزية، تحت عنوان محاربة نفوذ القوى اليسارية في لبنان، وركز هذا التحالف على مواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وطرد القوات العراقية من الكويت في عام 1991 بعملية وصفت بحرب الخليج الثانية. لهذه الأسباب إعتبرت القوى التقدمية والثورية في العالم العربي أن الدور السعودي المتحالف مع الولايات المتحدة دور هدام يقف عائقاً في وجه وحدة وتحرر الشعوب العربية من الهيمنة الغربية، وأن أموال النفط العربي كانت في خدمة المشاريع الأميركية الصهيوينة أكثر منها في خدمة مشاريع التطوير العربية.
التحالف السعودي الأميركي كان له الدور الأساس بشن صدام حسين حربه على إيران بعد إنتصار الثورة الإسلامية، وكان للملكة السعودية الدور الأكبر والأهم في تمويل هذه الحرب وشن حرب سلبية على أسعار النفط للتأثيرسلباً على قدرات إيران والإتحاد السوفياتي المالية. كما أعتبرت المملكة أن إنتصار الثورة الإسلامية في إيران يشكل خطراً مزدوجاً للمملكة. السبب الأول أنها إطاحت بحليف الولايات المتحدة في إيران، إي نظام الشاه، وهو كان ركيزة أساسية ضمن منظومة التحالفات الأميركية الصهيونية في المنطقة التي تنتمي إليها المملكة، والسبب الثاني كون الجمهورية تحمل مشروعية دينية شعبية، تعبر عنها لإنتخابات والإختيارات الشعبية للسياسات، وتشكل تناقضاً واضحاً مع نظام ملكي رجعي يتحالف مع أعداء شعوب المنطقة ويفتقد للمشروعية الشعبية.
المرحلة الثانية لهذا التحالف المعادي لشعوب المنطقة، برز على اثر إحتلال الولايات المتحدة للعراق، وبروز مقاومة عراقية أفشلت هذا الإحتلال، ولم يكن لهذه المقاومة أن تستمر وتنتصر على قوات الإحتلال لولا دعم كل من سوريا وإيران لها. الهزيمة الأميركية وعدم قدرتهم بالسيطرة العسكرية على العراق أظهرت محدودية القوة الأميركية، وتراجعت على أثرها نظريات القوة الخارقة التي لا تستطيع أية قوة أن تقف في وجهها، وهنا ظهرت دعوات للإنكفاء الأميركي للخروج من حروب الإستنذاف في أفغانستان والعراق والدعوة التي لخصتها لجنة بايكر- هاملتون بضرورة البحث عن حلول سياسية.  وجاء في التقرير: " أكد جيمس بيكر، ولي هاملتون، في تقرير مجموعة دراسة العراق، عدم وجود صيغة سحرية لحل مشكلات العراق، ولكن هنالك خطوات يمكن إجراؤها لتحسين الوضع وحماية المصالح الأمريكية، وأن على الإدارة الأميركية أن تحصل على التزام وتعاون جميع دول جوار العراق بما في ذلك سوريا، وإيران، وكذلك مصر، ودول الخليج، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، للخروج من الوضع الذي يعيشه العراق."4 
هذا التقرير يعتبر الإعتراف الرسمي الأول بمحدودية القوة الأميركية وعدم قدرتها بفرض إرادتها على منطقة غرب آسيا وتطالب بالتعاون مع دول المنطقة ومن ضمنها سوريا وإيران، اللتان كان من المفترض أن إحتلال العراق يؤدي إلى تغيير سياستهما، وقدجاء هذا التقرير في شهر ديسمبر 2006 أي بضعة أشهر بعد فشل العدو الصهيوني في حربه على المقاومة في لبنان في محاولة لتعديل موازين القوى في الإقليم وإنشاء شرق أوسط جديد كما أعلنت كونداليسا رايس.
هذه النتائج السلبية لقدرات الولايات المتحدة في المنطقة أدت إلى مقاربات جديدة حددتها لجنة تحقيق بقيادة روبرت غيتس الذي أصبح وزيراً للدفاع بعد تنحي رامسفيلد، والذي شارك في وضع تقرير بيكر –هاملتون في الشق العسكري، وجاء في توصيات لجنة التحقيق تلك: أن على السياسيين أن يحددوا فقط أهداف أية حرب مقبلة، ولكن القيادة العسكرية لها كل الحق بتحديد إمكانية تحقيق هذه الأهداف ومدى واقعيتها وحجم القوات المطلوبة لتنفيذ هذه المهمات دون تدخل من الجانب السياسي الذي أساء تقديرات الموقف في حرب العراق وحدد عدد القوات وكيفية إدارة الحرب.
الأهم في تقديرات روبرت غيتس، التي أدخلت العلاقات بين الولايات المتحدة واللملكة السعودية مرحلتها الثانية، هو عدم إمكانية وضرورة أن تدخل الولايات المتحدة مرة أخرى في أية حرب في المنطقة دفاعاً عن النفط أو دفاعاً عن بعض الأنظمة المتحالفة معها، بل يجب على هذه الدول أن تدافع عن نفسها وأن تكتفي الولايات المتحدة بمراقبة عملية إنسياب النفط وتدفقه للاسواق العالمية.
أبلغت المملكة ودولة الإمارت وقطر والكويت وعمان بهذه التوجهات، وأصبح عليهم أن يدفعوا الأموال للقوات الأميركية لكي تدرب قوات هذه البلدان بوتيرة عالية ومتقدمة وأن يشتروا كميات هائلة من الأسلحة لكي يسدوا الثغرة بين قدراتهم المتوفرة في تلك الفترة مع التحديات التي كانوا يواجهونها، أو التي سيواجهونها في المستقبل. ولم يكتفي غيتس بإبلاغهم بهذه السياسة سراً، بل كتب فيها مقالاً بهذا الإتجاه في مجلة الفورين أفير أوضح فيه هذه السياسة الجديدة5، خاصة أن النفط لم يعد كما كان في وقت الهجوم على العراق مسألة حياتية للولايات المتحدة التي وصل إحتياطييها الإستراتيجي  حينها إلى أدنى مستوى له وهو 17 بالمئة فقط، في حين أنه أثناء الإحتلال وبعد بضعة سنوات تم إستخراج النفط الصخري وأصبحت الولايات المتحدة مكتفية نفطياً بل مصدرة للنفط من جديد.
هذه المرحلة الجديدة التي كثفت فيها عمليات التدريب والتسليح لهذه الدول وعلى رأسها المملكة السعودية يليها دولة الإمارت ظهرت فيها مقولة الدولة الإسبارطية، التي بدأت تتغلل في عقول بعض القادة الشباب في كلى الدولتين. ونظرية الدولة الإسبارطية تعود إلى إسبارطة الدولة الصغيرة التي إستطاعت بنخبة من المقاتلين أن تهزم  اليونان أولاً ثم تعود لتتحد معها وتجابه، ويا للصدف ، جيش الأمبراطورية الفارسية. هذه النزعة كانت تغذيها الأفكار الصهيوينة التي كانت قد بدأت بنسج علاقات سرية مع هذه الدول وتدفعها للتمثل بدولة الكيان الصهيوني "الصغيرة "التي تتغلب على عدة دول أكبر منها .6
بعد فشل السيطرة العسكرية المباشرة لجأت الولايات  المتحدة إلى إستراتيجية تحضير البدائل المناسبة لتأمين بيئة إستراتيحية مناسبة تؤمن مصالحها على المدى البعيد، بعيداً عن التدخل العسكري المباشر.
هذه الإستراتيجية تمثلت بإيجاد البدائل للأدوات الحاكمة التي إرتبطت على مدى عقود بالمركز الأميركي، والتي فشلت في السيطرة على الرأي العام العربي والإسلامي وعدم السماح له بالجموح نحو العداء للولايات المتحدة. ومحاور هذه الإستراتيجية تلخصت بالتالي: أولاً تحويل النقمة وتحميل مسؤولية تدهور الأوضاع في تلك البلدان للنظم الحاكمة، بعيداً عن الدور الإمبريالي للمركز وللدور الصهيوني الإقليمي في تدمير وإستنزاف مقدرات هذه الشعوب، والإعتدائات المستمرة على كرامتها وعلى أراضيها.
ثانياً إيجاد البديل الذي يمكن أن يحكم هذه الدول بما يرضي المزاج الشعبي العام، ولكن دون المساس بمصالح المركز ومع الإبتعاد عن المسالة الفلسطينية والعداء للصهيوينة، وبذلك تؤمن الأمن للكيان الصهيوني وتؤمن المصالح الأميركية، ووقع الخيار على تنظيمات الإخوان المسلمين لقيادة هذه العملية وعلى تركيا لتاطير هذه الحملة وتنظيمها بمساعدة دولة قطر بقدراتها المادية والإعلامية، وكانت قطر قد سبقت كل من الإمارات والسعودية بلعب دور الدولة الإسبارطية، ولكن ليس في المجال العسكري بل في المجال الإعلامي للسيطرة على الراي العام وفي مجال الإستخبارات لتجنيد القوى الإسلامية لصالح هذا المشروع، بالتعاون مع حزب العدالة والتنمية في تركيا كنموزج لحزب إسلامي يتحالف مع الولايات المتحدة وهو عضو في حلف شمال الأطلسي، وكدولة وكحزب إسلاميان يعترفان بالكيان الصهيوني. وقد لخص هذه الإستراتيجية المفكر الأميركي صامويل هانتعنتون ،صاحب كتاب صراع الحضارات، بشكل واضح لا لبس فيه خلال محاضرة ألقاها في اسطنبول،7 وفي ملخص هذه المحاضرة: أن تركيا لن تدخل الإتحاد الأوروبي أبداً، ولذلك فمن الأفضل أن تتجه نحو الشرق. ثانياً أن الولايات المتحدة بحاجة للنموذج التركي المتمثل بحزب العدالة والتنمية، كحزب يأتي للسلطة عن طريق الإنتخابات، على علاقة تحالف مع الولايات المتحدة ويعترف بالكيان الصهيوني. هنا أشار هانتغتون إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في هذا المجال كحزب وكدولة إسلامية، تكون نموذجاً لما تريده الولايات المتحدة.
هذه الإستراتيجية كانت جزءاً من إستراتيجية إدارة الرئيس أوباما بالسعي نحو ماسماه: تغيرات ديموقراطية في العالم العربي، وتحدث عنها بوضوح أثناء خطابه الشهير في القاهرة8، كما تحدثت عنها السيدة كلينتون، التي كانت وزيرة الشؤون الخارجية والمسؤولة عن متابعة وتنظيم ودعم هذا البرنامج ، أثناء خطابها في مؤتمر الدوحة.9
التحولات التي جرت في كل من تونس ومصر وليبيا ، وكانت مدعومة من الخارجية الأميركية، والتي أدت إلى خروج كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي من الحكم، كان عليها أن تأتي وعن طريق الإنتخابات بالأحزاب الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين، الذين كانوا مباشرة وعن طريق قطر وتركيا على إتصال وتنسيق في كافة تفاصيل عملية إنتقال السلطة وفي الخطوط العريضة لإلتزاماتهم في السياسة الخارجية.
إستكمال هذه الموجة كان يجب أن يتم في سوريا، ولكن صمود الدولة السورية أفشل هذا المخطط وأدخل البلاد في حرب متعددة الأطراف والأهداف، حرف مخطط الإستبدال بالطريقة الديموقراطية والحراك الشعبي، إلى حركات مسلحة تستعمل العنف كوسيلة، وهي الخطة البديلة التي لجات إليها كل من تركيا وقطر والولايات المتحدة ومعها دول غربية وعربية أخرى في محاولة إسقاط الدولة السورية.
هذه الخطة تعثرت أيضاً في البحرين، التي لم تكن الولايات المتحدة تخالف تقديم تنازلات للحراك الشعبي وحتى الذهاب نحو ملكية دستورية، تعطي البرلمان سلطة أوسع لتحديد نوع ورئاسة القوة التنفيذية على النمط الإنكليزي لكن المملكة السعودية عارضت بقوة هذا التوجه وأدخلت قوات درع الجزيرة، واستمرت بدعم عملية القمع.
اليمن كان الدولة الأكثر حساسية بالنسبة للولايات المتحدة والسعودية معا. الولايات المتحدة لم تكن تعارض تغيير رأس النظام بشرط المحافظة على النفوذ الأميركي، بسبب موقع اليمن الإستراتيجي وبسبب الحرب التي كانت تشنها على فرع تنظيم القاعدة في اليمن والذي تعتبره الأكثر خطورة من أفرع هذا التنظيم والأقل إختراقا من قبل الأجهزة العربية والأميركية.
لم تجري الأمور كما كانت تشتهي الولايات المتحدة وقطر في اليمن، فرغم محاولة إغتيال الرئيس علي عبدالله صالح التي قام بتنفيذها التنسيق الإخواني القطري، إلا أن نجات الرئيس علي عبدالله صالح، إضطر السعودية إلى أن تعالجه وتنقذ حياته، ولكن بشرط التخلي عن الحكم لصالح نائبه عبد ربه منصورهادي. هذه التسوية كانت ترضي الولايات المتحدة بأستكمال مسلسل ما سمي "بالربيع العربي" دون التفريط بالمصالح الأميركية وظناً منهم أن حزب الإصلاح بمساعدة آل الأحمر سيتمكنون من إستلام السلطة. وبالتالي سيحافظون على مصالح الولايات المتحدة وعلى الحرب التي تخوضها ضد تنظيم القاعدة وتستكمل العملية التي بدأت بتونس ومصر وليبيا. وسبب الفشل هو ظهور قوة لم يحسب لها حساب وهي أنصار الله التي ترفع علناً شعار معاداة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وكما في سوريا إستبدلت الأساليب الناعمة من تظاهرات شعبية وضغط إعلامي في محاولة إسقاط النظام فلجاوا إلى المجموعات التكفيرية والإرهابية فإنهم في اليمن بداؤوا بشن حرب علنية، تحت شعار دعم شرعية الرئيس هادي الذي إنتهت مشروعيته ومدد لها سنة أخرى خلافاً للإتفاق الذي وقع في الرياض، والذي تغاضى عن نقطة الإتفاق على ضرورة إجراء إنتخابات حرة خلال فترة سنة من تنصيبه في موقعه.
هنا إكتملت الأدوار الاربعة للملكة، من مملكة داعمة مالياً ومحرضة على كافة المخططات المعادية للتحرر العربي ولوحدة الدول العربية والدور اللاحق كدولة معادية للثورة الإسلامية في إيران وممولة للحروب عليها، وإلى الدور الثالث كداعمة لمشاريع التغيير في الدول العربية بناء للمخطط الأميركي إلى الدور الرابع كدولة ، تتماثل مع إسبارطة، بلعب دور عسكري مباشر بشن الحروب من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة سياسياً بما يتماهى مع المصالح الأميركية وحتى الصهيونية، بعدما تكشف عن دور للملكة بالتحريض على الحرب ضد المقاومة اللبنانية في تموز 2006 وبما إنكشف من تطبيع مع الكيان الصهيوني ودور المملكة بدعم مشروع  "صفقة القرن" بضم الضفة الغربية والقدس والجولان للكيان الصهيوني.
من خلال هذه المعطيات والتحولات في دور الملكة السعودية، يتبين لنا أن تحولاً كبيراً طرأ على الأوضاع الجيوستراتيجية في الإقليم أهمها: الإنكفاء الأميركي وتغير أهدافه وإهتماماته التي يحددها في الأمن القومي الأميركي. ثانياً أن دولاً تحاول ملء الفراغ من خلال بسط سيطرتها على سياسة دول بعينها، وذلك خدمة للولايات المتحدة كمحاولة للعب دور "حافظ المنافع الأميركية في المنطقة"، هذا يعني إستمرار الهيمنة الأميركية ولكن بواسطة دول إقليمة، والدول التي تلعب هذا الدور هي التحالف التركي القطري من جهة، والتحالف السعودي الإماراتي من جهة أخرى، دون أن يعني أن التحالفان لا يعملان خدمة لمشروع أمريكي بوجه من الوجوه.
ثالثاً أن هناك محاولة لكي يتم الحفاظ على معادلة سايكس-بيكو-بيلفور، ولكن بنقلها من حالة الصراع مع العدو الصهيوني ومحاولة إعادة توحيد شعوب المنطقة، إلى حالة المحافظة على نتائج سايكس-بيكو-بيلفور من خلال تحالف بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني لمواجهة من يسعى لتحرر المنطقة من الهيمنة الغربية ولتحرير فلسطين.
إن فهم جوهر الصراع الدائر اليوم في أكثر من بقعة من دول الإقليم، ولخلفيات العديد من الحروب الداخلية والخارجية ضمن هذه المعادلة التي ذكرناها هي التي يجب أن تحدد نوعية وأهداف الإستراتيجية الإيرانية لقيادة الصراع في المنطقة بما يخدم مصالح شعوب المنطقة بالتحرر من هيمنة الغرب ومن أجل بناء قدراتهم الذاتية نحو التحرر الإقتصادي والنمو السياسي والإجتماعي.
أن أية عملية فصل للأحداث التي تجري في اليمن، من حرب السعودية وحلفاؤها على هذا البلد، أو ما يجري في العراق من معارك مع التكفيرييين، وما يجري في سوريا من تدخلات خارجية وصراع مسلح مع مجموعات تكفيرية إرهابية أيضاً، مدعومة من الولايات المتحدة أو من حلفائها،هو عملية خاطئة لأن كل هذه الصراعات تجري تحت عنوانين أساسيين: العنوان الأول هو حماية الكيان الصهيوني ومحاولة إيجاد مشروعية له في الإقليم، والعنوان الثاني هو محاولة رسم توازنات وتحالفات جديدة تحفظ مصالح الولايات المتحدة من خلال قوى إقليمية لأنها لم تعد قادرة ولا راغبة بشن الحروب وخوضها بنفسها.
هذه النظرة الشمولية لأحداث الإقليم، ومن ضمنها الحرب على اليمن هي التي تدفع الجمهورية الإسلامية لكي تأخذ المبادرة في كل الساحات مع حلفائها من أجل التصدي لهذه المحاولات، التي لو نجحت فستكون النتيجة تطويق إيران ومحاصرة ثورتها والقضاء على مكتسباتها التحررية والتنموية.
لذلك كان لإيران دور كبير وأساسي في دعم حركة الشعب اليمني التي تسعى للتحرر من هيمنة الغرب ومن أجل إقامة نظام يعتمد على الإرادة الشعبية ويكون متعاوناً مع محيطه للحفاظ على أمن الإقليم وسلمه ولبناء منظومة تعاونية إقليمية لايهيمن عليها الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
لم تتاخر إيران في مد يد العون للشعب اليمني، من خلال الدعم السياسي والإعلامي وحتى المادي، ولم تبخل عليه بالدعم العسكري من خلال مده بالخبرات العسكرية في مجال قيادة العمليات ولا بالخبرات التسليحية في مجال التصنيع العسكري، وبالتالي أوجدت توازناً في البداية مع كل آلة الحرب السعودية -الأمريكية التي تشن العدوان على اليمن، وبالتالي كسرت موجة الهجوم وأقامت نوع من الردع وأصبح من الممكن الإنتقال إلى حالة هجومية.
هذه الحالة الهجومية يجب أن تكون أهدافها واضحة لكي تكون وسائلها وأدواتها وتكتيكاتها ملائمة لتلك الأهداف. وهذه الأهداف يجب أن تكون محددة كالتالي:
- أن هذه الحرب هي جزء من الحروب المتعددة الأوجه والأساليب التي تشنها الولايات المتحدة في الإقليم مع حلفاء محليين. تشارك فيها أحياناً بشكل مباشر بقواتها وأحياناً مستعينة بقوات حليفة وأحياناً بمجموعات إرهابية.
- أن هذه الحرب لها الأهمية القصوى لأنها تجري على أرض ذات موقع إستراتيجي دولي مهم، ولأنها تجري مباشرة مع أكبر وأهم حليف للولايات المتحدة في الإقليم، بعد الكيان الصهيوني ، ألا وهي المملكة السعودية. وبالتالي فإن هزيمة المملكة في هذه الحرب، لن يعد نصراً لليمن فقط بل نصراً لكل محور المقاومة على واحد من أغنى وأخبث حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، لأنها تحمل عنواناً عربياً وإسلامياً وتوظف أموال المسلمين وإعلامهم خدمة لأعدائهم.
- أن اليمن الجديد المنتصر، وبشعاراته العلنية المعادية للولايات المتحدة وللكيان الصهيوني، سيكون حليفاً موثوقاً وقوياً في حلف محور المقاومة، كما أن إيران قد أثبتت من خلال دعمها للحق اليمني، إنها حليف موثوق وقادر على مواجهة مخططات أكبر دول الغرب وأغنى دول الإقليم التي توظف أمكاناتها في خدمة أعداء شعوب الإقليم.
- الدور الإيراني في اليمن له مردودات ونتائج ستأسس لموازين قوى دولية، تكون أولى نتائجها الإيجابية لصالح شعوب الإقليم، وثانيها لمصلحة شعوب العالم التي ستشهد كسر شوكة الأدوار الأميركية وحلفائها من دول الإقليم الذين دعموا سياساتها على مدى عقود بالمال والنفوذ والدعاية السوداء.
-إن ما يمكن تسميته بأمن العائلة الحاكمة في السعودية يرتكز على النقاط التالية: أولاً الدعم والحماية الخارجية من قبل المركز الإمبريالي. ثانياً القدرات المالية الهائلة التي توظف في خدمة شراء الولاء في الداخل وفي شراء التبعية في الخارج. وثالثاً الهالة الدينية التي تتمتع بها بسبب إحتضانها للحرمين الشريفين وبسبب الذهب السلفي الوهابي الذي كانت تنشره عبر العالم ، مقدمة نفسها حامية للدين. هذه النقاط الثلاثة بدأت تتهاوى.
-الأولى بسبب ضعف المركز وإنكفائه وفشل قدرته في السيطرة المباشرة على الإقليم. ثانياً بسبب تراجع القدرات المالية وتعثر الإقتصاد والوقوع بالعجز والدخول في منظومة ضرائبية لم تعرفها المملكة واللجوء إلى الإستدانة حتى، مما يؤثر على النظام الريعي. ثالثاً تراجع الدور المذهبي الذي إنتهت صلاحيته، والذي عبر عنه بفتح موجة الخلاعة بما سمي بأجواء الوناسة، وبسبب إعتقال الدعات الذين كان النظام يعتمد عليهم في نشر مذهبه. 
-حرب اليمن التي لن تربحها المملكة، بل التي تهدد أمنها الداخلي وتستنفذ مقدراتها المالية، وتسحب عنها المشروعية الإسلامية، ستساعد في تسريع سقوط هذه المملكة. لذل فإن البحث عن الخرائط البديلة في شبه الجزيرة العربية، يصبح من ضرورات وواجبات كل من يعمل في الأمن الإقليمي.
-لقد دخلوا الحرب على اليمن، وهم بفضل صمود المقاومين وخلفهم محور المقاومة، لن يعودوا منه أبداً إلا مهزومين.

(الحاشية)
1- الشروق. محمد المنشاوي-22 نوفمبر 2018
2- محمد حسنين هيكل- سنوات الغليان ص:2900-305
3- Krugman, Paul. The Gold Bug Variations
4- The U. S. Institute of Peace. The Iraq Study Group Report.. James A. Baker, III and Lee H. Hamilton, Co-Chairs. With Lawrence S. Eagleburger, Vernon E. Jordan, Jr., Edwin Meese III, Sandra Day O'Connor, Leon Panetta, William J. Perry, Charles S. Robb, Alan K. Simpson.
5-https://www.foreignaffairs.com/articles/2010-05-01/helping-others-defend-themselves.
6- 28 Apr The rise of “little Sparta” in the Middle East Posted at in Online Articles by Jason The flexing foreign policy and military muscles of the United Arab Emirates.By Emanuel Skoog
7- محاضرة صامويل هانتغتون في اسطنبول –أيارومايو 24-2005 بدعوة من أك بنك.
8-  The White House-The President's Speech in Cairo: A New Beginning. President Obama, Cairo, June 4, 2009.
9- U.S. Department of State. 01/13/11 Forum for the Future: Partnership Dialogue Panel Session with Q&A Session;  Secretary of State Hillary Rodham Clinton; Ritz Carlton; Doha, Qatar.


قراءة: 612