فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

كلمة رئيس التحرير

حسين صفدري


الاقتدار و السلطة

        الاقتدار هو أساس حاكمية الدول٬ و السلطة السياسة و الاجتماعية تصبح عاجزة عن إنفاذ إرادتها في غياب الاقتدار٬ فتقع في أتون الصراعات و النزاعات و عدم الاستقرار في المجال السياسي. الاقتدار هو أحد أكثر أمثلة النفوذ المعنوي فاعلية٬ و يرتبط هذا المفهوم بصلة وثيقة بالنفوذ و امتلاك مقومات السلطة. الاقتدار هو السلطة المقبولة عند الرأي العام بما لا يسمح لأحد بالوقوف في وجهه أو مقاومته. و الاقتدار لا يعني القوة الصلبة و القدرة على إكراه الآخرين فحسب٬ و إنّما مزيج من السلطة و العقلانية و النفوذ و القدرة على التأثير و التي تكون مقبولة من الآخرين و معترف بها. 
        في الأوضاع الراهنة للعالم فإنّ اقتدار الحكومات الديمقراطية القائم على رضا الشعب و حقّه في الحاكمية (الديمقراطية) يكون أكثر نفاذاً من سلطة الحكومات الاستبدادية. فالحكومات التي تقود المجتمعات و العلاقات الداخلية و الخارجية بالاتكاء على الاقتدار و النفوذ المعنوي تتحمّل تكاليف أقل لإدارة شؤون البلاد و تقدّم إنجازات أفضل بالمقارنة مع الأنظمة التي تعتمد على القوة الصلبة و القدرات العسكرية في معالجتها لقضايا البلاد. و في هذا الإطار يمكن أن نستنتج بأنّ امتلاك السلطة لا يؤدّي بالضرورة إلى الاقتدار٬ و إنّما السلطة هي إحدى عناصر الاقتدار. 
        ما فتأ توظيف السلطة في العلاقات الثنائية أو متعدّدة الأطراف في المحافل الدولية ينطوي على إشكالات و نماذج مختلفة منها:
        الردع: الهدف من الردع الحؤول دون حصول أيّ اعتداء أو ضربة من قبل الأعداء. و يتمظهر الردع على شكل تهديد بالانتقام و القيام بمناورات عسكرية لإظهار الجهوزية و الاستعداد للردّ القاطع على أيّ هجمة أو عدوان أو خطوة قد تهدّد الأمن أو المصالح القومية.
        الدفاع: الهدف منه صدّ الهجمات و التقليل من الخسائر الناجمة عن أيّ هجمة أو عدوان من قبل الأعداء٬ و في الحقيقة هو ردّ على إجراءات العدو.
        الإكراه: أي إكراه العدو على القيام أو الامتناع عن فعل بالضدّ من رغبته٬ و ذلك في إطار صيانة المصالح أو الأمن القومي. 
        المناورات و الحرب النفسية: الهدف منها استعراض القدرات و الإمكانات بالاستناد إلى الإبداع و الخلق٬ و التي تزيد من الهيبة و ربما تنطوي في داخلها على أهداف الردع و الدفاع و الإكراه.
        صحيح إنّ السلطة إحدى عناصر الاقتدار و لكن لابد من الاعتراف بأنّ السلطة في جسم الاقتدار هي بمثابة «الرأس» لهذا الجسم. و تتألّف السلطة من عوامل كثيرة و مختلفة مثل وفرة السكان٬ و الجغرافيا الواسعة٬ و الحكم القوي٬ و الانسجام الفائق في الحاكمية٬ و القدرة العسكرية٬ و امتلاك القدرات و الإمكانات الاقتصادية ... إلخ ٬ غير أنّ العوامل التالية لها دور كبير في تعزيز البنى التحتية لأيّ بلد:
أ) الكثافة السكانية٬ فالبلدان التي تتوفر على كثافة سكانية عالية قادرة على أن‌تظهر بمظهر أقوى في المحافل الدولية. 
ب) امتلاك كوادر إدارية و قيادية ذات إرادة و عزيمة و ترنو إلى تحقيق أهداف سامية لتتمكّن بعناصر العقلانية و الشجاعة و الحرص و النفوذ المعنوي من إدارة  مختلف المعادلات السياسية و الاجتماعية و الثقافية و العلمية و العلاقات الداخلية و الخارجية.  
ج) امتلاك القدرات الاستراتيجية الاقتصادية بما في ذلك منابع الثروة الطبيعية و المواد الأولية٬ و المعادن ...إلخ. 
د) امتلاك القوة العسكرية و القدرات الدفاعية المحلية و عدم الاتكاء على سائر القدرات لحفظ الأمن و الدفاع عن الاستقلال. 
هـ) الانسجام الوطني و امتلاك إرادة قوية لتحقيق الأهداف الوطنية العليا.
        فالجمهورية الإسلامية في إيران من خلال امتلاكها مقومات السلطة التي تؤهلها للتصدي للرؤية الاستكبارية للولايات المتحدة، قد برهنت على اقتدارها٬ أي٬ بمزيج من السلطة و العقلانية برهنت على نفوذها و قدراتها المؤثّرة على المعادلات الإقليمية و الدولية٬ و بإذعان الجميع. إنّ المكانة الإقليمية و القدرات العظيمة التي وفّرتها إيران لنفسها ساعدتها كثيراً على رفع اقتدارها في المعادلات العالمية و الوقوف بوجه الولايات المتحدة. و قد بلغ هذا الاقتدار حدّاً اضطرّ البيت الأبيض إلى انتهاج سياسة ضبط النفس و تبنّي  مقاربات محافظة. و قد تجلّى هذا السلوك الأمريكي المحافظ تجاه إيران عقب إسقاط الطائرة المسيّرة الأمريكية في العشرين من يونيو/ حزيران 2019 م بواسطة منظومة الدفاع الجوي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فردّ الفعل الهزيل و السلوك المحافظ للبيت الأبيض إزاء إيران عقب الهجمات الصاروخية على قاعدة عين الأسد في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2020 م هو أيضاً مثال آخر على الاعتراف بقدرة إيران على الردّ على أيّ تهديد. مع العلم أنّ هذا المستوى من الاحتياط و التحفّظ في علاقة الولايات المتحدة مع دول العالم المختلفة غير مسبوق في التاريخ. نفس هذا المعنى ورد في منشور الخطوة الثانية لسماحة قائد الثورة الإسلامية. حيث ذكر سماحته: 
«الثورة الإسلامية للشعب الإيراني ثورة قوية لكنّها في نفس الوقت مقترنة بالمحبة و العطف. لم ترتكب ممارسات متطرّفة أو انحرافات يسارية كما وُصمت بذلك معظم الثورات و الحركات. لم تكن البادئ بإطلاق الطلقة الأولى في أيّ معركة و لا حتى مع الولايات المتحدة أو صدام٬ بل كانت المدافعة عن نفسها في جميع المواقف بعد حملة العدو الغادر٬ و طبعاً كان دفاعها حازماً و قوياً. لم تشهد هذه الثورة منذ اللحظة الأولى لانطلاقها و حتى اليوم بطشاً أو سفكاً للدماء و لا انفعالاً أو ترديداً. لقد وقفت بوجه المتغطرسين و المتجبّرين بصراحة و شجاعة٬ و دافعت عن المظلومين و المستضعفين. هذه البسالة و المرؤة الثورية٬ و هذه المصداقية و الصراحة و الاقتدار٬ و هذه الدائرة العملية العالمية و الإقليمية في نصرة مظلومي الأرض٬ هي وسام فخر و رفعة لإيران و الإيرانيين و ستظلّ كذلك».
إنّ العداء الذي تكنّه الولايات المتحدة للجمهورية الإسلامية في إيران مردّه النجاح الذي حقّقته الأخيرة في جذب اهتمام الشعوب لنموذجها الناجح للنظام السياسي المستند إلى الشعب (الديمقراطية الدينية)٬ و صيانة الاستقلال و التأكيد على بسط العدالة. لقد استطاعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال هذا النموذج أن تحقّق قفزات في ميادين العلم و التكنولوجيا٬ و أن تحافظ بحزم و بصلابة على مصالحها و إنجازاتها. فهذه القدرات تتعارض مع روح الهيمنة الاستكبارية ممّا أزعج الولايات المتحدة و أثار سخطها. و لذلك نرى أنّ السلوك العدواني الشرير الذي ينتهجه المسؤولون الأمريكان إزاء الشعب الإيراني إنّما يعبّر عن طبيعتهم الذاتية. و يعزى هذا السلوك إلى مصدرين رئيسيين٬ الأول٬ ضعف و عدم فاعلية أدوات أمريكا في فرض سلطتها٬ فعلى الرغم من امتلاكها عناصر السلطة و القوة إلّا أنّها ظلّت عاجزة عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية. و الثاني قدرة الشعب الإيراني و صلابته في إنفاذ إرادته في مقابل شروط و مطالبات المسؤولين الأمريكان و قد تسبّبت هذه الصلابة في تغيير ميزان القوى القديم في المعادلات الثنائية و المتعدّدة بين الولايات المتحدة و إيران. في الحقيقة٬ إنّ البيت الأبيض اضطرّ إلى تبنّي مواقف عنيفة و حادّة و جوفاء أملاً في ترهيب إيران و إخافتها و ذلك بعد أن عجزت عن تطبيق سياساتها إزاء الثورة الإسلامية. و بناءً على ذلك٬ يعتبر المسؤولون الأمريكان إيران هي التحدّي الأكبر. 
      ففي معرض ردّها على سؤال لمراسل فاكس نيوز حول إيران قالت نیکي هیلي: «لدينا قلق إزاء إيران أقولها بصراحة٬ إنّ إيران في الوقت الراهن هي أكبر معضلة تواجهنا». 
      ربما يتبادر سؤال و هو ما سبب اقتدار إيران (على الرغم من كل نقاط الضعف و القيود المادية بالمقارنة مع الولايات المتحدة)؟ و ما الذي يجعل حجم الجمهورية الإسلامية الإيرانية كبيراً في عيون الرؤساء الأمريكان لدرجة صاروا يتمنّون أن لاتحتفل إيران الإسلامية بالعيد الأربعين لثورتها؟ و لماذا ينتاب الزعماء الأمريكان شعور بالقلق إزاء إيران إلى هذا الحدّ؟ 
        ربما يقال بأنّ السبب هو أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية و على الرغم من المصاعب الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة٬ استطاعت أن تزيد من عناصر القوة لديها٬ فعملت على تحديث قدراتها العسكرية المحلية في المجال الدفاعي، فعزّزت بذلك قوّة الردع لديها٬ و تمكّنت من الوصول بمديات صواريخها الباليستية الدقيقة إلى 2000 كم. فالمنظومة الدفاعية الإيرانية قادرة على رصد حتى المسيّرات الصغيرة و على إسقاط الطائرة المسيّرة الأمريكية. بالإضافة إلى أنّ‌تكنولوجيا النانو و الذرة في إيران في تطوّر مستمر ...إلخ. 
طبعاً لا أحد ينكر القفزات التي حقّقتها القوة العسكرية أو التكنولوجيا في إيران٬ لكنّ سبب الاقتدار الإيراني٬ في الحقيقة٬ هو تبيئة العلم بما في ذلك تكنولوجيا النانو٬ و الصناعة الصاروخية٬ و التكنولوجيا النووية السلمية ...إلخ حيث لم يعد بمقدور أيّ قوة أن تلغي أو تحدّد هذا العلم المحلّي الإيراني. لقد غُرس هذا العلم في روح العالم الإيراني و عقله و قلبه٬ فوجد طريقه إلى التعالي٬ و السبب الثاني هو زيادة مقاومة و صمود النظام الإسلامي و الشعب الإيراني الأبيّ بوجه تهديدات الأجانب و ضغوطهم، أعني الصبر و الثبات على الضغوط و الصعاب المجحفة التي تتسبّب بها الولايات المتحدة للشعب الإيراني. فقد ازدادت الضغوط الاقتصادية و المقاطعة و العقوبات الدوائية و الطبية و الصحية و  ...، لا سيّما في فترة شيوع جائحة الكورونا حيث الحاجة إلى المواد الطبية و العلاجية و الصحية أكثر من أيّ وقت مضى. 
        و ما زاد في صلابة و ثبات إيران الإسلامية بوجه أمريكا هو صمود الشعب و ثباته و الذي لا ينبغي التقليل من تضحياته. فالجمهورية الإسلامية في إيران اليوم مدينة لصمود مواطنيها فقط٬ و ليس لأيّ قوة أجنبية طامعة في تراب هذا الوطن و مياهه. مصدر القوة الذاتية هذا هو الذي منح إيران الاقتدار و دفع العدو إلى انتهاج سياسة الاحتياط و التحفّظ. يشير سماحة قائد الثورة في منشور الخطوة الثانية للثورة إلى بركات الثورة الإسلامية و يذكّر بأنّه: 
«يوماً بعد آخر يتعاظم رمز العظمة و الجلال و الفخر لصمود الشعب في مواجهة المتغطرسين و المستكبرين في العالم و على رأسهم الولايات المتحدة المجرمة. طيلة العقود الأربعة الماضية كانت السمة المميّزة لإيران و الشعب الإيراني و بالأخص شباب هذا الوطن هي عدم الاستسلام و صيانة و حراسة الثورة و عظمتها الإلهية و هيبتها٬ و علوّ هام الشعب أمام الأنظمة المتعجرفة و المستكبرة. إنّ القوى العالمية المهيمنة التي اعتادت على سلب استقلال الأمم الأخرى و غمط حقوقها و مصالحها الحيوية من أجل تحقيق أهدافها المشؤومة٬ اعترفت بعجزها أمام إيران الإسلام و الثورة. لقد استطاع الشعب الإيراني في فضاء الثورة الملهم أولاً أن يطرد عميل أمريكا و خائن الشعب من البلاد [شاه إيران] و أن يحول بصلابة و قوة دون عودة هيمنة الإمبرياليين العالميين إلى البلاد». 
        يعتقد أبرز المنظّرين بأنّ اقتدار إيران الإسلام رهن بصمود شعبه و مقاومته٬ و بقيادة النظام المنجبة للمقاومين التي حوّلت المجتمع الإيراني عبر سنوات طوال إلى مجتمع إيماني مقاوم يلهج بـ«إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ و يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» و «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ». 
        انطلاقاً من هذه الرؤية و السير على طريق إنتاج القوة و زيادة الاقتدار استطاع الشعب الإيراني البطل أن يبلغ ذرى عديدة٬ و مواصلةً لهذا المسار٬ فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تهيّئ نفسها لبلوغ أهداف أعظم و تحقيق إنجازات أشدّ تأثيراً على المعادلات الإقليمية و العالمية. 


قراءة: 675