فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

السياسة الخارجية التركية في الأزمة السورية من الاستراتيجية الإخوانية حتى العودة إلى القضية الأولى في الأمن القومي

الدکتور مهدي هنرمند زاده
دكتوراه في الحقوق و خبير في شؤون الدولية
یونس کولي‌وند
خبير في شؤون الدولية

ملخص:
بعد صعود الإخوان المسلمين٬ حلفاء تركية العقائديون٬ إلى السلطة كنتيجة لاندلاع الصحوة الإسلامية٬ توصّل المسؤولون الأتراك إلى استنتاج مفاده أنّ التعاون مع الحكومات الإقليمية لا طائل من ورائه و أنّ الظروف الراهنة تتطلّب الدفع بمشروع مشترك في المنطقة يتضمّن إقامة علاقات استراتيجية إخوانية. من هنا و في خضمّ الصحوة الإسلامية و الثورات العربية حدثت ثورة أخرى على صعيد العلاقات التركية مع البلدان العربية و لا سيّما في شمال أفريقيا و انتقلت عدواها إلى سورية٬ ما يعني تنكّر الأتراك لكل التوافقات السابقة مع النظام السوري. و لكن مع مرور الوقت فشل مشروع الإخوان في مصر و تونس و سورية٬ وبدأت الانعكاسات الأمنية للمشكلة الكردية على تركية بالاتّساع و الانتشار٬ و ذلك عندما استغلّ الأكراد الفوضى التي حصلت في سورية فحقّقوا تقدّما كبيراً و كانوا على أعتاب تشكيل ثاني كيان مستقل لهم في المنطقة بعد إقليم كردستان العراق٬ ممّا حدا بتركية إلى تغيير استراتيجيتها.
الكلمات الأساسية:
الأزمة السورية٬ تركية٬ الإخوان المسلمون٬ أكراد سورية. 

 

 

 

 

مقدمة:
لم يكن انخراط تركية في الأزمة السورية متماهياً بشكل تام مع جبهة الاستسلام في المنطقة٬ بل كانت لها أهداف متفاوتة. فبينما كانت أهداف جبهة الاستسلام تتمثّل في إخراج سورية من جبهة المقاومة و ترك مخاصمة إسرائيل و منع تحالف النظام السوري مع إيران٬ كانت تركية تسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين٬ العثمنة و حلّ المشكلة الكردية.
فالسياسات التركية و بالأخص سياسة حزب العدالة و التنمية1 كانت تخفي وراءها العثمانية الجديدة و فكرة إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية. فربما حزب العدالة و التنمية الإسلامي هو أكثر إيماناً حتى من الأحزاب العلمانية بهذه السياسة و يرى أنّ‌تنفيذها يعدّ من أهم استراتيجياته في المنطقة. فالعثمانية الجديدة تقتضي قيام دولة عميلة في جنوب تركية و الجبهة الجنوبية. طبعاً دون أن يعني ذلك إحياء الإمبراطورية العثمانية بنفس المواصفات و الخصوصيات السابقة بل قيام إمبراطورية عثمانية جديدة.
كان استمرار التوسّع الكردي في المناطق السورية الواقعة تحت سيطرتها كفيل بدقّ ناقوس الخطر في تركية و إثارة حفيظتها. فحزب العمال الكردي PKK2٬ بنسخته السورية٬ الذي يعدّ أهمّ المعارضين للنظام في تركية و ألحق بها خسائر كبيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة كان بصدد التحوّل إلى دولة مستقلة في سورية ميزتها أنّها ليست دولة إرهابية بحسب تصنيف الولايات المتحدة و الغرب٬ بل حليفة لهم. 
وللوقوف على خطة تركية في الأزمة السورية٬ علينا أولاً أن نتناول علاقات البلدين و التحولات التي سبقت اندلاع الأزمة.
1.  ما قبل الأزمة
1-1. علاقات الجانبين 
اقترن صعود حزب العدالة و التنمية إلى الحكم مع تصحيح النظرة المتغرّبة في تركية. فالأتراك وضعوا دورهم التاريخي الطويل في الحضارة الإسلامية و الجيران و الشرق في موضع المساومة مع الغرب عند الحاجة عند طرح بعض القضايا مثل انضمام تركية للاتحاد الأوروبي. و في هذا الإطار٬ كان أردوغان و حزب العدالة و التنمية ينظرون إلى سورية كإحدى البلدان الرئيسية الدائرة في فلك الإمبراطورية العثمانية و جغرافياتها الواسعة٬ لهذا السبب و كذلك للروابط التاريخية العميقة التي تربط البلدين كان من المهم لتركية إقامة روابط خاصة مع دمشق. 
1-1-1. التحالف ضدّ الأكراد قائم على البعد الثنائي للعلاقة بين دمشق و أنقرة
قبيل بروز تحولات الصحوة الإسلامية و الأزمة السورية٬ تشكّلت بين البلدين علاقات أمنية على حدودهما المشتركة٬ و كان الأكراد بمثابة الهاجس الرئيسي للطرفين. فكانت المشكلة بالنسبة للأتراك هي حزب العمال الكردي PKK و بالنسبة للسوريين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD3٬ و هو بحسب اعتقاد المسؤولين الأتراك لا يعدو عن كونه فرعاً من حزب العمال الكردي PKK و عبارة عن حزب واحد كانا يعملان آنذاك على تقويض الأمن القومي التركي٬ و سوف ينشطان في المستقبل ضدّ الأمن القومي السوري (Shana Mansbach, 2018). و قد تبنّى المسؤولون السوريون نفس هذه القناعة فساعد ذلك على وصول الطرفين إلى مذكرة تفاهم ثنائية عُرفت بـ«اتفاقية أضنة» تمّ التوقيع عليها في عام  1998 م في مدينة أضنة التركية و تنصّ على أنّ سورية تعتبر حزب العمال الكردي PKK من الآن ارهابياً و أنّ نشاطاته محظورة في سورية. كما تقرّر أن يوسّع البلدان آليات محاربة الإرهاب و أن يتعاونا في هذا المجال. كما وقّعت سورية و تركية في عام 2010 م على مذكرة تفاهم مشتركة جديدة لمحاربة الإرهاب تمّ فيها توسيع آفاق التعاون المنصوص عليها في اتفاقية أضنة 1998 م و قد صادق البرلمان التركي على الاتفاقية الجديدة في عام 2011 م لتدخل حيّز التنفيذ الفعلي. و نصّت الاتفاقية على محاربة تركية و سورية لحزب العمال الكردي PKK و جميع فروعه (kurdpress, 1397). كما شملت الاتفاقية التعاون الأمني على الحدود المشتركة للبلدين و بموجبها سمحت سورية لتركية رسمياً بدخول الأراضي السورية حتى عمق 5 كيلومترات لملاحقة حزب العمال الكردي PKK و القيام بعمليات عسكرية عابرة و ليس حضور دائمي على التراب السوري.

2-1. البعد الإقليمي
البعد الإقليمي السوري كان يحظى بأهمية استراتيجية لأنقرة و ذلك لما يمكن أن‌تشكّله سورية في مخطط إحياء الإمبراطورية العثمانية و كذلك دور الإخوان المسلمين في سورية كتيار رئيسي و حليف لتركية. كان الأتراك يسعون عبر إقامة علاقات خاصة مع الرئيس السوري تخفيف الضغط الذي يشكّله الإخوان المسلمون٬ ليتسنّى لهم من هذا الطريق استمالة أهل السنّة في سورية. و هي نفس السياسة التي اتبّعتها أنقرة مع العراق عندما حاولت منع السعودية و البلدان العربية من مصادرة ولاء أهل السنّة لصالحها. بيد أنّ طبيعة النظام في سورية كانت لا تسمح بإقامة علاقات سرية (أمنية) أو ما يطلق عليها حركية مع أهل السنّة في سورية٬ لذلك كانت الاتصالات الرسمية تتم عبر قناة الرئيس السوري فقط.
في تلك الفترة طرحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبادرة رباعية تحت عنوان مبادرة الساعة شملت أربع بلدان (سورية و إيران و العراق و تركية)٬ و تضمّنت التعاون بينها في المجالات الاقتصادية و الأمنية و السياسية و الإقليمية. و جاء طرح هذه المبادرة من خلال استقراء الآفاق الإيجابية للتعاون و الوحدة في المنطقة بعد وصول الإسلاميين في تركية إلى السلطة و سقوط نظام صدام حسين و قيام حكومة شيعية في العراق و كذلك بفضل موقع سورية المتميّز في محور المقاومة. 
1-2-1. التعاون في العراق قائم على البعد الإقليمي للعلاقة بين دمشق و أنقرة
كان للأتراك و السوريين رؤية خاصة لمعارضي الحكومة الشيعية٬ و كانت هذه الرؤية من بين نقاط الخلاف بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية و الحكومة السورية. فتركية كانت تسعى إلى تعزيز دور التيارات السنّية و منع مصادرة ولائهم من قبل السعودية٬ و في الجانب الآخر كانت نظرة سورية إلى سنّة العراق تمرّ عبر قناة حزب البعث. فبعد الإطاحة بنظام صدام حسين٬ جرى إحياء النظرة التاريخية لجناحي حزب البعث في سورية و العراق مرة أخرى٬ و كان السوريون يعتقدون أنّ صدام حسين كان العائق الوحيد دون توحيد الجناحين٬ و بزواله يمكن التقريب بينهما من جديد. 
أتاحت هاتان المقاربتان تبلور تعاون واسع بين البلدين لتتقاطعا عند نقطة المصلحة المشتركة و هي حزب البعث بدون صدام حسين. و قد أفضى ذلك إلى دعم البلدين للتوجّهات المتطرّفة مثل الدولة الإسلامية في العراق و الحملات السلفية و القاعدة٬ و هو ما أدّى إلى تأزّم العلاقات بين نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق و بشار الأسد.

3-1. تأثیر الصحوة الإسلامية على الاستراتيجية التركية إزاء العالم العربي
مع قيام الصحوة الإسلامية في كل من مصر و تونس و ليبيا أعاد الأتراك حساباتهم٬ إذ إنّ نظرتهم قبيل هذه التحولات كانت تقوم على التعاون مع مختلف الحكومات للتخفيف من الضغوط على الإخوان المسلمين و التقارب مع الإسلاميين السنّة من خلال إعادة إحياء الإخوان المسلمين. و أتاحت الصحوة الإسلامية لهم فرصة عظيمة ليمارسوا لعبة كبرى4 و يكون لهم الدور الرئيسي5فيها. ذلك أنّ الإخوان استلموا السلطة في مصر و في سورية أصبحوا المعارضة الصامتة الأقوى نظراً لطول الأزمة. و دفعت هذه التحولات الأتراك إلى الاستنتاج بأنّ التواصل و التعاون مع حكومات المنطقة في الظروف الراهنة لم يعد له أيّ معنى٬ و لا بدّ من التعاطي مع الحلفاء الأصليين أعني الإخوان مباشرة و بدون واسطة و وضع خطة مشتركة للمنطقة. من هنا و في خضمّ الصحوة الإسلامية و الثورات العربية حدثت ثورة أخرى على صعيد علاقات تركية مع البلدان العربية و لا سيّما في شمال أفريقيا و من ثمّ انتقلت عدواها إلى سورية٬ ما أدّى إلى تنكّر الأتراك لكل التوافقات السابقة مع النظام السوري٬ و شرعوا بتبنّي مواقف متشدّدة تجاه الرئيس السوري تتناغم مع موقف الغرب في تنحّي الأسد عن السلطة  (Daniel Dombey, 2011).
4-1. وصول الأخوان للسلطة؛ نهاية غير موفقة بصدمة سلفية
لقد اعتقد الإخوان المسلمون بضرورة أن يكون رأس التنظيم في مصر وأن تمتد أذرعه في كل من سورية و تونس و المغرب ليتمكّنوا من التمدّد على طول المشرق العربي و مغربه. و بالنسبة لتركية فإنّها في ضوء قيام الصحوة الإسلامية و نظراً لتجربة الدولة الإخوانية فيها كانت بصدد قيادة التيار الإخواني و إقامة علاقات استراتيجية إخوانية في المنطقة. و لكن مع سقوط حكم محمد مرسي في مصر أصبح تنظيم الإخوان في المنطقة العربية مرة أخرى بلا رأس٬ و لم يستطع الإخوان أن يفعلوا شيئاً٬ و في تونس اضطرّ الإخوانيون لأن يطأطأوا الرأس لريح الليبرالية و العلمانية، و الإخوان في سورية أيضاً لم يستطيعوا حيلةً فحلّ محلّهم لاعبون آخرون مثل داعش الذي دخل الساحة بقوة شديدة قياساً بالإخوان. و بالنتيجة فإنّ هذه الصدمة المفاجئة وضعت السياسة الإخوانية الكلية لتركية أمام مأزق جدّ خطير. 
وكان سقوط نظام مرسي في مصر بمثابة ضربة قوية للإخوان و لصالح النظام في سورية. و في الحقيقة أنّ نظرة النظام السوري إلى الإخوان شبيهة بنظرة الجمهورية الإسلامية إلى المنافقين {أي أعضاء منظمة مجاهدي خلق الإيرانية}. و بعيداً عن صحة نظرة النظام السوري إلى الإخوان أو عدمها٬ فإنّها أوجدت نوعاً من التقارب غير المكتوب بين بشار الأسد و عبد الفتاح السيسي، ذلك أنّ المؤسسة العسكرية الحاكمة في مصر كانت تسعى من خلال وصم الإخوان المسلمين بالإرهاب إخراج هذا التنظيم من حلبة التيارات السياسية - الاجتماعية.

2. ما بعد الأزمة
كما ذكرنا بعد اندلاع الأزمة في سورية تنصّلت حكومة أنقرة٬ مدفوعةً بتوجهاتها الإخوانية٬ من جميع التوافقات السابقة مع دمشق. فغيّرت استراتيجيتها السورية من محاربة الأكراد في شمال سورية إلى تقديم الدعم و المساندة للعرب و المعارضة العربية. 
1-2. دور تركية في الأزمة السورية؛ من التشكيلات السياسية إلى التشكيلات العسكرية - الأمنية
في بداية الأزمة السورية عمدت تركية إلى استحداث تشكيلات سياسية بالتوازي مع تشكيلات أخرى عسكرية - أمنية. فعلى الصعيد السياسي شكّلت تركية جماعة أعمّ من الإخوان المسلمين تحت مسمّى الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة و الثورة و الذي عُرف بمعارضة اسطنبول و كان الإخوان المسلمون يشكّلون عموده الفقري مع التحاق بعض المكونات الأخرى أيضاً مثل المسيحيين و العلويين و أهل السنّة. وكان الهدف من تشكيل هذا الائتلاف السياسي هو التحضير لبديل سياسي للنظام السوري. و على الصعيد العسكري – الأمني جنّدت تركية الإخوان المسلمين في فصيل أحرار الشام و الذي كان يعدّ أحد أقوى الفصائل العسكرية الفاعلة خلال الأزمة السورية (Bulut Gurpinar,2015). 

2-2. تنظيم الإخوان المسلمين السوري و التيارات السلفية
إذن بفضل الجهود التركية اتّخذ الإخوان المسلمون بعداً سياسياً تمثّل في معارضة أسطنبول و بعداً عسكرياً هو فصيل أحرار الشام. لكنّهم لم يكتفوا بهذه الخطوات التركية٬ فقد عملوا على الانخراط في الكثير من التيارات السلفية الناشطة في الميدان و مارسوا تأثيراً على عملية صنع القرار فيها. في الحقيقة٬ إنّ تنظيم الإخوان السوري هو أقرب إلى التيارات السلفية و المتطرّفة٬ بينما يطغى على تنظيم الإخوان في مصر و تونس و المغرب الطابع السياسي٬ و يحتفظ بمسافة أبعد من السلفيين. انطلاقاً من هذه النقطة٬ فإنّ الإخوان المسلمين بالإضافة إلى دورهم المستقل٬ كانت لهم روابط خاصة مع تنظيم القاعدة و فصيل أحرار الشام. و كانت ارتباطات تركية بداعش تتلخص في شراء النفط منه في مقابل تسهيل حركة أعضائه في المنطقة٬ و ذلك للدور الثانوي للإخوان المسلمين في سورية؛ ففي البداية كان الإخوان يوجّهون أحرار الشام٬ و من ثمّ أقاموا لاحقاً علاقات تعاون مع جميع التيارات السلفية. و من المعلوم أنّ‌امتداد جميع هذه التيارات يعود إلى السلفية السورية و العشائر السلفية السنّية في البلاد حيث كان أعضاء الإخوان المسلمين و تنظيمي القاعدة و داعش من أبناء تلك العشائر السلفية.

3-2. الاستراتيجية الجديدة للأتراك و الغموض حول القضية الأولى للأمن القومي التركي 
أحدثت السياسة التركية الجديدة في سورية إرباكاً كبيراً٬ فطبقاً لاستراتيجيتها الجديدة تخلّت عن القضية الأولى لأمنها القومي أعني الإرهاب الكردي و حزب العمال الكردي PKK و انخرطت في لعبة خطيرة في سورية أحدثت فوضى في عموم هذا البلد. و لا شكّ في أنّ الأكراد وظّفوا تلك الفوضى لتقوية نفوذهم و توسيعه ذلك أنّ قمع النظام السوري لهم و حرمان بعضهم من المواطنة و الجنسية السورية جعل هذه الفوضى فرصة لهم للمضيّ في استراتيجية الاستقلال و الحكم الذاتي. و هنا تبرز نقطة غامضة و هي لماذا أقحم الأتراك أنفسهم في ميدان كانت احتمالات الخسارة فيه قطعية على صعيد القضية الأمنية المتعلقة بالأكراد؟ في حين أنّ المنطق كان يقتضي الوقوف إلى جانب النظام السوري أو٬ على الأقل٬ لعب دور الوسيط و المحافظة على علاقات متوازنة مع الحكومة السورية و لا يكونوا رأس حربة في الهجوم عليها٬ ليضمنوا استمرار التعاون الأمني مع النظام ضدّ الأكراد. 
وردّاً على هذا الالتباس يمكن القول٬ من جهة٬ كانت تركية تخشى استمالة البلدان العربية لأهل السنّة٬ و من جهة ثانية كانت تعتقد في ضوء التقارير الأمنية و الاستخباراتية أنّ سقوط بشار بات أمراً محسوماً نظراً لسقوط النظام المصري على الرغم من حظوته بدعم الغرب و الولايات المتحدة٬ لذلك٬ فمن باب أولى سقوط النظام السوري الذي لم يكن يحظى أصلاً بمثل هذا الدعم الغربي. الملاحظة الأخرى هي أنّ تركية بدعمها و مساندتها للمعارضة كانت تسعى في خضم الأزمة إلى إيصال المعارضة التي ترغب أعني الجناح السوري للإخوان المسلمين إلى السلطة٬ ليتسنّى لها حلّ المسألة الكردية في إطار تعاون أكبر و أوسع بين جناحي الإخوان التركي و السوري.

3. تغیّر استراتيجية تركية في سورية؛ العودة إلى القضية الأولى في الأمن القومي
مع مرور الوقت٬ اتّضحت الأبعاد الأمنية للمسألة الكردية أكثر فأكثر لتركية و طبعاً لسورية أيضاً مقارنةً بفترة ما قبل نشوب الأزمة. فقد حقّق الأكراد طيلة الأزمة تقدّماً كبيراً و كانوا على أعتاب تشكيل ثاني كيان حكم ذاتي لهم بعد إقليم كردستان العراق. في تلك اللحظة أدرك المسؤولون الأتراك أنّه إذا تسنّى للأكراد في السنوات القادمة التمتّع بوضع مستقل أو حكم ذاتي في بلد آخر٬ فإنّ البلد التالي سيكون تركية بلا شك (تسنیم، 1395). 
وعلى الصعيد العسكري أدّى تشكيل تحالف عسكري قوي بين إيران و روسية إلى انتفاء فكرة إسقاط النظام في سورية٬ و بدأ الأتراك يشعرون بخيبة أمل أكثر من ذي قبل لفشلهم في الاستيلاء على سورية و كذلك ضياع كردستان من أيديهم. و كانت هذه المسألة من بين الاختلافات التي ظهرت بين أردوغان و داوود أحمد أوغلو٬ فكان الأخير يعتقد أنّ تركية قد عرّضت أمنها القومي للخطر و خلقت أجواء من التوتّر مع جيرانها خلال الأزمة السورية٬ و لم تجنِ من كل ذلك سوى صناعة الأعداء. و على أيّ حال٬ هنا انتبه الأتراك إلى خطأهم٬ و راحوا يفتّشون عن طريقة لتصحيحه٬ فكانوا أمام خيارين اثنين:
إعادة العلاقات مع النظام السوري و التنسيق معه لاتخاذ ما يلزم ضدّ الأكراد.
استمرار الضغوط لإسقاط النظام السوري و دعم المعارضة الموجودة من جهة٬ و إعادة الاستراتيجية و السياسة الأصلية إلى الموضوع الأول للأمن القومي التركي٬ أعني الأكراد.
لم يكن الخيار الأول مناسباً استراتيجياً بالنسبة لأردوغان و حزب العدالة و التنمية و ذلك٬ أولاً٬ وجوب التخلّي عن حلفائهم العقائديين الإخوان المسلمين و أهل السنّة٬ و في هذه الحالة تكون تركيا في أنظار الرأي العام السنّي هي الخاسر على الصعيد الاستراتيجي. ثانیاً٬ لم يكن الرئيس السوري ليقبل أن تعيد أنقرة علاقاتها مع دمشق بهذه السهولة و دون أيّ تكلفة. و في ضوء هذه الأمور لجأت تركية إلى الخيار الثاني و جعلت من الموضوع الكردي أولوية قصوى و سياسة أولى للحكومة التركية، طبعاً دون أن يتخلّى المسؤولون الأتراك نهائياً عن فكرة الإطاحة بالنظام السوري.

1-3. إسقاط الطائرة الروسية٬ نقطة التحوّل
في استراتيجيتها الجديدة و في إطار مواصلة دعمها للمعارضة أعادت تركية تدريجياً المسألة الكردية إلى صدر أولوياتها فأدّى إلى تعارض هذا الدعم مع دعم إيران و روسية لمحور المقاومة و النظام السوري٬ و بالتوازي مع ذلك تصاعد مستوى التوتّر السياسي بين روسية و تركية٬ حتى تحوّل شيئاً فشيئاً إلى توتّر في أرض الميدان بلغ ذروته عندما أقدم الأتراك على إسقاط مقاتلة روسية بحجة دخولها المجال الجوي التركي  (Dion Nissenbaum, 2015)، بينما كانت المقاتلة في مهمة قتالية ضدّ فصائل المعارضة. نتج عن هذه الخطوة التركية قطع مؤقت للعلاقات من قبل روسية٬ و أصبحت العلاقات الدبلوماسية بينهما في أدنى مستوى٬ كما أتبعت روسية ذلك بإجراءات اقتصادية قاسية و عقوبات و أغلقت أسواقها الحدودية بوجه تركية و صفّرت واردتها من السلع التركية. 
كان هدف الروس من هذه الخطوات ممارسة الضغط على تركية للاعتذار٬ و هو ما استنكف عنه المسؤولون الأتراك في بداية الأمر٬ غير أنّ روسية تركت الباب مفتوحاً أمام تركية للقيام بخطوة الاعتذار٬ حتى التقى أردوغان ببوتين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة و كان هذا اللقاء بمثابة نوع من الاعتذار. و قد أُعلن عن هذا اللقاء مقروناً باعتذار تركي لروسية (Jack Stubbs, 2016). لم ينفِ المسؤولون الأتراك هذا الموضوع عندما صرّح جاووش أوغلو وزير خارجية تركية خلال إحدى المقابلات الصحفية آنذاك بأنّ إسقاط المقاتلة الروسية كانت نتيجة خطأ. بعد ذلك اللقاء عادت العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها.

2-3. ترکیة و مبادرة مناطق خفض التصعيد و مسار آستانه
ثمّة ملاحظة تستدعي الوقوف و هي أنّ روسية بإعادتها العلاقات مع تركية كانت تنفّذ برنامجاً معدّ مسبقاً٬ و وفقاً لهذا البرنامج و قبل إعادة العلاقات هيّأت العناصر الضرورية في الميدان السوري و في هذا الإطار قدّمت مبادرة بعنوان مناطق خفض التصعيد و تمّ تطبيقه بالفعل. بعد تحرير مدينة حلب٬ توصّل الروس إلى هذه النتيجة و هي أنّ القتال في كل أنحاء سورية أمر صعب و بالغ التكاليف٬ من ناحية أخرى كانت الضغوط و التوجس الدولي إزاء التدخل العسكري الروسي في سورية في تزايد مستمر٬ و لم يكن بمقدورهم تحمّل الضغوط الدولية بالإضافة إلى ضغط الميدان٬ لذلك اقترحوا أربع مناطق لخفض التصعيد في سورية. و جاءت هذه المبادرة لتعطي سورية و قوى المقاومة و روسية فرصة أكبر لمطاردة داعش بحرية و التفرّغ لمقاتلة هذا التنظيم و لكي يؤمّنوا ظهورهم في مناطق التصعيد  (warsawinstitute, 2018). من جانب آخر٬ أحرز النظام نجاحات متتالية في استعادة معظم المناطق المنتزعة في حلب و بادية الشام و تحرير دير الزور و كذلك الوصول إلى أجزاء واسعة في جنوب البلاد و ذلك بعد أن استُنزفِت فصائل المعارضة المسلحة في الميدان و وصلت قدراتها إلى أدنى مستوى٬ و بذلك ترسّخت أركان النظام السوري و سقطت احتمالات الإطاحة به. و من واقع هزائمها بعد التحولات الميدانية٬ أبدت تركية اهتماماً بالمبادرة الروسية بشأن مناطق خفض التصعيد بعد أن ضمنت بعض الامتيازات الخاصة لأنقرة٬ و بالفعل تمّ تفعيل أربع مناطق لخفض التصعيد في سورية.
في بادئ الأمر لم يكن لدى الحكومة السورية و إلى حدّ ما محور المقاومة تصوّر واضح عن مبادرة مناطق خفض التصعيد و لذلك كانت تساورهم شكوك حول النوايا الحقيقية للروس من طرح هذه المبادرة٬ و كذلك كانوا قلقين من أن تؤدّي هذه السياسة إلى تقسيم سورية٬ لا سيّما و أنّ منطقتين من هذه المناطق تقعان في شمال سورية و جنوبها و على مقربة من دول أجنبية. لذا و كنتيجة لهذا القلق٬ تعاطى محور المقاومة بالحيطة و الحذر مع المبادرة٬ و لكن مع ذلك استطاع النظام و القوات الحليفة إنهاء سيطرة داعش على الأراضي السورية في أواخر عام 2017 م ٬ طبعاً ما تزال بعض خلايا التنظيم ناشطة في بعض المناطق في العراق و سورية.
وبموازاة تحسين العلاقات مع روسية٬ دخل الدور التركي في سورية مرحلة جديدة٬ ففي الوقت الذي كانت تواصل دعمها للمعارضة٬ دخلت في العملية السياسية إلى جانب كل من الجمهورية الإسلامية و روسية. و كان من نتائج مسار آستانة أن اعتزلت تركية المنهزمين في أرض الميدان ممّن فشلوا في الإطاحة بنظام بشار الأسد٬ لتنضمّ إلى ركب المنتصرين أعني إيران و روسية٬ و كانت هذه الورقة الرابحة الكبرى و الخاصة التي منحها الروس لتركية. 
وفي تحليلنا لمسار آستانه لا بدّ من القول أنّ روسية كانت بحاجة لحضور تركية فهي كانت اللاعب الرئيسي من بين أعداء النظام السوري٬ و ابتعادها عن المحور المعادي للنظام السوري و لرئيسه٬ سيعني انتفاء موضوع الإطاحة ببشار الأسد. من هنا نقول بصواب المبادرة الروسية التي استطاعت أن تنتزع تركية من المحور الغربي – العربي٬ و لكن على الرغم من أنّ مسار آستانه كان ثلاثي الأبعاد٬ إلّا أنّ روسية و تركية انفردتا بتوقيع توافقات ثنائية بمعزل عن إيران٬ مثل اتفاق شرق الفرات و إدلب. و هذا يعني حظوة البلدين بنصيب أكبر من كعكة المنتصرين. طبعاً تفسير الجمهورية الإسلامية لهذا هو أنّ حصّتها متضمَّنة في حصة الحكومة السورية٬ لذلك فانتصار النظام في سورية و خلاص الدولة السورية يعدّ في الحقيقة انتصاراً لإيران أيضاً. 
وبالتزامن مع تعاونها مع إيران و روسية في آستانه٬ كانت تركية تواصل دعمها للمعارضة في إدلب. و قد اتّخذ حضور الأتراك في هذه المرحلة بعداً ثالثاً ألا و هو التعاطي المستقل مع المسألة الكردية٬ من خلال القيام بعمليات عسكرية في المناطق الشمالية و الشمالية الشرقية من سورية و بالتحديد في منطقة الباب و شرق الفرات. فقد استطاعت تركية أن تزرع جزءاً من المعارضة و الجيش الحر في منطقة الباب٬ و على هذا النحو فصلت الجزء الغربي من المنطقة الكردية عن جزئها الشرقي في شمال سورية، فطردت الأكراد من كانتون عفرين و بسطت سيطرة المعارضة على شمال سورية. 
إنّ خطأ تركية في تجاهل المسألة الكردية في بداية الأزمة شكّل تهديداً جدياً لها٬ بحيث أتاح لكردستان سورية أن تتجه صوب حالة هي أشبه بالحكم الذاتي و الاستقلال٬ و إرساء أسس هذا الحكم. فما بعد الأزمة بالنسبة لأكراد سورية ليس كما قبلها أبداً٬ فهم على الصعيد العسكري – الأمني و على الصعيد السياسي سيحافظون على تشكيلاتهم شبه المستقلة في سورية٬ و سيكون هذا بمثابة سيف دموقليس مسلطاً على رؤوس الأتراك و الذي حتماً سيصيبهم بالأذى مستقبلاً.

3-3. المسألة الكردية و تحدٍّ اسمه الولايات المتحدة
إنّ حضور تركية في محادثات آستانه٬ و استمرار دعمها للمعارضة و كذلك تدخلها في الشمال و الشمال الشرقي لسورية أدّى مرة أخرى إلى تحوّلها من خاسر ميداني إلى لاعب فاعل في الميدان؛ طبعاً هذه المرة تصدّر أولوياتها الموضوع الكردي و الأمن القومي التركي. و في نفس الوقت كانت عين الأتراك ما تزال على إطاحة بشار الأسد على المدى الطويل. ففي هذه المرحلة الجديدة و ضمن مواجهتها للمسألة الكردية كانت تركية تتعرّض لتحدٍّ خطير من قبل الولايات المتحدة التي وضعت في حسبانها دعم الأكراد فراحت تنفق عليهم الكثير أملاً في تحقيق أهداف سياسية – أمنية في المنطقة. و قد مرّ علينا أنّ تركية في محادثات آستانه كانت تنسق مع روسية و إيران٬ و في نفس الوقت كانت تواكب المحور الغربي – العربي في دعمه للمعارضة٬ غير أنّها في سياساتها تجاه الأكراد كانت تتعارض مع جميع الأطراف. و لم يُثنِ هذا التعارض أردوغان عن التراجع عن هذه السياسة٬ على الرغم من أنّه لم يحظَ لا بدعم الروس و لا الأمريكان في هذا المجال٬ و مع ذلك ظلّ مواظباً على قمع الأكراد حتى استطاع في نهاية المطاف من فرض رؤيته على الطرفين المذكورين (Ben Hubbard, 2019). فضغوط الرئيس التركي هي التي دفعت الأمريكان إلى التخلّي عن دعمهم للأكراد و بالتالي تقدّم القوات التركية في مناطق سيطرة الأكراد. و لكن مع انسحاب الأكراد من هذه المناطق٬ فُتح الطريق للروس صوب منطقة شرق الفرات لتتحوّل روسية إلى لاعب فاعل في الساحة الكردية. 

4. الحملة العسكرية التركية في شمال شرق سورية

لطالما حذّرت تركية في السنتين الماضيتين من التهديد الذي يمثّله حضور إرهابيي PKK/6YPG في شمال سورية و ما يترتّب على هذا الحضور من عدم استقرار في المنطقة٬ و أعلنت أنّ الحل الوحيد هو القيام بحملة عسكرية في الأراضي السورية و تطهير المنطقة و إقامة شريط آمن. و حجة الأتراك كانت عجز الدولة السورية عن إرسال الجيش إلى الحدود الشمالية و تسلل عدم الاستقرار إلى الأراضي التركية؛ و لذلك فإنّ تركية حذّرت الولايات المتحدة مراراً من تواجدها العسكري في شرق الفرات و علاقتها بأكراد سورية٬ و طالبت البيت الأبيض التخلّي عن مسار العمليات العسكرية.
وبالفعل أخذت الولايات المتحدة التحذيرات التركية بشأن العمليات العسكرية على محمل الجدّ و لذلك توصلت إلى اتفاق عام مع الأتراك حول تسيير دوريات مشتركة على الحدود في الشمال الشرقي لسورية٬ و تقرّر أن يكون مركز العمليات المشتركة بين الجيشين التركي و الأمريكي في مدينة شانلي أورفاي الحدودية التركية. طبعاً المسؤولون الأتراك كانوا قد أعلنوا أنّ مفاد هذا الاتفاق غير كافٍ و أنّهم قدرضخوا له نتيجة لضغوط الأمريكان كبديل للحملة العسكرية. على هذا الأساس و على الرغم من عدم اقتناع تركية بالاتفاق و أنّه غير كافٍ بحسب رأيها٬ فإنّ الولايات المتحدة هي الأخرى لم تكن جادة أيضاً في تطبيقه٬ و كانت تماطل في التعاون مع تركية في تطهير الحدود من مفارز  PKK/ YPG. و بناءً عليه أعلنت تركية بدء العمليات العسكرية في منطقة شرق الفرات. و النقطة التي تحوز على الأهمية هنا هي استغلال حكومة أردوغان أقصى استغلال لعدم رغبة ترامب في استمرار حضور القوات العسكرية الأمريكية في سورية و خاصة في شرق الفرات. في الحقيقة أنّ ترامب كان قد أعلن في السابق عن رغبته سحب القوات الأمريكية من شرق الفرات فبعد أن وجد ارتفاع تكلفة دعم الأ كراد٬ توصّل إلى ضرورة تفعيل مبادرته الخاصة بسحب قواته٬ و أن لا يتورّط أكثر من هذا في الصراع بين الأتراك و الأكراد. هذا في حين أنّ المؤسسة السياسية – الأمنية في الولايات المتحدة وقيادات كل من الحزبين الجمهوري و الديمقراطي يؤكّدون جميعاً على وجوب استمرار دعم أكراد سورية بوصفهم حلفاء للولايات المتحدة التي ظلّت تنفق عليهم لسنوات عديدة؛ غير أنّ ترامب في قراره كان مصمّماً على إعطاء أردوغان الضوء الأخضر لبدء الحملة العسكرية. و ههنا تبرز نقطة أخرى و هي أنّ من التحديات الخطيرة أمام الإدارة الأمريكية كان تقارب تركية وهي العضو في حلف النيتو من روسية. و في الحقيقة أنّ‌ترامب آثر الوقوف إلى جانب الأتراك على دعمه للأكراد بعد أن أخذ التحدّي المذكور بعين الاعتبار. 
على أيّ حال٬ شنّت تركية حملة عسكرية على منطقتي رأس العين و تل‌أبيض في شمال سورية٬ و أقامت منطقة آمنة بحدود 100كم × 30 كم٬ و استطاعت هذه الحملة أن تحقّق هدفها الرئيسي بعد عدّة أيام. طبعاً الأتراك استغلّوا قوات المعارضة السورية على الأرض٬ ليقلّلوا من حدّة الاتهامات الموجّهة إليهم بسبب احتلالهم للأرض السورية٬ و من ناحية أخرى مهّدوا لحضور قوات المعارضة في شرق الفرات (كمواضع جديدة لاستقرار المعارضة بالإضافة إلى تواجدها في أدلب و شمال محافظة حلب). و في هذه المسألة لا بدّ من الأخذ بالاعتبار نوايا تركية في إحداث تغيير ديموغرافي في شمال شرق سورية من ناحية و إيصال المعارضة إلى قاعدة جديدة لتشكّل تهديداً للحكومة المركزية السورية من ناحية ثانية. ناهيك عن أنّ تركية بهذه الخطوة عملت على خفض حجم الدعم العسكري الأمريكي للأكراد٬ و في المقابل رفعت من قدراتها الاستخباراتية – الأمنية في شرق الفرات٬ و هيّأت الظروف لإسكان النازحين السوريين الموجودين على الأراضي السورية٬ طبعاً تركية لم تنجح عملياً في هذا الأمر بشكل تام.

1-4. رد فعل المؤسسة العسكرية – الأمنية الأمريكية
لقد عارضت المؤسسة العسكرية – الأمنية في الولايات المتحدة قرار ترامب الشخصي تجاه الأكراد و شرق الفرات٬ حتى أنّ السناتور المقرّب من ترامب ليندسي غراهام وجّه انتقاداً لسياسة الرئيس الأمريكي. و مع تزايد الضغوط الداخلية على ترامب٬ اضطر أخيراً إلى توجيه تحذير لأنقرة٬ و كان في السابق قد حدّد لها خطوطاً حمر (الامتناع عن ارتكاب مجازر واسعة و عدم استخدام الجيش للمدفعية بشكل عشوائي) للبدء بأيّ عمليات مسلحة٬ و قد التزم الجيش التركي بهذه الخطوط الحمر٬ ثم أردف ترامب هذا التحذير مباشرة بفرض عقوبات على ثلاثة وزراء أتراك (وزير الدفاع٬ وزير الداخلية٬ وزير الطاقة) و وزارتين (الدفاع و الطاقة). إنّ هذه الإجراءات جاءت نتيجة لضغوط المؤسسة العسكرية – الأمنية في الولايات المتحدة على ترامب التي قامت بتصحيح سياسة الضوء الأخضر التي اتبعها مع الأتراك. و كان من نتائج هذه الإجراءات أن أذعنت تركية لاتفاق وقف إطلاق النار المشروط و جرى التوقيع عليها خلال زيارة قام بها نائب الرئيس الأمريكي إلى تركية. و بناءً على هذا الاتفاق تمّ رفع العقوبات و استقرّت تركية في المناطق المحتلة  (Aljazeera, 2019)، و عليه كانت٬ إلى حدّ كبير٬ الرابح في هذه اللعبة.

2-4.  روسية و الحملة العسكرية التركية على شرق الفرات
ما كانت العمليات العسكرية التركية في شمال شرق الفرات أن تتمّ لولا الضوء الأخضر الروسي٬ فالروس باتّخاذهم مواقف غامضة و كلية لم يضعوا عملياً أيّ عوائق في طريق الحملة التركية تلك. من ناحية أخرى٬ استطاعت روسية التوسّط بين سورية و الأكراد مستغلّة خشية الأكراد من عدم توفير الولايات المتحدة غطاء لهم٬ و أسفرت هذه الوساطة عن اتفاق مع الأكراد يسمح بدخول جيش النظام السوري إلى عدّة نقاط في شرق الفرات و منبج (غرب الفرات)٬ و بذلك تمكّن النظام السوري من العودة إلى شرق الفرات بعد مضيّ 5 سنوات. طبعاً لا ينبغي المبالغة في التفاؤل بهذا الاتفاق مع الأكراد٬ لأنّ النظام لم يستعيد حاكميته على شرق الفرات و إنّما هو مجرّد تواجد عسكري٬ و لكن مع ذلك فهو كموطئ قدم للنظام في شرق الفرات يُحيي الآمال باستعادة سيادة الدولة السورية في تلك المنطقة في المستقبل. 
3-4. محور المقاومة و الحملة العسكرية التركية على شرق الفرات
بعد تجربة الاتفاق الثنائي بين روسية و تركية (بغياب إيران) حول أدلب٬ كرّر الطرفان تلك التجربة في اتفاق ثانٍ بشأن منطقة شرق الفرات (Fahim, 2019) في حين أنّ‌التوافق السابق كان ينصّ على وجوب أن تتم جميع الاتفاقات عبر مسار آستانه. طبعاً لو استطاعت إيران و محور المقاومة أن يدخلا بنحوٍ ما كشركاء في التفاهم الروسي التركي حول شرق الفرات٬ سيكون بمقدورهما تحقيق مكاسب و الوصول إلى شرق الفرات أملاً في بسط الدولة السورية سيادتها من جديد على المنطقة. 
وفي هذه الظروف فإنّ من أهم الإنجازات بالنسبة لسورية و محور المقاومة ترقّب خروج الأمريكان من شرق الفرات. طبعاً ما يزال الأمريكان ينادون بفصل المناطق الشمالية لشرق الفرات عن جنوبها٬ و يبدو أنّ المؤسسة العسكرية – الأمنية الأمريكية تقوم بإدارة قرار ترامب٬ و على هذا الأساس تواصل الولايات المتحدة الإصرار على الاحتفاظ بمناطق جنوب شرق الفرات و منع وصول الجيش السوري و بسط الدولة السورية سيادتها عليها٬ الأمر الذي يفسّر قصفها لتحرّكات الجيش في هذه المنطقة. و يعود السبب في ذلك إلى معارضة أمريكا لإحياء مصادر الطاقة السورية في المنطقة ٬ و التي يمكن في حالة استعادة الدولة السيطرة عليها أن تخفّف العبء المالي و الاقتصادي عن كاهلها (لا سيّما في مجال تأمين حاجة الشعب السوري من المحروقات) و هو ما يتعارض مع سياسات الولايات المتحدة و الغرب في زيادة الضغط على نظام بشار الأسد.
5. النهاية
استطاعت تركية في الوقت الراهن أن تنقذ نفسها من الأزمة السورية٬ و أن تسجّل حضوراً في ثلاثة مجالات من الأزمة٬ و تمارس دوراً فعالاً٬ ففي مسار آستانه٬ شاركت في النقاشات الخاصة بالدستور السوري إلى جانب روسية و إيران. و في المجال الثاني٬ واصلت دعمها للمعارضة السورية٬ بل إنّها زادت هذا الدعم في بعض الميادين٬ و أخيراً في المجال الثالث و هو الموضوع الكردي الذي عاد ليشكّل القضية الأولى في موضوع الأمن القومي لتركية٬ و استطاعت أن تحرز مكاسب و إن في حدودها الدنيا في منطقة شرق الفرات.


(الحاشية)
1- Adalet ve Kalkınma Partisi
2- Partiya Karkerên Kurdistanê
3- Partiya Yekîtiya Demokrat
4- Big Play
5- Mega Roll
6- Yekîneyên Parastina Gel
المصادر:
الفارسية:
-تسنیم (1395)، مقالة (نقش نوین ترکیه پسا کودتا در بحران سوریه)، متاح على:
https://www.tasnimnews.com/fa/news/1395/06/16/1179472
-کرد پرس (1397)، مقالة (توافقنامه 1998 آدانا و  خطر آن برای دستاوردهای کردهای سوریه)، متاح على:
https://kurdpress.com/details.aspx?id=60153

الأجنبية:
-Aljazeera(2019), Trump lifts US sanctions on Turkey, says ceasefire permanent:
https://www.aljazeera.com/news/2019/10/trump-announces-turkey-sanctions-lifted-191023150745100.html
-Daniel Dombey(2011), Erdogan calls on Assad to resign, Financial Times:
https://www.ft.com/content/0ae3fd76-1500-11e1-a2a6-00144feabdc0
-Gurpinar, Bulut(2015), Turkey and the Muslim Brotherhood: Crossing Roads in Syria:
https://www.researchgate.net/publication/284204207_Turkey_and_the_Muslim_Brotherhood_Crossing_Roads_in_Syria
-Fahim, Karim(2019), Russia and Turkey reach deal to push Kurdish forces out of zone in northern Syria, Washington Post:
https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/turkeys-erdogan-meets-with-putin-in-russia-to-discuss-syrian-operation/2019/10/22/764abcea-f43f-11e9-b2d2-1f37c9d82dbb_story.html
-Stubbs, Jack(2016), Kremlin says Turkey apologized for shooting down Russian jet, Reuters:
https://www.reuters.com/article/us-russia-turkey-jet/kremlin-says-turkey-apologized-for-shooting-down-russian-jet-idUSKCN0ZD1PR
-Nissenbaum, Dion(2015), Turkey Shoots Down Russian Military Jet, Wall Street Journal:
https://www.wsj.com/articles/turkey-shoots-down-jet-near-syria-border-1448356509
-Warsaw institute(2018), Russian Treason in Syria. Deadly Effective Strategy:
https://warsawinstitute.org/de-escalation-zones-russian-treason-syria-deadly-effective-strategy/


قراءة: 539