فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

حلقة حوارية تخصصية السياسة الخارجية لبايدن؛ هل تتغير؟ (الجزءالأول)

الدكتور رضاداد درويش
سكرتير الشؤون الدولية

لمحة
يمكن فهم و تحليل السلوك الاستراتييجي للبلدان على الصعيد الدولي في ضوء عناصر القوة الوطنية٬ و المحددات٬ و التحديات و القدرات و الإمكانات و ذهنية صانع القرار و رؤيته لهذه المفاهيم و إرادته في توظيفها.
مع مجيء إدارة جديدة يتواصل باراديغم و مسار السياسة الخارجية في البلدان لاسيّما القوى العظمى في أجواء من «الاستمرارية» و «التغيير». نموذج السلوك الاستراتيجي للحكومات يتبلور و يتعملن ضمن عملية تراكب العناصر و أدوات السياسة الخارجية.
ويشير النموذج السلوكي للإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقود الماضية إلى تواصل البنية المتشكّلة من الممكنات و المحذورات و الإمكانات المنبثقة عن التوفيق بين مقومات القدرة و الأدوات و إدراك المسؤولين في إطار من الاستمرارية و التغيير. فبوش الإبن كانت تدور في خلده فكرة الإمبراطورية٬ و أوباما كان يسعى إلى الهيمنة٬ و ترامب إلى التميّز و بايدن يحلم باستعادة زعامة أمريكا في العالم. إنّه مسار متواصل نسبياً مع التغييرات المتكيّفة مع الظروف و المقتضيات٬ و مع مجيء ترامب رجح باراديغم التغيير على الاستمرارية. طبعاً دون أن يعني ذلك تحولاً استراتيجياً (Strategic Shift) في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
الآن٬ و بعد انتخابات مثيرة للجدل و مطعون في مشروعيّتها على الصعيد الداخلي و الدولي٬ من المقرّر أن يستلم بايدن دفّة الحكم في البيت الأبيض بوصفه الرئيس السادس و الأربعين للولايات المتحدة. فيما يعكف الكثير من أهل الخبرة و الاختصاص و محلّلي قضايا السياسة الخارجية الأمريكية في داخل الولايات المتحدة و خارجها على فكّ رموز السياسة الخاريجية الأمريكية في عهد بايدن.
السؤال الرئيسي المطروح هنا هو: ما هي الأسس و المحاور التي ستبنى عليها السياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة؟ و أيّ شكل سوف يتّخذه النموذج السلوكي لأمريكا بايدن؟ للحصول على أجوبة هذه الأسئلة هناك مجموعة من الأسئلة الفرعية ستطرح خلال وقائع الندوة التخصصية «السياسة الخارجية لبايدن؛ هل تتغير؟» و ستتمّ الإجابة عنها.
فصلية "طهران" لدراسات السياسة الخارجية و من خلال عقد هذه الندوة التخصصية التي شارك فيها نخبة من المختصّين و الباحثين في مجال السياسة الخارجية الأمريكية تسعى إلى تحليل و فك الرموز الاستراتيجية عن نموذج السياسة الخارجية لبايدن على ضوء آرائه و مواقفه و بياناته و كذلك آراء مستشاريه.
وقد شارك في هذه الندوة السادة: الدكتور محمود یزدان فام باحث استراتيجي في الشؤون الأمريكية٬ و الدكتور بهزاد أحمدي باحث في الشؤون الأوروبية٬ و الدكتور عيسى كاملي باحث في القضايا الأمريكية٬ و الدكتور رضا داد درويش سكرتير الشؤون الدولية في مجلة "طهران" لدراسات السياسات الخارجية. الشكر الجزيل للأساتذة الكرام على مشاركتهم و جهودهم٬ و ندعو القارئ الكريم إلى قراءة الجزء الأول ما دار في هذه الندوة.  

 

 

 

الفصلية: تدور ندوتنا حول عدّة أسئلة هي:
- هل يمكن أن نعتبر رئاسة ترامب في الولايات المتحدة كتغيير استراتيجي في السياسة الخارجية الأمريكية؟ و بالتالي سياسة إدارة بايدن عودة استراتيجية في هذا المجال؟
- ما هي العناصر الاستراتيجية الدالة على تباين السياسة الخارجية لكل من ترامب و بايدن؟
- ما هي الأولويات و القيود و التحديات في السياسة الخارجية لبايدن؟
- ما هي مقاربة بايدن و خياراته لتجاوز هذه القيود و التحديات؟
- كيف نحلّل مستقبل العلاقات الأمريكية مع كل من الصين و روسيا و أوروبا و الشرق الأوسط؟
- ما هي التباينات الاستراتيجية أو السياسة الخارجية لبايدن مقارنةً بكل من أوباما و ترامب على الصعيد الدولي؟ 
بمقدور الأساتذة الكرام أن يبدأوا بحثهم٬ دكتور أحمدي تفضّل. 
الدکتور بهزاد أحمدي: بسم الله الرحمن الرحیم، أشكركم على الاستضافة و يسرّني أن أكون بين زملائي من الخبراء و المختصّين المخضرمين في الشؤون الأمريكية٬ طبعاً لا أعتبر نفسي خبيراً في الشؤون الأمريكية٬ و لكن سأحاول أن‌أحلّل قضايا الولايات المتحدة من زاوية أوروبا و كذلك إيران. و على أيّ حال٬ فإنّها فرصة لتوضيح بعض النقاط٬ و التي أرجو أن تكون مفيدة. جواباً على سؤالكم أودّ أن أطرح بعض الملاحظات للشروع بالنقاش و مواصلته. في مجال السياسة الخارجية أو لنقل إلى حدّ ما السياسة الخارجية و الأمنية لبايدن برأيي يجب قبل كل شيء أن نأخذ ثلاثة متغيّرات بنظر الاعتبار؛ الأول٬ إنّ‌الأوضاع في الولايات المتحدة على نحوٍ بحيث أنّ السياسة الخارجية و السياسة الداخلية لهذا البلد ليس بالضرورة يحدّدها شخص رئيس الجمهورية أو الحزبان الرئيسيان و إنّما التحولات البنيوية طويلة الأمد الجارية فيما يتعلّق بالأفعال و ردود الأفعال إزاء القضايا المحيطة في العالم هي التي تؤثّر على تحديد السياسة الخارجية لأمريكا. المتغير الثاني هو التحولات الداخلية الأمريكية. إذا أردنا أن نناقش الموضوع انطلاقاً من الواقعية الجديدة التقليدية٬ فإنّ السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية٬ حتى إذا سلّمنا بأنّ التوافق الوطني يساعد على أيّ حال السياسة الخارجية. في الوقت الحاضر يشهد المجتمع الأمريكي أجواء استقطاب حادّة. هناك ثنائية قطبية خطيرة في مختلف الميادين منها: وسائل الإعلام٬ زحف اليمين المتطرّف٬ اللامساواة المتزايدة الاجتماعية و الاقتصادية٬ و خلاصة الكلام٬ إنّنا نشهد اليوم انحساراً في التوافق الوطني في الولايات المتحدة. باعتقادي أنّ هذا الوضع السياسي يوجّه ضربة للسياسة الخارجية الأمريكية الفعالة في منطقتنا و في العالم أيضاً و يقوّضها. العامل الثالث هو المناخ الدولي الذي يشهد صراعات حادّة و عنيفة أكثر من أيّ وقت مضى. صراعات قد لا تكون بالضرورة ضمن نطاق سيطرة الحكومات، و من ناحية أخرى فإنّ دور المنظمات الدولية قد انحسر كثيراً و تعزّز في المقابل دور اللاعبين المحليين في تلك الصراعات. على أيّ حال٬ فإنّ هذه العوامل قدفرضت نفسها على السياسة الخارجية الأمريكية في النظام الدولي. لوتأمّلتم جيداً ستلاحظون أنّ قسماً كبيراً من هذه الصراعات و بسبب الدور القديم للولايات المتحدة في هذه القضايا٬ يشكّل ضغطاً متزايداً عليها لجهة تحمّلها المسؤولية و قيادة العالم. هذا مع العلم لم تعد الولايات المتحدة تملك نفس المنابع و الثروات التي كانت تملكها في الماضي. العامل الآخر الذي يمكن أن نضيفه إلى هذه القائمة التغيرات البنيوية الاقتصادية في الولايات المتحدة و الذي قد يكون مرتبطاً بالعامل الثاني أو مكملاً له. من هذه الزاوية فإنّ العالم يعيش مساراً ألكترونيكياً٬ بل و يشهد تحولاً في الاقتصاد العالمي. بمعنى إذا كنّا قد غيّرنا في عام 1971 نظام برتون وودز و شكّلنا النظام المالي العالمي٬ فإنّنا في الوقت الراهن نشهد تحوّلاً من الرأسمالية المالية نحو داتا الرأسمال أو رأسمالية الداتا. ولهذا نشهد تعاظم القدرة التي تتمتّع بها تويتر و فيس‌بوك و سائر وسائل التواصل الاجتماعي لدرجة أنّها تسمح لنفسها بطرد رئيس الولايات المتحدة من شبكاتها و إلى الأبد. و هذا يعني أنّ الحكومة قد تعرّضت لنوع من التغيير بفضل التحولات البنيوية و لا سيّما الاقتصادية منها. و باعتقادي أنّ هذه التحولات البنيوية تعني أنّ‌الولايات المتحدة بدأت تركّز بشكل أكبر على موضوع الخدمات و التكنولوجيا المتقدمة٬ و لم تعد تهتم بمسألة الإنتاج الوفيرن٬ فقد خرجت من هذه المرحلة. لهذا السبب فإنّ الحزام الإنتاجي للولايات و المؤلّف من ولايات أوهايو و بنسلفانيا و ميشيغان قد تعرّض لتناقضات خطيرة. و عليه فإنّ هذا التغيير البنيوي في الاقتصاد يمكن أن يتسبّب بتحولات اجتماعية عظيمة. طرحت هذه المتغيّرات أو العوامل الأربعة لتكوّن الفرضيات التي سوف استند إليها في تكملة هذا النقاش. و سوف استخرج منها عدد من الاستنتاجات العامة حول طبيعة السياسة الخارجية لبايدن. 
الفصلية: طبعاً في إطار السؤال حول التباينات المحتملة في سياسة كل من ترامب و بايدن؟
د. بهزاد أحمدي: بالضبط هكذا سيكون. طبعاً سياسة ترامب أيضاً كانت متأثّرة بهذه المتغيّرات و العوامل٬ و لكن من حيث أنّ فريق بايدن إلى حدّ ما أكثر تعقّلاً من فريق ترامب٬ فإنّ تأثير هذه المتغيّرات على السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بايدن سيكون أكبر. لهذا السبب فإنّ من أولى مهام إدارة بايدن هي السياسة الداخلية قبل أن‌تكون السياسة الخارجية. و أوّل تفاوت يمكن تسجيله بين السياستين هو إيلاء الأولوية للسياسة الداخلية في عهد بايدن٬ فسوف يركّز جهوده على قضايا داخلية مثل جائحة كورونا و الموضوع الاقتصادي و التمييز الاجتماعي. و هذا يعني أنّ بايدن لن‌يسعى وراء المشاريع الكبرى في السياسة الخارجية أو إشعال التوترات الخطيرة أو الأوضاع التي يمكن أن تثير الأزمات. أضف إلى ذلك فإنّ علاقاته بسائر بلدان العالم ستكون أكثر منطقية و قابلة للتنبؤ بالمقارنة مع ترامب. على الأقل لن‌يفعل كما فعل ترامب بخروجه من الاتفاقيات و المعاهدات و الضغط على حلفاء الولايات المتحدة للحصول على امتيازات عاجلة و مؤقتة. بناءً على ذلك يمكن القول بأنّ عودة العقلانية إلى العلاقات مع الدول في عهد بايدن سوف تشمل إيران أيضاً. أعني أنّ سياسة بايدن إزاء إيران سوف تتبع منطقاً محدّداً. كما ستنشط علاقات الولايات المتحدة مع المنظمات الدولية. بالإضافة إلى أنّ استعادة الدور الأمريكي في المنظمة الدولية و تعزيز النُظُم الدولية في إطار التعاون متعدد الأطراف سيكون ضمن برنامج عمل هذه الإدارة. طبعاً هذه التعددية لن تكون كالتعدّدية التي كانت قائمة قبل خمس سنوات. فقد طرأت٬ على أيّ حال٬ اعتبارات جديدة في الظروف الراهنة. فالتحديات العالمية من ناحية و انحسار مصادر القوة الأمريكية من ناحية ثانية تفرض التركيز على التحديات بشكل أكبر٬ مثلاً تحدّي التغيّرات المناخية الذي يمكن أن يترك تأثيراً خطيراً على التغيّرات البنيوية و الاجتماعية داخل الولايات المتحدة. لذا٬ في ظل هذه الأوضاع فإنّنا سنشهد أمريكا منفعلة و ليس فاعلة على الساحة الدولية. و بحسب رؤيتي الشخصية فإنّ السياسة الداخلية ستكون الشغل الشاغل لإدارة بايدن على الأقل في السنتين الأولى من ولايته٬ و أنّ التحولات الخارجية ستؤثّر أكثر من السابق على السياسة الأمريكية. بمعنى أنّ هذه التحوّلات ستجعل الولايات المتحدة منفعلة إزاء التحولات العالمية أكثر من كونها فاعلة. و في ظلّ هذه الظروف سيجد اللاعبون فرصة أكبر للعب٬ لتبقى الولايات المتحدة في دور المراقب أو المنفعل. على الرغم من بعض التكهّنات بأنّ السياسة الخارجية الآن هي في أيدي الجناح اليميني في الحزب الديمقراطي٬ إلّا أنّ ضغوط الجناح اليساري التقدمي في الحزب ستدفع إلى الواجهة قضايا من قبيل حقوق الإنسان و التعددية و القضايا المعيارية و سائر القضايا الأخرى القليلة الكلفة على السياسة الخارجية الأمريكية.صحيح أنّ الخط الأول في هذه السياسة هو بيد الجناح اليميني في الحزب الديمقراطي٬ إلّا أنّ بايدن قدحجز للجناح التقدّمي في الحزب بعض المقاعد في جهاز السياسة الخارجية و المؤسسات ذات الصلة بالسياسة الخارجية و الأمنية. و سوف تكون لهذا الأمر تأثيراته على السياسة الخارجية الأمريكية. باعتقادي أنّ‌سياسة التوازن عن بعد (Off-shore Balance) سوف تتواصل بشدّة بهدف صنع التحالفات و التقليل من التوتر الإقليمي و الدولي. و قد بدأ هذا المسار في عهد أوباما و استمرّ بنحوٍ ما أثناء ولاية ترامب أيضاً و لكن بأدوات مختلفة و لكن بنفس منطق عهد أوباما. أعتقد أنّ بايدن سوف يسعى لأن يعمل بالضدّ من المسار الذي سلكه ترامب. و هو أمر متيسّر بسبب قدرة بايدن و شخصيته و الفرصة المتاحة للانعطاف. طبعاً سوف يتمّ مطابقتها في الظاهر مع الظروف القائمة اليوم. بمعنى أنّ الحزب الديمقراطي هو الذي سيهيمن على السياسة الداخلية للولايات المتحدة٬ ما أمكن ذلك٬ بينما ستكون السياسة الخارجية بيد الرئيس الأمريكي. توزيع الأدوار هذا يتناغم أكثر مع طبيعة شخصية بايدن التي تميل نحو يمين الحزب٬ لكنّ عليه أيضاً أن‌يراعي الاحتياط أيضاً و يستميل يساره.
الفصلية: أشكركم على هذه الإيضاحات٬ انطباعي عن مجموع ما تفضل به الدكتور أحمدي هو أنّ ترامب أحدث إلى حدّ ما تغييراً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأمريكية. و إن تعذّر تسميته تحوّلاً بمعنى الكلمة. و الحال أنّ هناك إمكانية لكي يقوم بايدن بانعطافة حادّة على مستوى استراتيجي على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية. الآن٬ و في ضوء الملاحظات التي طُرحت نرجو من الأساتذة الكرام أن يدلوا بآرائهم حول إمكان عودة  الولايات المتحدة إلى عهد أوباما و مواصلة سياسة الزعامة من بعده. 
د. یزدان فام: أنا أيضاً أشكركم على هذه الاستضافة و مسرور جداً لحضوري في هذا الجمع. أعتقد بالإمكان أن نطرح تباينات من هذا القبيل. عندما تتمّ دراسة السياسة الخارجية للدول٬ تبدو الأهداف العامة متشابهة٬ و هذا ينطبق على حوالي 200 دولة في العالم. فجميع البلدان تسعى إلى ضمان أمنها القومي باعتبارها قضية تتصدّر قائمة الأولويات. ثم تأتي الأمور الأخرى ضمن الأهداف الكبرى التالية في قائمة أهداف تلك البلدان مثل حفظ و بسط السلطة الوطنية٬ و إنتاج الثروة٬ و صيانة الهوية القومية و المكانة الدولية. و لكن مع ذلك٬ فإنّنا نجد أداء هذه البلدان ليس متماثلاً على الصعيد الدولي٬ و ذلك لتباين انطباعات العاملين في حقل السياسة الخارجية و إدراكهم و كذلك الممكنات و القيود التي تحيط بكل منهم. من هنا نقول إنّ منشأ التباينات في الواقع العملي مردّه هذه الأمور. فنحن أمام مسؤولين يسعون إلى تحقيق أهداف كبرى و توسيع نطاق نفوذهم و قدرتهم. ليس بمقدور أحد أن يقول بأنّ ترامب كان يسعى إلى التقليل من سلطة أمريكا. فشعاره كان استعادة عظمة أمريكا من جديد و إعادة بناء قوتها. و بايدن أيضاً يردّد نفس هذه الشعارات٬ و لكن في أيّ شيء تتلخص قوة أمريكا و عظمتها؟ فهنا نقطة اختلافه مع ترامب. يختلف معه في طبيعة الأدوات التي يريد استخدامها لاستعادة قوة أمريكا و عظمتها. طبعاً ربما يثير التركيز على هذه القضايا بعض الضجر لذلك سأكتفي بملاحظات سريعة حول بعض النقاط٬ لأتجاوز البقية. كان ترامب يتّبع سياسة أحادية بينما يتبنّى بايدن سياسة تعددية٬ و هذا تباين رئيسي بين الرجلين على صعيد السياسة الخارجية. كان ترامب يقول أنا موجود في البيت الأبيض و اتّخذ قراراتي دون الرجوع إلى بروكسل. إنّني أسعى لتحقيق المصالح القومية للولايات المتحدة و أعمل على هذا الأساس. و لا شأن لي ببروكسل أو طوكيو أو سائر العواصم الأخرى٬ و اتفاق العمل المشترك (الاتفاق النووي الإيراني) كان مضرّاً للولايات المتحدة و لابدّ من الانسحاب منه. هذه الموضوعات لا علاقة لها بمسؤولي البلدان مثل ألمانيا و بريطانيا و فرنسا. إنّها مقاربة معينة للسياسة الخارجية و التي كانت في الحقيقة سياسة أحادية انتهجتها إدارة ترامب. لكنّا سوف نشهد سياسة خارجية لبايدن مغايرة تماماً لسياسة ترامب. و لكن دون أن يعني ذلك أن تدير إدارة بايدن ظهرها لمصالح الولايات المتحدة٬ أو ترجيح مصالح بروكسل و سائر الحلفاء على مصالح أمريكا. و إنّما يندرج التعاون مع الحلفاء٬ في الواقع٬ في إطار ضمان مصالح الولايات المتحدة. هاتان المقاربتان لهما تاريخ طويل في السياسة الخارجية الأمريكية. يعتقد الترامبيون أنّ الولايات المتحدة قوية بما يكفي و أنّها لوحدها تملك جميع أدوات القوة بما يمكّنها من تأمين مصالح أمريكا دونما حاجة للاهتمام بمصالح الآخرين. في حين يعتقد الذين يتبنّون نهج التعددية كمبدأ في السياسة الخارجية الأمريكية أنّ التهديدات و التحديات الراهنة في عالم اليوم تفوق قوة الولايات المتحدة و قدرتها على مواجهتها٬ لذا فهي لا تستطيع لوحدها أن تتحمّل عبء التغلّب عليها ممّا يحتّم عليها التعاون مع البلدان الأخرى في هذا المجال. و حتى لو كانت أمريكا قادرة على تحمّل عبء هذه القضايا٬ فلماذا لا يشاركها الآخرون في تحمّل العبء. فمشاركتهم لا تعني ضعف الولايات المتحدة و إنّما قدرتها العالية على زعامة جميع البلدان لإدارة دفّة الأمور و مواجهة التحديات و التهديدات العالمية. هذا بينما كان ترامب يعتقد أنّ مثل هذه الإدارة و القيادة مُكلفة لأمريكا و خدمة مجانية تقدّمها بلاده للآخرين. فقد كان يقول لماذا علينا أن نكون في الخليج الفارسي لمرافقة سفن الآخرين؟ لماذا علينا ضمان الأمن العالمي؟ فكل بلد يشعر بأنّ أمنه مهدّد عليه أن يدفع نفقات تأمين أمنه لننجز له هذه المهمة. لكنّ بايدن لن يفعل هذا الشيء. هذا٬ في الحقيقة٬ تباين رئيسي في مقاربات الطرفين. من وجهة نظري إنّها مقاربة وطنية و في المجال الاقتصادي سياسة حمائية٬ بينما يمتلك فريق السياسة الخارجية لبايدن مقاربة عالمية و سوف يسير بصورة جماعية و ائتلافية لحل الخلافات. 
وعلى صعيد أدوات إعمال السلطة أيضاً هناك اختلاف بين ترامب و بايدن. فالأول كان يعطي الأولوية لاستخدام الخيار العسكري لحلّ القضايا٬ و لكن نظراً للأعباء المالية المترتّبة عليه اكتفى عملياً بأسلوب فرض العقوبات ضدّ الآخرين. و لكن بشكل عام٬ فإنّ زيادة القدرة العسكرية للولايات المتحدة كانت أولويته القصوى. فكان يقلّل من ميزانية الدبلوماسية و يزيد في المقابل الميزانية العسكرية٬ بحيث زاد الميزانية العسكرية في بعض السنوات إلى 25 في المأة – و هو رقم لا سابق له في تاريخ الولايات المتحدة في فترة السلم-.
من هذا المنطلق٬ فإنّنا في عهد بايدن سوف نشهد إعطاء الأولوية للدبلوماسية بوصفها أداة إعمال السلطة في السياسة الخارجية الأمريكية. و هناك سببان وراء انحياز إدارة بايدن لهذا الخيار٬ فإدارته مؤلفة من سياسيين مخضرمين في مجال العمل الدبلوماسي٬ و يُنظر إلى توظيف هذا الخيار على أنّه قليل التكلفة. فبالأمس القريب قدّم بايدن وليم بيرنز نائب وزير الخارجية و من الشخصيات المؤثرة في محادثات 5 + 1 مرشحاً لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية في إدارته. هذا الاختيار نادر الحدوث في التاريخ الأمريكي و هو أن يعيّن دبلوماسي مخضرم على رأس وكالة الاستخبارات المركزية. و هذا التعيين في حدّ ذاته يعدّ دليلاً على أولوية النهج الدبلوماسي في إعمال السلطة. قد يبدو هذا الاختيار مبرّراً٬ و لكن هذا لا يعني أنّ إدارة بايدن تغضّ الطرف عن الوجوه الأخرى أو الأدوات الأخرى لإعمال السلطة. فبعد الدبلوماسية٬ تأتي العقوبات متعددة الجوانب في المرتبة التالية٬ لأنّه لا معنى للدبلوماسية بدون قوة تسندها٬ و لن‌تكون مجدية. لكنّ بايدن سوف يسعى إلى استخدام العقوبات متعددة الجوانب إلى أقصى مدى٬ على عكس ترامب الذي كان يفرض العقوبات الأحادية على الدول. 
ومتى ما فشلت إدارة بايدن في تحقيق أهدافها عن طريق فرض العقوبات فسوف تسعى إلى توظيف الإجراءات الاستخبارية لدفع السياسة الخارجية إلى الأمام٬ و سيتم التركيز على بلورة العلاقات الخارجية.
الفصلية: و هل يندرج ضمن هذا الإجراء الاستعانة بالهجمات السايبرانية؟ 
د. یزدان فام: عهد أوباما كان عهد استخدام الهجمات السايبرانية ضدّ الدول بما في ذلك إيران. و استخدام السايبر في حقل السياسة الخارجية للبلدان٬ و لا سيّما الولايات المتحدة٬ يشهد توسّعاً و بايدن الذي كان نائب الرئيس أوباما قد قام باستخدامه في السياسة الخارجية. و عليه٬ فلا ينبغي لنا أن نأخذ بعين الجدية استخدامه الواسع مجدّداً في المستقبل٬ لنصل في نهاية المطاف إلى استخدام القوة العسكرية. اشتهر الديمقراطيون عبر التاريخ الأمريكي بعدم ميلهم إلى استخدام الخيار العسكري٬ و لكن٬ في الحقيقة٬ لا أساس قوي لهذه الشهرة٬ فمعظم حروب أمريكا قد أشعلها الديمقراطيون٬ بخلاف الفكرة السائدة عن الجمهوريين بأنّهم طلاب حرب٬ و للتوضيح فإنّهم في عهد بايدن لن يشذّوا عن هذه العادة٬ مع الفارق بأنّ الحرب لن تكون أولويّتهم. و إذا لم يعمدوا إلى خفض الميزانية العسكرية٬ مقارنة بعهد ترامب٬ فإنّهم في نفس الوقت لن‌يعملوا على زيادتها. لقد أظهروا عدم رغبتهم في سحب قواتهم العسكرية من أيّ منطقة خارج البلاد، ما لم يكن هناك إلزام استراتيجي في هذا الشأن. و في المقابل٬ لم يكن ترامب ميّالاً لإبقاء القوات العسكرية الأمريكية في الخارج٬ و كان يسعى إلى تخفيض عديدها بصورة مستمرة.
كانت لترامب نظرة سطحية٬ إلى حدّ ما٬ إلى العالم و الدبلوماسية. كان يسعى إلى سياسة الضغوط القصوى لتركيع معارضي أمريكا. سلوكه مع كوريا الشمالية و إيران يؤكّد على صحّة هذا الرأي. لطالما صرّح في السنوات الأربع من ولايته و لا سيّما في الشهور الثلاثة الأخيرة بأنّه إذا عاد الإيرانيون إلى طاولة المفاوضات فسأقوم بحل جميع القضايا العالقة معهم خلال 24 ساعة٬ أو إذا أعيد انتخابي فإنّ جميع مشاكل الولايات المتحدة مع إيران سوف تحلّ خلال أسبوع واحد فقط. لقد كرّر هذه التصريحات مراراً لدرجة تحوّلت معها إلى نكتة٬ و في المقابل كان معارضوه يقولون حتى الإيرانيين أنفسهم لا يستطيعون حلّ مشاكلهم خلال أسبوع٬ فكيف لترامب أن يحلّ القضايا العالقة بين الولايات المتحدة و إيران خلال أربعين سنة في أسبوع!
على عكس إدارة ترامب٬ فإنّ فريق السياسة الخارجية لبايدن لا ينظر إلى السياسة الخارجية و الدبلوماسية نظرة سطحية٬ و إنّما له نظرة جدّ عميقة و معقّدة و ذكية إلى الدبلوماسية. فهذا الفريق ليس في وارد تركيع الطرف الآخر أو التقاط الصور التذكارية معه٬ بل ربّما في جعبته خيارات مشرّفة و أكثر إنصافاً ليدفع مفاوضه إلى التعامل و التوافق. فإدارة بايدن تملك مثل هذه القدرة على صعيد السياسة الخارجية٬ أن تتفاوض مع إيران طيلة 22 شهراً لتحقّق نتائج مثمرة في نهاية المطاف.
أعتقد أنّ الاقتصاد كما كان في عهد ترامب ما يزال يشكّل أولوية بالنسبة لإدارة بايدن. فالرئيس الأمريكي الجديد يولي أهمية قصوى لمسألة إحياء الاقتصاد الأمريكي٬ و لا ينبغي أن نتوقّع أن ينصرف عن صفقات الأسلحة الأمريكية للعربية السعودية. فالإدارة الأمريكية الجديدة بطبيعة الحال تسعى إلى ازدهار سوق مبيعات الأسلحة أيضاً٬ و في نفس الوقت إقامة علاقات اقتصادية أفضل مع بقية البلدان.
الفصلية: هل أنتم بصدد الخوض في أولويات إدارة بايدن؟
د. یزدان فام: نعم ما زلت في إطار بحث الفروق و سأستعرض البقية. هناك موضوع الهوية و القيم الديمقراطية الأمريكية التي تحظى بأهمية أيضاً بالنسبة لهذه الإدارة التي تولي اهتماماً لمسألة حقوق الإنسان في السياسة الخارجية٬ على عكس ما كانت تفعل إدارة ترامب التي لم تعر هذا الموضوع أيّ أهمية على الإطلاق. الفرق الآخر هو أسلوب اتّخاذ القرارات في إدارة ترامب الذي كان فردياً و عنيفاً. بينما نجد أنّ اتّخاذ القرارات في الإدارة الجديدة يمرّ بمسار عقلاني و جماعي ذكي قابل للتنبؤ. هذا الأمر يؤدّي طبعاً يؤدّي إلى بطء عملية صنع القرارات و أن تأخذ فترة أطول و أكثر تأثّراً بجماعات الضغط (اللوبي). هذه مجموعة من الفروق التي باعتقادي التي سنلحظ تأثيرها على مقاربات السياسة الخارجية لبايدن. 
الفصلية: شكراً على هذه الملاحظات٬ و أسأل الدكتور كاملي إن كانت لديه ملاحظات حول موضوع الفروق فليتفضل بطرحها٬ و إذا لا فلنستكمل موضوع أولويات إدارة بايدن. 
د. کاملی: في الحقيقة لقد استفدت كثيراً من ملاحظات الأستاذين دكتور أحمدي و دكتور يزدان فام. لقد ذُكرت النقاط الرئيسية في موضوع الفروق٬ و إذا سمحتم لي أودّ أن أشير إلى المبادئ العامة في السياسة الخارجية في عهد بايدن. اعتقد بالاستناد إلى النص المحوري و استلهاماً من مواقف و تصريحات بايدن نفسه٬ على الأقل في المواقف المذكورة مثل: جامعة نيويورك و غيرها يمكن أن‌أضيف إلى ماذكره الأساتذة الأفاضل ما يلي: الفرق بين بايدن و ترامب هو في أنّ كليهما رمزان لحزبين مختلفين. لكل حزب نظامه الأساسي٬ و على كل منهما أن يعمل في إطار هذا النظام. و لذلك نجد الأحادية في مقابل التعددية٬ و التوقّف عن منح الامتيازات مجاناً في مقابل المشاركة العالمية و عن إحياء الزعامة بالتمحور حول الكيان الصهيوني و بعض البلدان العربية٬ و الآن تُطرح محورية أوروبا. صحيح أنّ أوروبا لم‌تحظَ بالاهتمام في عهد ترامب، لكنّها في عهد بايدن سوف تترقّى عدّة مراتب في سلّم ترجيحات حلفاء الولايات المتحدة. و سوف يتجلّى ذلك في إطار تشكيل التحالفات و الائتلافات و القدرات البنيوية المتجانسة الموجودة على طرفي الأطلسي. مبدأ الاستثناء و التفرّد كان هو المبدأ المفضّل لترامب٬ و السمة الأساسية في سلوكه. و الآن سوف يحلّ محلّه مبدأ العالمية لبايدن.
وفي هذا الخصوص أشير إلى عدّة محاور تشكّل الهيكل العام للسياسة الخارجية لبايدن. الموضوع الأول هو حاجة العالم للزعامة حيث يسعى بايدن إلى إحياء زعامة الولايات المتحدة. و الموضوع الثاني هو الدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة الذي تمّت الإشارة إليه و المطروح على صعيد الرأي العام الداخلي و القدرات الاستيعابية لمنابع أمريكا و إمكاناتها. و هناك مسألة الحروب التي لا تنتهي حيث طُرح موضوع إنهائها إلى الأبد. و الحقيقة أنّ بايدن يركّز في المجال الدبلوماسي على قوة الدبلوماسية الاستباقية. بمعنى إذا كانت الإدارات السابقة تركّز على الحروب الاستباقية أو الوقائية٬ فإنّ بايدن بخلاف بوش الإبن و ترامب معنيّ أكثر بالدبلوماسية الاستباقية. لذلك لوتأمّلنا ترشيحات أعضاء إدارته سنجد حتى المناصب الأمنية المسندة تشي بتخصيص مساحة كبيرة للدبلوماسية و التأكيد على أولويتها في سياسته الخارجية. و يندرج هذا في إطار استعادة دور أمريكا و مشاركتها في زعامة العالم. هذه هي المحاور التي سيهتمّ بها بايدن في تدوين الخطوط العريضة لسياسته الخارجية و استراتيجياته. طبعاً سوف يذيّل هذه السياسة ببرنامجه حول إجراءاته العملية العسكرية أيضاً. و كما أوضح الأساتذة الكرام٬ فإنّ الاستراتيجيات العامة للولايات المتحدة٬ بطبيعة الحال٬ لن تتغيّر٬ لأنّ دور البنى السياسية و الأمنية في رسم المبادئ العامة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة و أولوياتها كان حاسماً منذ٬ على الأقل٬ ما بعد الحرب العالمية الثانية. و لكن أعتقد أنّه على المدى القصير٬ فإنّ هذه المحاور الاستراتيجية يمكن أن ترسم في الأربع سنوات القادمة٬ فترة ولاية إدارة بايدن٬ آفاق السياسة الخارجية لبايدن في قالب الاستمرارية أو التغيير في ضوء المعطيات المتاحة إلى جانب الأولويات و التكتيكات و الأدوات و وفقاً لما سيطرأ من تحولات محلية داخلية و إقليمية و دولية. السياسة الداخلية الأمريكية بوصفها إحدى المقومات المهمة ضمن مسار تكاملي في طور الدخول في مرحلة جديدة. و هذا المقوّم يمكن أن يكون مؤثّراً للغاية على أولويات الولايات المتحدة و طبيعة نظرتها على صعيد السياسة الخارجية. و طبعاً من خلال ضمّه إلى مقوّم الاقتصاد يمكن الخروج باستنتاج أفضل ضمن ظروف منطقة الشرق الأوسط. فمسار التحوّلات في هذه المنطقة كان على جانب كبير من الحدّة و التوتّر٬ و قد سخّرت الولايات المتحدة كل أدوات الردع و قدراتها من القوة الصلبة كافة٬ و مع ذلك لم تستطع عملياً تأمين مصالحها. و هذا دليل على أهمية البيئة الإقليمية إلى جانب التحولات الدولية. و يمكن في هذا الإطار أن نحلّل موضوع ظهور القوى الكبرى و بروز التحديات و تعاظم التهديدات من قبل قوى عالمية مثل الصين و روسية أو إيران أو سائر اللاعبين الذين يساهمون في التقليل من حصة الولايات المتحدة من كعكة من النفوذ العالمي.
الفصلية: ما هي عناصر الدبلوماسية الوقائية أو الاستباقية التي يستند إليها بايدن؟
د. کاملي: لم يفصح بايدن كثيراً عن طبيعة هذه الدبلوماسية٬ إلّا أنّ الشواهد و القرائن لا سيّما تركيبة فريقه المسؤول عن السياسة الخارجية تشي بأنّه بصدد تعزيز هذا الخيار٬ خيار الدبلوماسية٬ و بعيداً عن النموذج الذي سيتبنّاه فريقه في السياسة الخارجية٬ و الذي سوف نتطرّق إليه لاحقاً٬  فإنّ تعزيز الفريق السياسي و الأمني بأفراد يتمتّعون بخبرة دولية يشير إلى أنّ البعد الدولي أو تلك الفرص و القدرة المتاحة و التي يوليها أهمية كبيرة٬ ستحظى بالأولوية القصوى في ضوء الاستمرارية أو التغيير أو طبيعة النموذج الذي سوف يتبنّاه بايدن في السياسة الخارجية.
الفصلية: طبعاً هذا سيكون السؤال التالي و الذي ينبغي أن يتم تناول جميع أبعاده.
د. کاملی: هناك على الأقل ثلاثة أو أربعة نماذج يمكن طرحها في هذا المجال٬ النموذج الأول يقول٬ بأنّ بايدن و قبل تشكيل فريقه السياسي و الأمني سوف يأتي بعناصر من وسط أو يمين الحزب و المقرّب جدّاً من توجهات السيدة كلينتون. و لكن تشكيلة الفريق تبيّن أنّه أقرب إلى أفكار أوباما الذي كان رئيسه على صعيد السياسة الخارجية. النموذج الثاني هو نموذج أكثر تقدّماً من أوباما و يتألّف من النموذج السابق و لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الراهنة على الصعيدين الداخلي و الخارجي. النموذج الثالث يرى بأنّه على الرغم من أنّ سياسات ترامب كانت خاطئة و لكن ستتم الاستفادة من القدرات و أدوات الضغط التي وفّرتها على صعيد السياسة الخارجية في النموذج السلوكي للسياسة الخارجية لبايدن. و هناك خيار أخير و نهائي و هو أنّ بايدن شخصية مخضرمة و له تاريخ طويل في مجلس الشيوخ و الإدارات السابقة و قد خبر دهاليز السياسة الخارجية طيلة أربعين عاماً و قضى عمره في هذا الميدان٬ و عليه فسيكون له أسلوبه الجديد و الخاص. 
الفصلية: أودّ أن أسأل الدكتور أحمدي إن كانت له ملاحظات حول أولويات إدارة بايدن و التحديات التي تواجهها؟ 
د. أحمدی: أعتقد أنّه لحدّ الآن تمّت مناقشة و شرح الأطر الرئيسية النظرية و الموضوعية لبايدن فيما يتعلّق بأولوياته في السياسة الخارجية. 
الفصلية: مع ذلك هل لكم أن‌تتحدّثوا عن أولوياته و التحديات الرئيسية التي تواجه إدارة بايدن. طبعاً مع التأكيد على التحديات الراهنة على الساحة الدولية.
د. أحمدي: علينا أن ننظر في ثلاث أولويات لبايدن٬ أولاً٬ الاقتصاد على رأس أولوياته٬ و أعني تقليل الفجوة الواسعة بين الفقير و الغني٬ و إنعاش الاقتصاد الأمريكي خاصة بعد جائحة كورونا كما وعد في برامجه. ثانياً٬ بعد الاقتصاد ستأتي السياسة الداخلية و على مستويات مختلفة مع التركيز على مسألة التمييز الاجتماعي كما في عهد أوباما. و إذا تجاوزنا هذين الأمرين٬ يأتي دور السياسة الخارجية بحسب الدولة و الموضوع. بحسب فهمي للقضايا الدولية٬ فإنّ الصين تشكّل التحدّي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة و بالأخص إدارة بايدن٬ و هي مسألة تتّضح لنا بشكل أكبر عندما نقرأ كتاب جون بولتون مستشار الأمن القومي في عهد ترامب٬ فالكتاب يتضمّن ملاحظات مثيرة جداً٬ حيث يؤكّد بشكل خاص أنّه لطالما سعى إلى إفهام ترامب بأنّ الصين٬ من الناحية الوجودية٬ تشكّل تحدياً رئيسياً للولايات المتحدة. و يضيف بأنّ التحدي الصيني أعمق و أوسع من أن‌يختزله السيد الرئيس في موضوع التعرفة التجارية. و أعتقد أنّ فريق بايدن يحمل فهماً أعمق لهذا الموضوع٬ و هو لن يقيّم تهديد الصين على أنّه تهديد في حدود مشكلة حول التعرفة التجارية. كان ترامب يقول إذا لم تشتر الصين النفط من الولايات المتحدة فإنّنا سنزيد التعرفة التجارية على السلع الصينية. باعتقادي أنّ‌الفريق السياسي و الأمني لبايدن يرى أنّ التهديد الناجم عن ظهور الصين هو تهديد متعدّد الجوانب٬ و في حال تجاهلت الولايات المتحدة هذا التهديد فسوف تواجه تحديات خطيرة على مختلف الأصعدة في المستقبل القريب. التحدي الثاني بالنسبة لفريق بايدن هو الدور الذي تلعبه روسية على الساحة الدولية و خاصة في أوروبا و الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك و إلى حدّ ما٬ طبيعة النظرة الروسية إلى العلاقة مع الصين. و لا ننسى التحدي الذي يواجه علاقة الولايات المتحدة بالاتحاد الأوروبي٬ و إن كان مستوى التقارب بين الطرفين سيزداد مقارنة عمّا كان عليه في عهد ترامب٬ بيد أنّ طبيعة و مستوى العلاقة بين أوروبا و الصين و طريقة تعاطي أمريكا مع اتفاقية المناخ و الاختلافات حول الأولويات على ضفتي الأطلسي٬ لن‌تسمح بتطابق وجهات النظر في علاقات أوروبا و الولايات المتحدة. و لكن بالرغم من ذلك٬ سيكون هناك بعض التطابق في المقاربات بالنسبة لبعض القضايا، على الأرجح في موضوع إيران و إلى حدّ ما روسية٬ أمّا المقاربة إزاء الصين فهناك بعض المشاكل بين الطرفين. بخصوص طبيعة التعاطي مع روسية هناك ثلاث مقاربات في أوروبا حول هذا الموضوع، فألمانيا و فرنسا ترغبان في التقارب مع روسية٬ بينما تحاول بريطانيا و دول أخرى في الاتحاد الابتعاد عنها. و سوف تنعكس هذه الاختلافات على العلاقات الأوروبية الأمريكية. و برأيي أنّ التحدّي التالي هو موضوع بريطانيا٬ فهذا البلد سوف يسعى إلى الحفاظ على سياسته المقرّبة من الإدارة الأمريكية٬ لكنّه على أيّ حال مضطرّ إلى الاختيار بين الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بالاتفاقية التجارية. طبعاً لست بصدد تضخيم هذا التحدّي و لكنّه بكل تأكيد من نمط التحديات التي ستواجه أمريكا و الناجمة عن التركيز على مسألة التعددية. على سبيل المثال٬ بأيّ طريقة تريد الولايات المتحدة إعادة بناء المنظمات الدولية. التحدي الجديد هو موضوع إحياء المشروعية الأخلاقية الأمريكية على الصعيد الدولي٬ و هذا تحدٍّ كبير٬ حيث أنّ الأمريكيين في عهد ترامب قد فقدوا مشروعيّتهم الأخلاقية في العديد من القضايا٬ و الذي أعتقده أنّ السيد بايدن سوف يسعى إلى استعادة تلك المشروعية الأخلاقية بنحوٍ ما. بالنسبة لموضوع إعادة فرض العقوبات التسليحية على إيران و تفعيل ما يُعرف بآلية الزناد فقد لجأت الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن مرتين لهذا الغرض لكنّها مُنيت في المرّتين بهزيمة و بإجماع الأصوات تقريباً. و هي من الهزائم التاريخية التي قلّما كانت لها سابقة. و موضوع التغيّرات المناخية أيضاً يعدّ جزءاً من الأولويات و كذلك التحديات التي تواجه أمريكا في عهد بايدن. و أخيراً هناك موضوع رقمنة العالم. الحقل السايبراني أيضاً هو حقل جديد تتّسع موضوعاته لأبعد من موضوع رقمنة العالم٬ و هو ينطوي على أهمية متزايدة٬ و في السنوات الأربع القادمة سيحظى موضوع الاقتصاد الرقمي و رقمنة العالم بأهمية كبرى من زاوية التغلّب على التحديات. 
الفصلية: لو نظرنا إلى السياسة الخارجية لبايدن في إطار المسؤولية و إدارة التحديات فكيف سيكون نموذج السياسة الخارجية؟
د. یزدان فام: إذا تأمّلنا رؤية بايدن بعد دخوله البيت الأبيض للقضايا الدولية بوصفه من يدير دفة السياسة الخارجية فمن المحتمل أن تتصدّر القضايا الداخلية قائمة التحديات التي تواجهها أمريكا. و لكن كما شرح الدكتور أحمدي بالتفصيل فإنّ السياسة الداخلية و السياسة الخارجية متشابكتان ببعضهما بحيث لا يمكن الفصل بينهما بسهولة. فجائحة كوفيد 19 و الضحايا الثقيلة البشرية و الاقتصادية التي تكبّدتها الولايات المتحدة وما زالت في هذا المجال تشكّل التحدّي الأكبر الراهن لهذا البلد. لذا فإنّ أول مهمة سيضطلع بها بايدن في البيت الأبيض هي القضاء على كورونا أمّا المهمة الثانية فهي إخراج الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود التي يعانيها. أمّا المهمة الثالثة فستكون معالجة الفجوات الاجتماعية و السياسية التي لم تشهد لها الولايات المتحدة مثيلاً في السابق. كان زعم الأمريكيين دائماً أنّهم مزيج من جميع الأجناس و الأعراق و الطوائف و الأديان المنصهرة في بوتقة الهوية الأمريكية الموحدة٬ و يسعون جميعاً لتحقيق الحلم الأمريكي. هذا التعريف الذي كان أوباما يقدّمه عن الهوية الأمريكية، لكنّ ترامب قدّم صورة أخرى مغايرة لأمريكا و الأمريكيين أدّت إلى استظهار صورة جديدة تجلّى فيها الشرخ الاجتماعي الكبير الذي تعانيه الولايات المتحدة. لقد شهدت الانتخابات الأمريكية الأخيرة اصطفافاً عدائياً لـ 78 مليون ناخب في مقابل 71 ناخب. لذا يبدو أنّ ردم هذه الهوّة الاجتماعية سوف يتصدّر جدول مهام كل من يحكم البيت الأبيض. و تبعاً لذلك٬ أعود إلى التحديات المطروحة على الصعيد الدولي٬ فالتغيّرات المناخية من بين القضايا التي تشمل الاثنين أعني أنّها تشكّل تحديّاً داخلياً أمريكياً و دولياً في آنٍ معاً ينبغي إعطائه الاهتمام اللازم. و على الصعيد الدولي فأعتقد أنّ ما تفضّل به الدكتور أحمدي صحيح تماماً. و إذا أردت أن أثنّي على كلامه أقول إنّ التحدّي الآخر هو استعادة صورة أمريكا في العالم أو مشروعيتها الأخلاقية التي حافظت عليها بنحوٍ ما منذ الحرب العالمية الثانية و التي قُضي عليها٬ نوعما ما٬ في عهد ترامب. و أعتقد أنّ تصويت جمهورية الدومنيكان في مجلس الأمن إلى جانب الولايات المتحدة في قضية تفعيل آلية الزناد كانت أقسى إهانة توجّه لأمريكا٬ لأنّ ذلك يعني أنّ‌دولة واحدة عبارة عن شبه جزيرة نائية فقط هي التي أيّدت أمريكا. و لو كانت صوّتت ضدّ القرار لكان ذلك٬ برأيي٬ أفضل لحفظ ماء وجه الولايات المتحدة.
د. أحمدي: أحد المطّلعين الذين حضروا وقائع التصويت في مجلس الأمن صرّح بأنّ الأوروبيين كانوا السبّاقين مع بقية الدول إلى تشكيل لوبي ضدّ مشروع القرار الأمريكي. هذا الحدث العجيب و النادر كان نتيجة لسياسات ترامب و هو كما يقال إذا وقع الحدث مرّة٬ فسيتكرّر مرات.
د. یزدان فام: هذا صحيح٬ و قد كان حدثاً لا سابقة له في السياسة الخارجية الأمريكية. و كان رسالة واضحة إلى العقلانيين في المجتمع الأمريكي بأنّ سيد البيت الأبيض الذي انتخبتموه قدطعن هيبة أمريكا في الصميم و لم يكن بمقدور أحد أن يفعل ما فعله. و على أيّ حال٬ فإنّ ترامب بشعاره استعادة عظمة أمريكا قد ذهب بالمشروعيّة الأخلاقية للولايات المتحدة و لن يكون بالإمكان استعادة الثقة التي فُقدت. من هنا لا بدّ من القول بأنّ استعادة ثقة الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة و إحياء زعامتها في العالم هي بكل المقاييس ستكون من أولى مهام السياسة الخارجية. إنّ عودة الولايات المتحدة إلى المنظمات الدولية و الاتفاقيات المتعددة هو بنحوٍ ما يصبّ لصالح تحقيق هذا الهداف. و لكن باعتقادي أنّه سوف يجد أمامه مسؤوليات أعمق من ذلك بكثير٬ و سوف يسعى إلى القيام بها. طبعاً اتفاق العمل المشترك (الاتفاق النووي) أحد هذه المسؤوليات التي أعلن عنها بايدن. و العودة إلى اتفاقية باريس ستتم في اليوم الأول من بدء عمل بايدن في البيت الأبيض. و تعيين جون كيري كمبعوث خاص له منصب رفيع في الإدارة يحمل دلالة على الأهمية القصوى التي يوليها بايدن للتغيرات المناخية٬ و يبيّن هذا التعيين أيضاً مدى تأثير التغيّرات المناخية كأداة لإحياء الزعامة التي تطمح إليها أمريكا. لأنّ الصينيين كانوا قد أعلنوا قبل أسبوعين أو ثلاثة أنّهم ما يزالون متمسّكين باتفاقية باريس و يسعون إلى القيام بإجراءات أوسع لإزالة التلوّث في العالم. و تأتي الرسالة الدبلوماسية للصين إلى العالم في إطار تعزيز موقعها أو حتى زعامتها على الساحة الدولية. هذا في الوقت الذي تحاول أمريكا أيضاً استعادة زعامتها على العالم. و من المرجّح أنّه إذا أمسك بايدن بمقاليد الأمور فإنّه حين يصدر الوثيقة الأمنية في بداية هذه السنة ربما سيذكر الصين بأنّها تتصدّر جدول التحديات و التهديدات. و تدلّ التصريحات التي تخرج عن الفريق الأمني لبايدن بأنّ الصين سوف تشكّل التهديد الرئيسي للولايات المتحدة في المستقبل القريب٬ لأنّ هذا البلد يمتلك إلى حدّما جميع وجوه القوة و أبعادها و بصورة تامة٬ و بوصفها قوة صاعدة و ترنو نحو ذرى التطوّر٬ بينما سيُنظر إلى روسية كتهديد عسكري تقليدي في قائمة التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة. لماذا؟ لأنّها تمتلك ترسانة عظيمة من الأسلحة النووية و الصاروخية. و لكن تظلّ الصين التهديد الرئيسي لأمريكا٬ و من هذا المنطلق ستحظى بأهمية أكبر في السياسة الخارجية لبايدن. لدى فريق السياسة الخارجية لبايدن فهماً عميقاً لموقع الصين بخلاف النظرة السطحية و الاختزالية لترامب. و برأيي سوف تسعى إدارة بايدن إلى تبنّي مقاربة و سياسة أكثر تعقيداً في مواجهة الصين على الساحة الدولية. و سوف تقترن هذه السياسة باستراتيجية طويلة الأمد و شاملة و ذكية ليتمكن من احتواء الصين بنحوٍ ما. كما تشكّل قضية انتشار الأسلحة النووية تحدياً آخر أمام هذه الإدارة٬ و هنا سوف تبرز إيران٬ باعتقادي٬ كأولوية في السياسة الخارجية٬ و في ضوء ترشيحات المسؤولين للمناصب الرئيسية في إدارة بايدن يمكن التكهّن بأنّ‌إيران ستحتل موقعاً مهماً في عقل صنّاع القرار و القائمين على السياسة الخارجية لبايدن. من هذه الزاوية يمكن لهذا الموضوع أن يشكّل بالنسبة له فرصة و في نفس الوقت تهديداً. لذلك٬ ينبغي لنا أن نتعامل مع أبعاد القضية بدقة و حذر شديدين٬ و برؤية أعمق إلى الملاحظات المذكورة حول خصائص الدبلوماسية الاستباقية أو الوقائية لبايدن. لقد أظهر وليم بيرنز في كتابه الموسوم "الدبلوماسية الخفية" (Back Chanel) اهتماماً خاصاً بهذا النوع من الدبلوماسية لصالح إيران أو ضدّها. لهذا السبب ذكرت بأنّ السياسات و الإجراءات الاستخبارية لفريق بايدن ستكون مهمة. و على الأرجح أنّهم سيدفعون بالدبلوماسية من قنوات غير رسمية و الحقيقة أنّ لهم خبرة طويلة في هذا المجال٬ فجميع الذين تمّ اختيارهم في فريق بايدن الأمني و السياسي هم بنحوٍ ما من أهمّ الوجوه في هذا المضمار. و من هذا المنطلق يمكن القول بأنّ هؤلاء يمتلكون القدرة اللازمة للدفع بالدبلوماسية الوقائية لبايدن إلى الأمام٬ و سيقومون بعملنة تلك السياسة. و في نفس الوقت يمكن القول بأنّ للدبلوماسية الوقائية بعد آخر و هو الدبلوماسية التنظيمية٬ و مجالها الآخر أروقة المنظمات الدولية. و هي دبلوماسية تتناول موضوع عدم الانتشار٬ و هي في الحقيقة نوع من الدبلوماسية الوقائية٬ الهدف من ممارستها في المنظمات الدولية الحؤول دون انتشار أسلحة الدمار الشامل. إنّ عودة الولايات المتحدة في عهد بايدن إلى المنظمات الدولية و المحافل الدولية خطوة أخرى على طريق تعزيز الدبلوماسية الوقائية.
الفصلية: نشكر الدكتور یزدان فام، و نرجو من الأستاذ كاملي أن يطرح ملاحظاته في هذا الموضوع. 
د. کاملي: لقد تناول الأساتذة المحاور الرئيسية في الموضوع٬ و عليه٬ أريد فقط التأكيد على بعض تلك المحاور. لقدقصدت من وراء طرح المستويات الثلاثة المحلية و الإقليمية و الدولية هو القول بأنّ المستوى الداخلي سوف يستحوذ على القسط الأعظم من قدرات إدارة بايدن و جهده. بمعنى أنّ التحولات و الموضوعات و التحديات الراهنة في الولايات المتحدة سيكون لها نصيب الأسد من جهد و وقت هذه الإدارة. و على أيّ حال٬ و كما بيّن الدكتور أحمدي فإنّ جرح التحولات الداخلية في الولايات المتحدة قد فُتح و بدأت التقيّحات تخرج من أعماق المجتمع إلى السطح. بمعنى أنّها بدأت تنكشف للعيان. من الأمثلة البارزة على تلك التحولات تيار الترامبية و الذي سوف يشكّل محرّكاً للاضطرابات القادمة٬ و ليس فقط لن يهدأ هذا التيار بالسهولة التي يتصوّرها البعض٬ بل و سوف يشكّل مصدراً عظيماً لعدم الاستقرار مثل الإرهاب الداخلي و التطرّف و العنف و يجلب لإدارة بايدن تحديات ثقيلة. في الوقت الراهن فإنّ ما يقوم السيد بايدن من توظيف للجهود و المنابع على الساحة الدولية يفوق اهتمامه للقضايا الداخلية٬ و هذا يعني أنّ فريق بايدن لم‌يأخذ بعد هذه القضايا على محمل الجدّ أو أنّه قادر على إدارتها. و عليه يجب أخذ هذه الجزئية بعين الجدّ عند مناقشة و تحليل سياسات إدارة بايدن. 
إذا تأمّلنا البنية و ركّزنا على موضوع تركيبة صنع القرار و مسارها في إدارة بايدن٬ فمن الواضح أنّ الفروق جوهرية و بنيوية بين عهدي ترامب و بايدن. طبعاً هذا التباين يبدو طبيعياً إلى حدّما مع تغيّر الإدارات الحاكمة٬ و لكن إذا أراد أن يكون حجم التباين أكبر ممّا كان عليه في عهد أوباما فإنّه سيواجه اللوبي الصهيوني و السعودي و اليمين المتطرّف. و إذا وضعنا هذه المسألة إلى جانب تنامي التيار اليساري في الحزب٬ فستتّخذ معنىً خاصاً. لهذا التيار 95 نائب في الكونغرس٬ بالإضافة إلى حصة لا بأس بها في التعيينات الحكومية. نعم٬ ربما لا يمسك بمقاليد الأمور٬ لكنّ مطالبته بحصّته من المناصب سوف تشكّل تحدياً لإدارة بايدن. في الحقيقة إنّ تركيز السيد بايدن على الطبقة الوسطى يحمل مغزىً خاصاً. فالتوجّهات التي أعلن عنها جاك سوليفان مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن و كذلك تصريحات بايدن نفسه في جامعة نيويورك تشير إلى مسير السياسة الخارجية في الإدارة الجديدة صوب تحقيق أهداف الطبقة الوسطى ممّا يستدعي الانتظار لنرى كيف سيعمل على إحياء الطبقة الوسطى و في نفس الوقت كسب ثقة و مواكبة الطبقة الرأسمالية. بالإضافة إلى ذلك تقديم إجابة مقنعة للجناح اليساري و طبقة العمال و الجزء الرئيسي من الطبقات الاجتماعية الأدنى من الطبقة الوسطى٬ و أن يعمل على إحداث نوع من التوازن بين المصالح الطبقية المذكورة و يمنع بروز تحدٍّ أكبر.
بشكل عام يمكن القول بأنّ إدارة بايدن ستواجه تحديات خطيرة في حقل السياسة الداخلية. و بدأت علائم هذه التحديات بالظهور اللهم إلّا إذا كان لديها برنامج واضح و خطة محدّدة لإدارة هذه التحديات و التغلّب عليها. إذا أرادوا أن‌يرسموا السياسات انطلاقاً من رؤية الحزبين٬ و استطاعت الإدارة إلى حدّما اجتذاب هذه التركيبة من الحزب الجمهوري التي ظهرت بعد هجوم السادس من يناير على مبنى الكونغرس إلى صفّها٬ فستكون هناك حاجة إلى منح بعض الامتيازات و التنازلات للجمهوريين. و لكن إذا استطاع ترامب أن يعود إلى الحياة السياسية و يستجمع أنصاره المعترضين و تنظيمهم٬ فسيتمكن من ممارسة ضغط شديد على الإدارة. هذا العامل سيعرّض إدارة بايدن على صعيد المنطقة لتحديات كبيرة. فقد لاحظنا أنّ التوازن على الصعيد الإقليمي في عهد أوباما قد تعرّض لهزّة في عهد ترامب. فالسياسة الإقليمية لأوباما كانت تقوم على ركنين اثنين٬ الأول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي٬ و الثاني موضوع الاتفاق النووي الإيراني، و كلاهما تلاشيا في عهد ترامب. فقد دفع ترامب قضية فلسطين إلى التطرّف بالتعاون مع المحور الصهيوني السعودي٬ و تجاهل حقوق الفلسطينيين تماماً٬ و انتزع كل امتيازات الفلسطينيين و وهبها للصهاينة. أعتقد أنّ التحدي الأكبر و الذي له جذور في أمريكا و سيظهر مرة أخرى هو كيف ستتمكّن الإدارة الأمريكية من خلق توازن بين ما منحه ترامب للصهاينة و الإجحاف الذي لحق بالفلسطينيين٬ و إرضاء الجناح اليساري في الحزب و كذلك جي ستريت الذين يؤمنون بضرورة ضمان الحقوق الفلسطينية. هل سيحافظ على الامتيازات الممنوحة من ترامب لإسرائيل أو أن يمنحها امتيازات أكبر٬ أو يتراجع عن ذلك. فإذا أراد أن يقوم ببعض التعديلات بشأن بناء المستوطنات و يمنح الفلسطينيين بعض المساعدات٬ فإنّ ذلك سوف يثير اليمين المتطرّف و الترامبيين و يجعل منهم أحد التحديات ممّا يتحتّم على فريقه أن يركّز اهتمامه عليه. و هناك موضوع آخر و هو الأزمة السورية٬ فهي من ناحية تشكّل مظهراً لحضور غير شرعي للقوات الأمريكية في سورية٬ و سرقة آبار النفط و أموال الشعب السوري٬ و إن كان ذلك يتمّ تحت مظلة محاربة داعش. و لكن على بايدن أن يبحث عن معادلة لتبرير إجراءاته في هذا المجال. بالنسبة لموضوع الحضور غير الشرعي للقوات الأمريكية في شرق الفرات٬ و جنوب شرق سورية٬ فإنّه من الناحية الجيو-ستراتيجية ربما لن يظهر رغبة في الخروج من سورية. و من ناحية ثانية٬ فإنّ التعاون مع أكراد سورية و دورهم في خدمة الأهداف الأمريكية٬ و الذي سيجعل من الانسحاب من الأراضي السورية تحدياً آخر أمام بايدن. و بالنسبة لموضوع العراق فإنّه سيجد أمامه تحديات أعمق هناك.
الفصلية: أعتقد أنّه مادامت طُرحت القضايا الإقليمية فلا بأس أن نعرّج سريعاً على العلاقات بين تركية و الولايات المتحدة. طبعاً لا ننوي في هذه الفقرة تناول قضايا المنطقة بصورة مفصلة و شاملة. ما رشح من مسرح الانتخابات الأمريكية يشير إلى أنّ التحديات التركية ستكون بالنسبة لإدارة بايدن أكبر بكثير عمّا كانت عليه مع إدارة ترامب.
د. کاملی: نعم إنّه كذلك٬ إنّ طبيعة سلوك بايدن و مواقفه إزاء أردوغان و تعاونه مع الأكراد و أهدافه التوسعية و طبيعة التدخل العسكري الأمريكي في سورية يدلّ على تعقيد التحديات مع تركيا. لا أريد أن أخوض هنا في تفاصيل هذه الأمور٬ و لكن سأفعل ذلك حيثما تطلّب الأمر. بالإضافة إلى الموضوع التركي٬ هناك الموضوع الإيراني و الذي يشكّل أحد الموضوعات الرئيسية التي سيتمّ مناقشتها في الموضوع الإقليمي. 
الفصلية: ناقشنا موضوع إحياء مشروعية أمريكا و هيبتها و زعامتها. فتمّت الإشارة في هذا الصدد إلى مسألة العودة إلى الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية باريس أو الاتفاق النووي أو خطوات من هذا القبيل. عندما ننظر إلى الفريق السياسي و الأمني لبايدن٬ فإنّ الانطباع الأولي الذي يتولّد هو أنّ معظمهم من رجال إدارة أوباما و بأفكار قوية و من أنصار السيدة كلينتون٬ بالإضافة إلى شخصيات نافذة في يسار الحزب الديمقراطي٬ و جميعهم ممّن لهم مواقف و سوابق معروفة و واضحة٬ و من الذين دعموا بنحوٍ أو بآخر التدخل العسكري في ليبيا و سورية و حتى في اليمن. أفلا تعدّ هذه الأمور تناقضاً صريحاً مع التوجّه الدولي للإدارة الجديدة و تشكّل تحدياً لإعادة الهيبة المفقودة للولايات المتحدة على الصعيد الدولي. علاوة على ذلك كيف تقيّمون آثار و نتائج السياسة التدخلية للفريق السياسي و الأمني لبايدن و نظرتهم إزاء قضايا منطقة الشرق الأوسط؟ 
د. أحمدي: اختلف قليلاً مع ما تفضّل به الأساتذة الكرام٬ لعلّ ذلك يعود إلى إلحاحي على الإطار الذي أتمسك به. باعتقادي أنّ منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا لا تعدّ جزءاً من التحديات التي تواجه الولايات المتحدة. و لدينا تفسير في سطر واحد لهذا الرأي. كلّنا اتفقنا في هذه الندوة على أنّ‌الولايات المتحدة تواجه مشكلة داخلية ملحّة للغاية تتفرّع إلى فرعين اجتماعي و اقتصادي. هذه النقطة الأولى أودّ طرحها. النقطة التالية هي أنّه لا شكّ في أنّ إدارة بايدن ستتعامل مع الصين بوصفها أكبر تهديد للولايات المتحدة. النقطة الثالثة٬ أنّ منابع أمريكا و قوتها تشهد نضوباً و انحساراً. و لسنا نحن فقط الذين نتحدّث عن هذه الأمور٬ بل هم أنفسهم يصرّحون بها و يؤكّدون عليها. إذا وضعنا هذه النقاط الثلاث إلى جانب بعضها البعض سوف نصل إلى أنّ الولايات المتحدة تمتلك بشكل عام مجموعة محدودة من القدرات و القوة و المنابع و الفرص. و لم يعد وضعها شبيهاً بما كانت عليه قبل عشرين سنة. في الأوضاع الراهنة في العالم٬ لم تعدّ الفوارق و التمايزات بين البلدان تشكّل رقماً مهماً٬ و إنّما صار الأمر تصاعدياً٬ بمعنى أنّك إذا أضعت سنة واحدة٬ فإنّك ستتخلّف عن الآخرين عشرين سنة. هذه المسألة يجب أن يتمّ دركها و فهمها من قبل المسؤولين في الجمهورية الإسلامية و تصبح أساساً للعمل في الساحة الدولية. التحوّلات و القوانين الدولية تتبلور بشكل عرفي و تتعملن ضمن مسار تطوري متكامل ولا تنتظر أيّ بلد. و هذا يتطلّب إدراكاً عميقاً و أقصى استفادة للتهديدات و الفرص. 
د. یزدان فام: هناك متغيّر آخر أودّ أضيفه إلى النقاط أو المتغيّرات الثلاثة التي ذكرتموها منعاً للتكرار و هو أنّ الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى منابع النفط في الشرق الأوسط كما كانت في السابق. 
د. أحمدي: هذا صحيح٬ لكنّي لم أرغب في ولوج هذه المسألة. و على أيّ حال٬ إذا نظرنا إلى هذه المتغيّرات الثلاثة مجتمعة سوف نستنتج بأنّ على الولايات المتحدة أن تعمل على تهدئة بعض المناطق٬ أي كما فعل الشاه عباس الصفوي. فكان يهدّئ شرق البلاد فيتّجه إلى غربها للحرب. و كذلك تفعل أمريكا في منطقتنا حيث تعمل على تهدئتها. لذا إمّا أن تقوم هي بهذه المهمة أو أن تنيط بالآخرين مسؤولية ذلك. و تندرج هذه السياسة في إطار استراتيجية التوازن عن بعد. يقول ستيفن والت المفكر الواقعي الأمريكي مخاطباً المسؤولين في الإدارة الأمريكية: من سمح لكم بأن تقوموا بنشاطات في هذا البلد أو ذاك. مسؤوليتكم هي أن تنفقوا أموال و ثروات البلاد في مجالات التعليم و التكنولوجيا و الأقسام التي تتضمن القيمة المضافة لكي تتيحوا القدرة على المنافسة مع المنافسين الآخرين في المستقبل. لكنّكم بتدخلاتكم تعملون على استنزاف قدرات أمريكا و قوّتها. لهذا السبب فإنّ الولايات المتحدة لن تركّز اهتمامها بعد الآن على منطقة الشرق الأوسط٬ و ستضع الصين و القضايا الداخلية في صلب اهتمامها من أجل مستقبل أمريكا. 
إذا استطاعت إدارة بايدن أن تمضي وفقاً لهذا المنطق٬ فإنّها ستحاول تخفيض التوترات في المنطقة و ستنيط بالآخرين مسؤولية ضمان أمنهم. طبعاً هذه الاستراتيجية بدأ تطبيقها في عهد أوباما و كانوا بصدد عملنتها. من هنا فإنّ‌إناطة المسؤولية بالآخرين ستتمّ في إطار تشكيل التحالفات و الائتلافات. لذا من المتوقع أن يتزايد دور أوروبا في هذه المنطقة بشكل مضطرد. أي أنّ أوروبا سوف تسعى إلى توسيع دورها من فنلندا إلى مضيق جبل طارق لتضطلع بمسؤولية إدارة الأزمات الدولية المحيطة بها و تؤدّي دورها في هذا الصدد. أو بعبارة أخرى سيتمّ توزيع الأعمال و الأدوار. فسوف تنهض أوروبا بمسؤولية القضايا المحيطة بها٬ أمّا قضية الصين فستقع مسؤولية متابعتها على عاتق الولايات المتحدة. و في الحقيقة إنّ توزيع الأدوار هذا يبدو منطقياً و إلى حدّ بعيد واقعياً و عملياً. و في هذه الحالة أعتقد أنّ ثقل منطقة الشرق الأوسط سيقلّ و كذلك ثقل إيران في ميزان الولايات المتحدة. اللهم إلّا إذا استجدّت أحداث و شكّلت أزمة أمنية حينذاك ستزداد احتمالات تدخل أمريكا. تقول نظرية أو استراتيجية خلق التوازن عن بعد بوجود ثلاث مناطق٬ و النقطة الرئيسية هي أن‌توازن القوة في هذه المناطق الثلاث يجب أن تظلّ لصالح الولايات المتحدة للأبد. هذه المناطق هي: شرق آسيا٬ و أوروبا و قربها من روسية٬ و الشرق الأوسط. فأولوية أمريكا في هذه المناطق هو المحافظة على توازن القوى لصالحها. و إذا لم يتعرّض توازن القوى الراهن في هذه المناطق لأيّ تغيير جوهري٬ فلن تعمد الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري٬ و ستعمل على إدارة القضايا عبر الآليات المختلفة. في الظروف الحالية تسعى أوروبا إلى تعزيز دورها في منطقة الشرق الأوسط٬ فهناك تحالفات يتمّ تشكيلها بين بعض دول المنطقة. و إن‌كانت هذه المسارات في الوقت الحاضر تتم بحكم الأمر الواقع٬ لكنّ العمل جارٍ على قدم و ساق خلف الستار لإضفاء صبغة رسمية عليها. و في نفس هذا السياق يطرح الموضوع التركي. فهذا البلد أيضاً لن يشكّل هاجساً رئيسياً للولايات المتحدة و ذلك لأنّ انعطافات تركية كثيرة و حادة و غريبة في نفس الوقت٬ فحكومة هذا البلد اعتادت على تغيير مواقفها بسرعة. فتحركات السيد أردوغان في سورية و تعاونه مع روسية و تنفيذ صفقة منظومة الدفاع الجوية أس 400 و مغامراته في شرق المتوسط و غير ذلك كلّها من أجل ابتزاز أوروبا و الولايات المتحدة. لهذا السبب لا يمكن أن ننظر إلى أفعال تركية و انفعالاتها تجاه محيطها على أنّها تحوّل استراتيجي.

الجزء الثاني في العدد القادم إن شاء الله.


قراءة: 521