فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

حرب قره باغ؛ الماضي و الحاضر و المستقبل

حسن بهشتي بور
صحفيّ و خبير بشؤون منطقة آسيا الوسطى و القوقاز و تركيا

تلخيص:
اندلعت جولة جديدة من الحرب في قره باغ الجبلية في منطقة القوقاز الجنوبيّ الاستراتيجية في السابع و العشرين من سبتمبر/أيلول (٢٠٢٠ م)، و خلافاً للجولات السابقة من الحرب في تلك المنطقة و التي كانت تنتهي بعد مرور أيّام قلائل، فقد استمرّت الحرب الأخيرة مدّة (44) يوماً و ذلك للكثير من العوامل و الأسباب. و على الرغم من أنّ تاريخ الحرب في قره باغ يعود إلى العشرين من فبراير/شباط من عام (١٩٨٨ م) عندما كان كلّ من الشعب الأرمنيّ و الآذربيجانيّ يعيشان بسلام في جمهوريّتيْن متجاورتيْن تربطهما حدود مشتركة يبلغ طولها (٩٩٦) كيلومتراً داخل الاتّحاد السوفياتيّ (سابقاً)، إلّا أنّ جذور الخلاف تعود إلى سنوات أبعد من ذلك.
سنحاول في هذه المقالة الإشارة إلى عوامل الخلاف بين الجمهوريتيْن و منها استمرار حالة اللاحرب و اللاسلم خلال الـ 26 سنة الماضية، ثمّ الإجابة عن السؤال الأصلي و هو: «لماذا لم يتمّ حلّ مشكلة قره باغ منذ إبرام اتّفاقية وقف إطلاق النار في الثاني و العشرين من مايو/أيّار ١٩٩٤ م و حتى اتّفاقية موسكو في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٢٠ م؟»
للإجابة عن هذا السؤال المهمّ كان لا بدّ من البحث في دور اللاعبين في الداخل و الخارج في الحرب المذكورة؛ يُضاف إلى ذلك و بالنظر إلى الكثير من القرائن و الشواهد الموجودة عكفنا على دراسة الأسباب التي أدّت إلى نشوب الحرب الأخيرة و مسار التحوّلات القادمة بعد اتّفاقية (موسكو)؛ و في الختام ناقشنا دور الدول الأخرى و موقفها في حلّ أزمة قره باغ و استقصاء الحلول المتوفرة لإنهاء هذه الحرب العبثية.

 

 

 طُرح مقترح التوقيع على اتفاق وقف اطلاق النار بين أذربيجان و أرمينيا في الرابع من مايو/ إبريل 1994 م من قبل روسية في اجتماع المجمع البرلماني لرابطة الدول المستقلة في بيشكك عاصمة قرقيزستان. إلّا أنّ المفاوضات بين أذربيجان و أرمينيا لم‌تسفر عن أيّ نتيجة. و كان مردّ الاختلاف الجوهري في وجهات النظر بين الطرفين هو منح المجتمع الأرمني في قره باغ مكانة متساوية أسوة بأذربيجان و أرمينيا في البروتوكول. و بعد انتهاء المفاوضات بين الرئيس الأذربيجاني حیدرعليوف و الرئيس الروسي بوريس یلتسین وقّع طرفا الصراع أذربيجان و أرمينيا في الثامن من مايو/ أيار 1994 م على اتفاق لوقف اطلاق النار بعنوان «بروتوكول بيشكك»، ليصبح ساري المفعول في الثاني عشر من الشهر نفسه، و منذ ذلك الوقت توقّفت العمليات العسكرية على خطوط التماس في جبهات القتال. و وفقاً للمبادرة الروسية كان على رئيسي أذربيجان وأرمينيا التوقيع على «اتفاقية السلام الكبرى» التي أعدّت بعد اتفاق وقف إطلاق النار. بناءً عليه، وقّع زعماء الأرمن في قره باغ و أرمينيا على وثيقة وقف إطلاق النار، ثم أعقب ذلك في الثامن عشر من مايو/ أيار 1994 م توقيع رسول قليوف رئيس المجلس الوطني في أذربيجان و نظامي بهمنوف رئيس جمعية الأذربيجانيين في قره باغ الجبلية في ذلك الوقت على الوثيقة و بحضور فلاديمير كازميروف الرئيس الروسي لمجموعة مينسك لمجلس الأمن و التعاون الأوروبي. و غداة التوقيع على الوثيقة شُكّلت لجنة دائمة من مجلس التعاون و الأمن الأوروبي لمراقبة تنفيذ اتفاقية وقف اطلاق النار في منطقة قره باغ الجبلية.
Bell, Christine (2005). Peace Agreements and Human Rights. Oxford: Oxford University Press. p. 326.

 

 

 

 

 

عرض المشكلة:
مع نشوب الحرب في قره باغ في يوم الأحد (٢٧ سبتمبر/أيلول ٢٠٢٠م) و المناطق الآذربيجانية التي تقع تحت سيطرة الأرمن في قره باغ، استيقظت المنطقة و العالم أجمع على دويّ المدافع في حرب كانت قد نُسيت و أُسدِل عليها الستار. في الأيام الأولى للحرب كان الاعتقاد السائد أنّ عُمر هذه الحرب سيكون قصيراً كتلك التي وقعت في يوليو/تموز الماضي و التي لم تستمرّ سوى أيّام قليلة و أنّها سرعان ما ستنتهي، لكن، مع تصاعد الاشتباكات و تحرير أذربيجان لبعض المناطق و القرى التي كانت مُحتلّة دلّت جميع المؤشّرات و التحوّلات اللاحقة على أنّ هذه الحرب ستطول أكثر من سابقاتها. و يبدو أنّ أذربيجان كانت عازمة هذه المرّة على تحرير مدنها و هي (كلبجر و قبادلي و جبرائيل و فضولي و زنكلان و آغ دام و لاتشين و شوشا) من قبضة القوات الأرمنية و سيطرتها.
ولمّا كانت جبهات القتال بين أذربيجان و أرمينيا تقع بشكل رئيس على مقربة من الحدود الشمالية للجمهورية الإسلامية في إيران و ورود أخبار عن دخول عناصر تكفيرية شاركت في الحرب السورية إلى تلك المنطقة للمشاركة في تلك الحرب و انتشارها في مناطق الصراع بين القوات الأذربيجانية والأرمنية، فقد ازدادت الشكوك بوجود خطّة لزعزعة الأمن و الاستقرار في المناطق الشمالية لإيران ممّا دفع الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى نشر قوّاتها العسكرية في المناطق الحدودية شمال البلاد كما أبلغت طرفي الصّراع بأنّها لن تتوانى عن مواجهة العناصر التكفيرية و الإرهابية، وبالتزامن مع ذلك أرسلت وفداً دبلوماسياً إلى أذربيجان و أرمينيا و روسيا و تركيا يحمل معه مبادرة سلام و ذلك لتسخير جميع إمكاناتها على الصعيدين العسكري و الدبلوماسي للسيطرة على هذه الأزمة. لكنّ المبادرة المذكورة لم تلقَ أيّ ترحيب من الطرفين المتنازعين للعديد من الأسباب٬ وعملياً استطاعت روسيا تثبيت موضع قدم لها في منطقة جنوب القوقاز من خلال الوساطة بين أرمينيا و أذربيجان و إبرام اتفاقية هشّة لوقف إطلاق النار.
والمسألة الأهمّ لإيران في الوقت الحاضر هي كيفية المساعدة على وضع أُسس سليمة و ثابتة للسلام في تلك المنطقة للحؤول دون قيام حركات قومية في شمال إيران نتيجة لإثارة المشاعر في المناطق التي يسكنها الآذريون في إيران؛ و من جهة أخرى مواجهة أيّ تحرّكات تقوم بها العناصر الإرهابية و التكفيرية التي اتّخذت من احتدام الصراع في منطقة جنوب القوقاز ذريعة للانتشار و النفوذ هناك.
المبادئ الأصلية لتحليل الحرب في قره باغ
إنّ و ضع اليَد على الجذور الأصلية للحرب بين جمهورية أذربيجان و أرمينيا يقودنا إلى نتيجة رئيسة و دقيقة مفادها أنّه لا يمكن تقديم تقييم تحليلي و واقعيّ لتلك الحرب و اتّساع نطاقها من دون الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التالية:
١- إنّ الحرب التي وقعت بين جمهورية أذربيجان و أرمينيا ليست حرباً عقائدية أو قومية أو عنصرية، و بناء على ذلك ينبغي عدم تحريف الوقائع الخاصة بهذه الحرب من خلال إثارة المشاعر القومية أو العنصرية أو نسبتها إلى أبناء هذا الدين أو ذلك المذهب، فالهدف الرئيس من هذه الحرب هو السيطرة و السيادة على الأراضي و حسب. صحيح أنّ طرفي النزاع بل و حتى اللاعبين الإقليميين و الدوليين يسعون إلى توظيف المشاعر القومية و الدينية و المذهبية و استغلالها لخدمة مصالحهم الخاصّة و هذه حقيقة لا ينكرها أحد، إلّا أنّ هذه المسألة لا تغيّر الجوهر الأصلي للحرب و هو صراع على السيادة على بعض المناطق، و عليه من الخطأ اعتبار هذه الحرب صراعاً بين الآذربيجانيين و الأرمن أو بين الإسلام و المسيحية.
٢- لقد سعت القوى الأجنبية الإقليمية والدولية إلى استغلال هذه الحرب لصالحها و كلّ حسب إمكانيّاته و قدراته خلال العقود الثلاثة الماضية، فمن ناحية تعتبر روسيا منطقة القوقاز حديقتها الخلفية لأنّها كانت خاضعة لسيطرتها في الـ(١٥٠) سنة الأخيرة و لذلك كانت تبدي رد فعل إزاء أيّ تحرّك في تلك المنطقة؛ و من ناحية أخرى ترى تركيا أنّ منطقة القوقاز جزءاً من التراث العثمانيّ الذي كانت تمتلكه و لذلك فهي تلعب على وتر المشتركات القومية و اللغوية و لا سيّما في جنوب القوقاز.
وأمّا الجمهورية الإسلامية الإيرانية فباعتبارها الدولة الوحيدة التي تمتلك حدوداً مشتركة مع المناطق المحتلة والمتصارعة بالإضافة إلى الكثير من المشتركات التاريخية و الثقافية التي تربطها بشعوب تلك المنطقة، فإنّ هذا يتيح لها أن تلعب دوراً كبيراً ورئيسياً كقوّة إقليمية في الأزمة و المساعدة على حلّ هذه المُعضلة.
وإلى جانب الجمهورية الإسلامية و روسيا و تركيا هناك دول من خارج المنطقة مثل الولايات المتحدة الأمريكية و كذلك الاتّحاد الأوروبي في إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي  فضلاً عن الكيان الصهيونيّ، هؤلاء جميعاً هم لاعبون أساسيون بذلوا جهوداً حثيثة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة لتسويغ حضورهم اللامشروع في تلك المنطقة بهدف بيع السلاح و العتاد و الحصول على امتيازات كثيرة و تأسيس قواعد عسكرية و الإبقاء على حالة اللاحرب و اللاسلم.
٣- على الرغم من أنّ جمهورية أذربيجان استطاعت في الجولة الأخيرة من الحرب استرجاع بعض المناطق التي كانت مُحتلّة من قِبَل أرمينيا إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الأزمة الراهنة في العلاقات بين جمهورية أذربيجان وأرمينيا ليس لها حل عسكري٬ لأنّه ليس لدى أيّ من الطرفين القدرة على إقصاء الطرف الآخر نهائياً عن طريق القوة العسكرية، و لهذا اتّفق الطرفان في نهاية المطاف على قبول الوساطة الروسية و الجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى حلّ دبلوماسيّ. و هكذا، فإنّ طرفيْ الحرب يعلمان أنّه لتحقيق السلام الدائم بينهما لا سبيل أمامهما سوى سلوك طريق الحلّ السياسي والدبلوماسي وذلك لشعورهما بأنّهما اليوم في أمسّ الحاجة من أيّ و قت آخر إلى إنهاء الصراع بينهما و الدخول في مفاوضات سلام شاملة و أنّ ذلك يُعدّ ضرورة مُلحّة، ناهيك عن أنّ مصالح القوى الدولية لا تسمح بسيطرة أحدهما على الآخر بشكل كامل.
٤- لا بدّ من التنبيه إلى أنّ أيّ مبادرة سلام شاملة للوصول إلى اتفاقية للسلام و الأمن الراسخ في منطقة جنوب القوقاز ككلّ و منطقة قره باغ على وجه التحديد، تقتضي استحضار أمريْن رئيسيْن:
الأوّل: الاعتراف بسيادة كلّ بلد على أراضيه و الحفاظ على حدوده، و لهذا يجب عدم المسّ بالجغرافيا السياسية لمنطقة القوقاز٬ إذ لو تقرّر فصل منطقة قره‌باغ عن جمهورية أذربيجان ثمّ تطبيق هذا النموذج على مناطق أخرى التي تدعو إلى الانفصال في جنوب القوقاز مثل أوسيتيا الجنوبية (South Ossetia) و أبخازيا (Abkhazia) في جورجيا1 و في الشيشان و داغستان (في شمال القوقاز) و المناطق الأخرى، لو تقرّر ذلك لكانت النتيجة انهيار الأمن في بُلدان المنطقة.
الثاني: الاعتراف بحق الأكثرية في تقرير المصير٬ و هذه المسألة في غاية الأهمية لا سيّما بالنسبة إلى القاطنين في قره باغ حيث يشكّل الأرمن فيها الأكثرية، فإذا تمّ تجاهل حقوق هذه الأكثرية في حصولها على الحكم الذاتي فإنّ الأزمة في هذه المنطقة ستكون كالنار تحت الرماد و من الممكن أن تندلع الحرب فيها من جديد متى سنحت الظروف لذلك2.
اللاعبون الرئيسيون والمؤثّرون في حرب قره باغ
إذا أردنا تحليل حقيقة الحرب في قره باغ بشكل واقعيّ فلا ينبغي الاكتفاء بمناقشة دور العوامل الداخلية فقط، أي اللاعبين الأصليين في أرمنستان قره باغ و أذربيجان، بل لا بدّ من تسليط الضوء أيضاً على اللاعبين الأجانب و مصالحهم التي تقتضي خلق الأزمة واستمرارها إلى جانب العوامل الداخلية. وبناءً عليه٬ يمكن تلخيص العوامل الداخلية للأزمة في مطلب الأكثرية الأرمنية في تقرير مصيرها و وإلحاقها بأرمينيا، و من جهة أخرى مطلب الأكثرية في جمهورية أذربيجان في الحفاظ على سيادتها على أراضيها و على منطقة قره باغ.
وهنا لا ينبغي لنا تجاهل رغبة قادة أرمينيا و جمهورية أذربيجان في السيطرة على العُمق الاستراتيجيّ في قره باغ و توظيف ذلك لأجل تدعيم أركان الحكم، لكن بغضّ النظر عن هذا الموضوع فإنّه يمكن تصنيف اللاعبين الأصليين في أزمة قره‌باغ إلى قسميْن رئيسيْن:
أ- اللاعبون الداخليون المتسبّبون بالأزمة واستمرارها
يصنّف اللاعبون الداخليون لأزمة قره باغ الذين يعيشون في وسط الأزمة و كان لهم دور في إشعالها واستمرارها إلى ثلاث فئات:
١) أرمن قره باغ 
أشار دستور الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) المعدل إلى المصير السياسي و الحقوقيّ لمنطقة قره باغ الجبلية بالشكل التالي: «تُعتبر نخجوان – الجمهورية ذات الحكم الذاتي في الاتّحاد السوفياتي الاشتراكيّ – و ولاية قره باغ الجبلية ذات الحكم الذاتي جزءاً من جمهورية أذربيجان الاشتراكية»3.
وعلى الرغم من استياء الأرمن من هذا التقسيم لكنّهم لم يحظوا بفرصة للاعتراض في عهد (ستالين)، و بعد وفاة هذا الأخير و بدء مرحلة إزالة آثاره و تَركاته في كلّ الاتّحاد السوفياتي ظهرت حركات جديدة في نشاطات الأرمن.  في التاسع عشر من مايو/أيّار من عام (١٩٦٣ م) قدّم (٤٥٠٠) أرمنيّ من سكنة قره باغ عريضة إلى (نيكيتا خروتشوف) بيّنوا فيها استياءهم من استمرار تعامل جمهورية أذربيجان معهم على أساس التمييز العنصريّ و الاعتداء على حقوقهم، لكنّ (خروتشوف) لم‌يقم بأيّ خطوة للاستجابة لتلك العريضة4.
وبعد مجيء (غورباتشوف) إلى السلطة في مارس/ آذار عام (١٩٨٥ م) و ما طرح من حديث حول الانفتاح السياسي في تلك الفترة و التي عُرفت بـ (غلاسنوست Glasnost) وجد الأرمن فضاءً جديداً مفتوحاً أمامهم لكي يعربوا عن اعتراضهم و استيائهم، فعمدوا إلى إيجاد خلايا سريّة في منطقة قره باغ و أرسلوا العديد من الرسائل إلى قادة الاتّحاد السوفياتي و المسؤولين في الحكومة المركزية ونجحوا من تبديل مطلبهم إلى قضية رأي عامّ أرمني. و في أوائل عام (١٩٨٨ م) تصاعدت موجات الاحتجاج في قره باغ فاضطرّت موسكو إلى التوسّط لحلّ هذه الأزمة، لكنّ البرلمان المحليّ في قره باغ أعلن في الثاني عشر من يونيو/حزيران من عام (١٩٨٨ م) أنّ مقاطعة قره باغ جزء من جمهورية أرمينيا، و بعد ثلاثة أيام من ذلك أيّد البرلمان الأرمنيّ الإعلان المذكور و صادق عليه. و كانت جمهورية أرمينيا قد استندت في قرارها المذكور إلى المادّة (٧٠) من دستور الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) الذي اعترف بحقّ الشعوب في الحكم الذاتي و التحاقها بأيّ جمهورية من جمهوريّاته، إلّا أنّ جمهورية أذربيجان اعترضت على قرار البرلمان الأرمنيّ بشدّة و لم تعترف به5.
ومنذ ذلك الوقت دخل الأرمن في منطقة قره باغ في صراع مع حكومة (باكو)، و يُذكَر أنّ (باقروف) – السكرتير الأول للحزب الشيوعي في أذربيجان في ذلك الوقت – لم يتمكّن من اتّخاذ الإجراءات اللازمة للسيطرة على تلك الأزمة بشكل صحيح، ممّا أدّى إلى مَقتل عدد كبير من الأرمن في مدينة (سوميقات) في شمال أذربيجان و اشتعال النزاع من جديد بين الأرمن و الآذربيجانيين هناك، فاكتفت الحكومة المركزية في (موسكو) بإعدام ثلاثة من الأذربيجانيين المتطرفين بتهمة الاشتراك في قتل (57) أرمنياً في (سوميقات) للتغطية على المشكلة بدلاً من حلّها6.
و بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي فعلياً في الأوّل من كانون الثاني من عام (١٩٩١م) سعى الأرمن في منطقة قره باغ – و بدعم من الحكومة الأرمنية – إلى طرح موضوع المطالبة بالاستقلال الذي كانوا قد بدأوا به قبل سنة تقريباً بشكل جادّ و حثيث، و أمّا جمهورية أذربيجان التي كانت قد ألغت الحكم الذاتي لقره باغ فقد أسهمت عملياً في إيجاد الفضاء المناسب لتحقّق أهداف اتّحاد القوميين الأرمن بقيادة (تربتروسيان) في أرمينيا و (كوتشاريان) في قره باغ وذلك بسبب الخلافات الداخلية بين القوميين في الجبهة الشعبية بقيادة (أبو الفضل علييف) المعروف (ايلتشي بي) و الشيوعيين الموالين لموسكو بقيادة (إياز مطلبوف).
وفي فبراير/ شباط من عام (١٩٩٢ م) احتلّ الأرمن في قره باغ مدينة (خوجالي) و ارتكبوا مذابح بحق المسلمين هناك و استطاعوا خلال سنتيْن ليس فقط السيطرة على منطقة قره باغ بالكامل بل وإقامة علاقات مع أرمينيا، عبر احتلال (کریدور شوشا - لاتشین) ثمّ بعد ذلك أحكموا السيطرة على منطقة (كلبجر) القريبة من قره باغ، كما استطاعوا احتلال مناطق أخرى محاذية للحدود الإيرانية مثل منطقة (فضولي) و (جبرئيل) و بذلك أوصلوا مدينة قره باغ بالحدود الإيرانية7.
ومنذ تلك الفترة أصبحت الأكثرية في قره باغ أي الأرمن الطرف الرئيس في أيّ مبادرة سلام لحلّ أزمة قره باغ بشكل نهائيّ، لكن، و منذ حصول التغييرات في دستور أرمينيا8 و قيام النظام الجمهوريّ البرلمانيّ هناك في الخامس من كانون أوّل (٢٠١٥ م) و كانت من نتيجته أن أصبح رئيس الوزراء الموقع الأول في البلاد بشكل عمليّ، وتراجع نفوذ تيّار القره باغيين داخل الحكومة الأرمنية، و مع و صول (باشينيان) إلى السلطة كرئيس للوزراء في السابع من مايو/أيّار من عام (٢٠١٨م)9 اشتدّ الخلاف بين (إيروان) و (خان كندي)، و وصل ذروته مع اعتقال رئيس جمهورية أرمينيا السابق (كوتشاريان)10 في السابع و العشرين من يوليو/تموز (٢٠١٨م) و هو من أهالي قره‌باغ. و منذ ذلك الحين تراجع تأثير الأرمن في قره باغ في التنافس مع الأذربيجانيين إلى حدّ كبير، و من جهة أخرى لم يحظ الأرمن هناك بأيّ دعم لوجستيّ من قِبَل (إيروان)، و لهذا كان موقفهم في الحرب التي استمرّت (44) يوماً ضعيفاً للغاية و لم‌يجدوا مفرّاً من التراجع و الانسحاب من المناطق التي كانوا يحتلّونها.
٢) أرمينيا
تُعتبر حكومة أرمينيا اللاعب المحلي الثاني في أزمة قره باغ، و قد سعت في المحافل الدولية خلال الأعوام الثلاثين الماضية إلى إلقاء مسؤولية احتلال المناطق السبع في أذربيجان على عاتق الأرمن في قره باغ أنفسهم، و تنصّلت من تنفيذ قرارات مجلس الأمن الأربعة في السنوات الماضية11 و التي طالبت جميعها بخروج القوات الأرمينية من المناطق التي كانت تحتلّها، فإنّ الحكومة الأرمينية تعزو الخلاف بين الأرمن في قره باغ و حكومة أذربيجان على بسط السيادة على قره باغ هو السبب في استمرار احتلال قره باغ؛ ولكن، في الحقيقة الجميع يعلم أنّه لولا الدّعم الذي قدّمته القوات الأرمينية للأرمن في قره باغ و لولا الدعم الأرميني الشامل في  إيصال الوقود و المواد الغذائية إلى قره باغ ما كان الأرمن في قره باغ قادرين على الصمود لوحدهم و الاستمرار في احتلال المناطق الأذربيجانية مدّة ثلاثين عاماً.
وبناءً على ذلك فإنّ أرمينيا و انطلاقاً من أطماعها في تحقيق حلمها بتأسيس أرمينيا الكبرى تسعى إلى السيطرة على مناطق قره باغ و كلبجر و نخجوان و بعض المناطق الأخرى شرق تركيا ؛ و لكن بما أنّه من الصعوبة بمكان بالنسبة لأرمينيا تحقيق مثل هذا التغيير في الجغرافيا السياسيّة على هذا النطاق الواسع فإنّها في الوقت الحاضر ماضية في تنفيذ نفس المخطط الذي اتّبعته تركيا في شمال جزيرة قبرص عام (١٩٧٤ م)12.
لكنّ هذه التجربة في الحقيقة أصبحت ذريعة تتمسّك بها أرمينيا بدعوى حماية حقوق الأرمن في قره باغ و كذلك استعمال القوة العسكرية لتغيير الحكم في تلك المنطقة، و هو نفس الأمر الذي قامت به الولايات المتحدة عندما دعمت انفصال إقليم الحكم الذاتي في كوسوفو عن صربيا عام (١٩٩٩ م).
وفي السنوات الأخيرة تراجعت قدرة أرمينيا على لعب دور في حرب قره باغ و ذلك للعديد من الأسباب على رأسها العوامل الاقتصادية التي جعلتها تعيش ظروفاً اقتصادية سيئة و متدهورة في ضوء المؤشرات الاقتصادية الأخرى مثل معدّل نمو السكّان و الناتج المحلي و البطالة و التضخّم. و لهذه الأسباب اضطرّت أرمينيا إلى الاستعانة بالدعم الذي تحصل عليه من روسيا وبعض الجاليات الأرمنية في أوروبا والولايات المتحدة وذلك لتأمين احتياجاتها الضرورية. و قد بلغ مُعدّل الناتج المحلي لأرمينيا عام (٢٠١٩م) أقلّ من ٤٠٠٠ دولار13، و خلال هذه السنوات ساعدت تركيا على تفاقم الأوضاع الاقتصادية في أرمينيا و ذلك عبر غلق حدودها المشتركة معها، كما قامت في سنة (١٩٩٣ م) بإغلاق المعبرين الواقعين على الحدود الغربية لأرمينيا والبالغة طولها ٣١١كم و اللذيْن يُمثّلان البوابة الرئيسة لأرمينيا نحو الغرب ردّاً على احتلال القوات الأرمينية لقره باغ  وتضامناً مع أذربيجان، و كانت أرمينيا تعتمد خلال السنوات الثلاثين الماضية على شبكة الطرق المؤدية إلى الحدود الإيرانية في الجنوب و بعض الطرق الأخرى التي تربطها بجورجيا في الشمال، ولكن بسبب العقوبات التي فُرضت على إيران لم تستطع أرمينيا من تطوير علاقاتها التجارية معها، و لم تشأ أو لم تستطع جورجيا – وهي إحدى حُلفاء الغرب – تقديم يد العون لأرمينيا وانتشالها من أوضاعها السيئة في السنتين الأخيرتين.
وأمّا العامل الثاني فهو ظهور المشاكل بين أرمينيا و روسيا، فمنذ أبريل/نيسان عام (٢٠١٨ م) عندما أمسك (باشينيان) بزمام الأمور في أرمينيا ساءت العلاقات الاستراتيجية بين بلاده و روسيا بسبب ميوله الغربية، و بالنتيجة فقد أدّى دعم موسكو و حمايتها لإيروان في الحرب الأخيرة إلى إضعاف أرمينيا بشكل لم تشهده خلال السنوات الثلاثين الماضية فلم يكن أمام (باشينيان) أيّ خيار آخر سوى قبول اقتراح موسكو لوقف إطلاق النار في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي14.
٣) أذربيجان
تُعتبر أذربيجان اللاعب المحلي الرئيسي الثالث في أزمة قره باغ، ففي السنوات الأولى من استقلالها برزت اختلافات جوهرية بين ثلاثة تيارات رئيسية في البلاد هي التيار القومي المدعوم من قِبل تركيا و التيار الغربي المستند إلى الولايات المتحدة و الشيوعيين القدماء الموالين لروسيا في داخل البلاد، و استطاعت أذربيجان بالتدريح بعد وصول حيدر علييف إلى السلطة في باكو في الرابع عشر من يونيو/حزيران من عام (١٩٩٣م)خلق نوع من التوازن في علاقاتها مع تركيا و إيران من جهة و مع روسيا و الولايات المتحدة من جهة أخرى، و بذلك استطاع إخراج أذربيجان من الظروف المتأزّمة التي كانت تعيشها وأسّس حكومة قادرة على إدارة البلاد. و بعد وفاة حيدر علييف عام (٢٠٠٣ م) تسلّم السلطة في أذربيجان ابنه إلهام علييف كوريث وحيد له، فواصل الابن سياسة أبيه الداخلية و الخارجية، و بفضل ازدياد الدّخل الناجم عن بيع الغاز و النفط15 تمكّنت أذربيجان من شراء الكثير من الأسلحة من روسيا و إسرائيل و تركيا خلال السنوات العشر الماضية فاستطاعت أن تحقّق تفوقاً عسكرياً ملحوظاً على أرمينيا16.
في الواقع استطاعت أذربيجان توظيف ستّة عوامل مؤثّرة لصالحها في حربها مع أرمينيا: أوّلاً: تفوّقها العسكريّ مقارنة بأرمينيا خلال العقديْن الماضييْن، ثانياً: بروز الاختلافات في وجهات النظر بين إيروان و موسكو – و هو ما بيّناه آنفاً –٬ ثالثاً: ظهور الخلاف بين الأرمن في قره باغ و بين أرمينيا نفسها، رابعاً: الدّعم المباشر الذي حصلت عليه من تركيا و الذي لم يقتصر كما في السابق على التأييد الإعلامي و حسب و غلق الحدود بوجه أرمينيا بل تجاوز إلى تقديم الدعم العملي المباشر و غير المباشر لأذربيجان، خامساً: دعم إيران في أعلى مستوى لإنهاء احتلال المدن الأذربيجانية، سادساً: انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات و الخلافات التي أعقبتها و التي أثّرت بشكل حاسم على عدم دعم (ترامب) لأرمينيا بشكل صريح.
في هذه الأثناء لم تكتف روسيا الحليف القديم لأرمينيا بعدم الاستجابة للطلب الرسمي والمكتوب الذي قدّمه (باشينيان) بتوفير الدعم بل أكّدت بشكل عمليّ على ضرورة إنهاء احتلال المدن الأذربيجانية ممّا عزّز موقف جمهورية آذربيجان. و قدأدّت هذه القضيّة بدورها إلى نجاح مساعي روسيا أيضاً في تطبيق وقف إطلاق النار بعد ثلاث محاولات فاشلة لها و من ثَمّ تحرير الأراضي الأذربيجانية التي كانت مُحتلّة من قِبل أرمينيا17.
ب- اللاعبون الأجانب في أزمة قره باغ
لكي نُحلّل بشكل واقعي الأسباب التي أدّت إلى نشوب الأزمة في حرب قره‌باغ واستمرارها فإنّه ينبغي أولاً التعرّف بدقّة على مصالح اللاعبين الأجانب بعد أن‌أوضحنا العوامل الداخلية الثلاثة و العوامل المؤثّرة الأخرى في استمرار الأزمة المذكورة. و يمكن تقسيم اللاعبين الأجانب و العوامل الخارجية في حرب قره باغ كما يلي:
١) روسيا
كانت روسيا و لأكثر من قرن كامل تدّعي أنّ منطقة شمال القوقاز – أي داغستان و التشيشان و إنغوشيا و أوسيتيا الشمالية و قره شاي و المدن الأخرى ضمن هذه المنطقة – هي جزء لا يتجزّأ أبداً من ترابها الأصلي. و أمّا ما يخصّ منطقة القوقاز الجنوبية التي تشمل أذربيجان و أرمينيا و جورجيا فكانت تُسمّى بأسمائها الكلاسيكية و هي جمهوريات الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) و منها الأقطار التي تقع في القوقاز الجنوبي (الجمهوريات المحيطة)، لهذا، فمن وجهة نظر المسؤولين في الكرملين فإنّ القوقاز الجنوبي كان يمثّل منطقة نفوذ والحديقة الخلفية لروسيا التي كانت تسعى دائماً إلى ترسيخ نفوذها و تثبيت موطئ قدم لها في تلك المنطقة من جهة، و من جهة أخرى عدم السّماح للقوى الأجنبية و العالمية بكلّ الوسائل المتاحة لديها بالنفوذ إليها أو السيطرة عليها.
وقد منح حضور روسيا الفعّال في القوقاز الجنوبي على مختلف الصُّعُد العسكرية و الأمنية و الاقتصادية بل و حتى الثقافية، منحها القدرة على حماية و دعم أرمينيا بكلّ الأشكال باعتبارها حليف استراتيجي، و كذلك إقامة علاقات طيّبة و لو محدودة مع جمهورية أذربيجان (بالمقايسة مع علاقتها بأرمينيا)، و قد ذهبت موسكو بعيداً في تطوير علاقاتها مع إيروان بحيث أبرمت معها اتفاقية أمنية جماعية في مدينة (غيومري)18 الأرمنية على الرغم من عدم وجود أيّ حدود مشتركة بينهما٬ وقد بدأ تنفيذ الاتفاقية منذ عام (١٩٩٢م) و لغاية اليوم، و كذلك إيجاد قاعدة عسكرية كبيرة نسبياً تضمّ اللواء (١٠٢)19.
وخلال العقود الثلاثة الماضية أدّت روسيا دوراً رئيساً كلاعب أجنبيّ في أزمة قره باغ، و على هذا الأساس فهي تملك قدرات واسعة للتأثير على مجريات الحرب في قره باغ. و خلال السنوات الثلاثين المنصرمة كان موقف روسيا أقرب إلى أرمينيا من أذربيجان و ذلك للكثير من الأسباب، لكنّ السبب الأصلي هو اهتمام روسيا البالغ بأرمينيا بالمقايسة مع أذربيجان حيث كانت تجمعها روابط حميمة مع الحكومات الأرمينية المتعاقبة و التي قدّمت لروسيا القدر الأكبر من الدّعم منذ استقلال البلديْن و لا سيّما فيما يتعلّق بالعلاقات الروسية مع القوقاز الجنوبي و بذلك كانت أرمينيا تتصرّف كحليف مخلص لروسيا في هذه المنطقة مع المحافظة على سياستها الثابتة تجاه العمل المشترك مع موسكو، بينما سعت أذربيجان إلى تطبيق سياسات متفاوتة إزاء روسيا في العقود الثلاثة الماضية على مختلف الأصعدة و لم تحتفظ بأيّ سياسة ثابتة مع روسيا لأنّ باكو كانت تحرص في تلك السنوات على إيجاد نوع من التوازن الإيجابيّ في علاقاتها مع موسكو و واشنطن.
في أثناء ذلك، و كما أوضحنا، فإنّ وصول السيد (باشينيان) إلى السلطة في إيروان في أبريل/نيسان عام (٢٠١٨ م) كان بمنزلة رسالة إلى الرّوس بأنّ النظام الجديد في أرمينيا يميل إلى المعسكر الغربي، فعمدت موسكو إلى تغيير سياستها مع أرمينيا أملاً في التأثير على العلاقات التي أقامها باشينيان مع واشنطن، بمعنى إظهار استيائها للطرف الأرمني وبشكل غير مباشر عن طريق التقارب مع باكو و تركيا.
فأدّت سياسة موسكو هذه إلى قيام باشينيان بتغيير موقفه شيئاً فشيئاً و طمأنة الرّوس إلى أنّ تقاربه مع الولايات المتحدة و أوروبا لا يعني ابتعاده عن روسيا لأنّه لا يمكن لأرمينيا أن تتجاهل دورها بأيّ شكل من الأشكال.
وبالاستناد إلى ما ذُكر يمكن القول بأنّ روسيا - و من خلال مخالفتها لتوسّع النفوذ الإيراني و التركي في القوقاز الجنوبي - تسعى إلى بترسيخ علاقاتها مع أرمينيا و أذربيجان لكي تستطيع بذلك جذب جورجيا أيضاً إليها بعد محاولات الأخيرة بتوطيد علاقاته مع الغرب في السنوات الماضية و ابتعادها عن روسيا بشكل ملحوظ. كما أنّ روسيا كانت قلقة بشأن تعاظم نفوذ الناتو في جنوب القوقاز عَبر جورجيا20.
هذا، و يمكن إيجاز دور روسيا في حرب قره باغ بالشكل التالي:
١- تعتبر روسيا القوقاز الجنوبي منطقة نفوذها هي و بذلك فهي تُعارض نفوذ أيّ قوّة دولية أخرى في المنطقة سواء أكانت إقليمية مثل إيران و تركيا أو دولية مثل الولايات المتحدة و فرنسا و إسرائيل و غيرها. و لهذا السبب بالذات بذلت روسيا جهوداً حثيثة لتطبيق وقف إطلاق النار بين الأطراف الثلاثة المتصارعة برعايتها لكي تثبت وجودها بشكل عمليّ و أنّها الراعية للسلام باعتبارها وسيطاً في الصراع وليست قوة تدخل٬ و المحافظة على وجودها في القوقاز الجنوبي خلال السنوات الخمس القادمة في الأقلّ.
٢- تُعتبر أرمينيا الحليف الاستراتيجيّ لروسيا في منطقة القوقاز لكنّ روسيا تسعى في الوقت نفسه إلى الإبقاء على علاقات طيبة مع أذربيجان. و في الحقيقة إنّ أزمة قره باغ تُمثّل وسيلة ضغط تستخدمها روسيا لتنظيم علاقاتها مع إيروان و باكو حيثما اقتضت الظروف، و تندرج اتفاقية وقف إطلاق النار التي أُبرمت في العاشر من نوفمبر/تشرين ثان ٢٠٢٠م في هذا الإطار٬ حيث جعلت الاتفاقية المذكورة كلا الطرفيْن مرتبطيْن بروسيا من أجل ضمان تنفيذ وقف إطلاق النار و الوصول إلى اتفاق سلام دائم في تلك المنطقة.
٣- صدّرت روسيا في السنوات الأخيرة مقادير كبيرة من السلاح إلى أرمينيا و بحجم أقل إلى أذربيجان ممّا أكسبها منافع مالية كثيرة، لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو قيام روسيا بتوسيع تواجدها العسكريّ في الوقت الحاضر في أذربيجان بعد أن كانت تفعل ذلك في الماضي في أرمينيا، و مع الأخذ بعين الاعتبار جميع النقاط المذكورة فإنّه من الواضح أنّ روسيا هي الرّابح الأصلي في حرب قره باغ التي دامت 44 يوماً.
٤- إنّ روسيا التي كانت تنتقد سياسة الولايات المتحدة الأحادية على المستوى العالمي اتّبعت هي نفسها تلك السياسة بشكل واضح في المنطقة و لا سيّما فيما يتعلّق بـ«الجمهوريات المحيطة»، أي أنّ روسيا ليست مستعدّة للتعاون مع تركيا أو إيران أو أيّ منظمة دولية أو حتى أوروبا و منظمة الأمم المتحدة بشأن مصالحها التقليدية في منطقة القوقاز.
٢) تركيا
في السنوات الماضية برزت الكثير من الخلافات الجوهرية بين تركيا و جارتها أرمينيا و لهذا كانت تسعى إلى الضغط على أرمينيا عن طريق دعمها لجمهورية أذربيجان، إلّا أنّ خلافات تركيا مع أرمينيا لم تقتصر على حرب قره باغ فقط بل و كذلك بسبب مطالبة أرمينيا لبعض المناطق في شرق تركيا فضلاً عن اتّهام تركيا بمسؤوليتها عن عمليات التطهير العرقي بحقّ الأرمن خلال الحكم العثماني في السنوات ما بين (١٩١٥-١٩١٨ م). و على هذا الأساس استغلت تركيا موضوع قره‌باغ و العلاقات التي تربطها بأذربيجان من أجل تنظيم علاقاتها مع أرمينيا، و من جهة أخرى و عَبر حمايتها للطورانية  فإنّها تميل إلى زيادة نفوذها في القوقاز الجنوبي. و لا بدّ من القول بأنّ تركيا اتّبعت خلال السنوات الأخيرة سياسة براغماتية نوعمّا، بحيث كانت تسعى في مناطق متعدّدة إلى تحقيق أهدافها تحت ذرائع مختلفة، و فيما يتعلّق بأزمة قره باغ فقد تذرّعت تركيا بموضوع الطورانية و حماية الأتراك الآذريّين لكي تلعب دوراً مهمّاً في تلك الأزمة بدعوى أنّ الآذريين هم من قوميّتها، لكنّها عندما تدخّلت في ليبيا (شمال أفريقيا) كانت حجّتها في ذلك العوامل المشتركة التي تجمعها بجماعات الإخوان المسلمين المسيطرة على غرب ليبيا، مدّعية بأنّها من الإخوانيين و أنّه ينبغي لها دعمهم و حمايتهم و الإنفاق عليهم من جيوب القطريين في معركتهم الدائرة ضدّ قوّات الجنرال خليفة حفتر في الشرق الليبيّ. و عندما دخلت سوريا وقتئذ ادّعت في أوّل الأمر أنّها تريد حماية الإخوان هناك في مدينة حماة، و لمّا أحسّت بعد ذلك بأنّ سياستها هذه لن تنفع في إسقاط حكم الأسد غيّرت موقفها و سياستها معاً، و اقتربت أكثر فأكثر من المواقف الروسية و الإيرانية.
ويعزى هذا التغيير في موقف تركيا و استراتيجيتها إلى سياسة رجب طيب أردوغان البراغماتية التي اعتاد عليها فكلمّا شعر أنّه يسير في طريق مسدود عاد ليغيّر سياسته و موقفه.
وعندما دخلت تركيا الأراضي العراقية كانت حجّتها الدفاع عن حقوق التركمان في كركوك و قد مارست أعمالها هناك تحت هذا الشعار، لكنّ الجميع يعلم أنّ السبب الرئيس لدخول تركيا العراق هو مطالبتها ببعض المناطق مثل الموصل وكركوك و ضمّها إليها في إطار سياسة العثمنة التي بدأتها منذ سنوات وما تزال مستمرة، و لهذا نرى أنّ تركيا من جهة تحاول تنظيم علاقاتها مع أرمينيا، ومن جهة ثانية تسعى إلى زيادة نفوذها في منطقة القوقاز الجنوبيّ تحت غطاء الطورانية و حماية الأتراك، لكنّ الهدف الأصلي لأنقرة هو تثبيت وجودها و تحقيق عُمق استراتيجيّ للوصول إلى أسواق القوقاز الجنوبي حيث واجهت في السنوات الأخيرة الكثير من المنعرجات.
كما سعت تركيا إلى التحرّك خلال السنوات ما بين (٢٠٠٧-٢٠٠٩ م) إلى تحسين علاقاتها مع أرمينيا إلّا أنّ اعتراض مجموعات الضغط الأرمنية و كذلك جمهورية أذربيجان أدّى إلى إيقاف ذلك التحرّك.
ويمكن تلخيص دور تركيا في حرب قره باغ بالنّقاط التالية:
١- توسيع العمق الاستراتيجيّ التركي من نخجوان نحو أذربيجان تحت غطاء حماية الطورانية إلى جانب توسيع النفوذ التركي باسم حماية الأتراك و الآذريين.
٢- استغلال الصراع المذكور من أجل تنظيم علاقاتها مع أرمينيا و في الوقت نفسه الضغط عليها للحصول على امتيازات أكبر لبيع السلاح و جعلها سوقاً مزدهرة و هو ما حقّقته لها أذربيجان.
٣- إنّ خيار إطالة أمد الحرب يمكن أن يتسبّب في زيادة فاتورة النفقات العسكرية و الإنسانية و الاقتصادية و الدبلوماسية لكلّ من باكو و أنقرة فيضطرّهما إلى إعادة النظر في مواقفهما الحالية، و لهذا فمن الأفضل لتركيا استمرار حالة اللاحرب و اللاسلم حتى يتمّ البتّ في مشاكلها مع أرمينيا.
٤- إنّ الهدف الأصلي الذي تريده تركيا هو الدخول كطرف في معادلة القوة في القوقاز، و لهذا تجدها تبتزّ روسيا عَبر الصراع المشتعل في سوريا و ليبيا.
٥- قد تسعى تركيا إلى تجاهل مجموعة (مينسك) بشكل كامل واستبدالها بقاعدة جديدة للحلّ بقيادتها هي و روسيا.
٦- يمكن تثبيت آلية الحوار التي تمّت بين تركيا وروسيا في سورية على أساس توافقات آستانة و سوتشي و موسكو، و هناك حوار غير معلن بينهما بشأن ليبيا، وتأمل أنقرة إلى تطبيق نفس هذا النموذج في القوقاز أيضاً.
٧- لا تقتصر أهمية عودة تركيا إلى منطقة القوقاز على مسألة قره باغ و هي تستحضر عقد التسعينات عندما كانت أنقرة مرتاحة للغاية للحرب الشيشانية و القوقاز بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) بشكل عامّ، و يبدو أنّ انتقال الميليشيات من سوريا إلى أذربيجان يؤجّج هذه الهواجس21.
هذا و تبني تركيا و أذربيجان معظم علاقاتهما على أساس مقولة "شعب واحد في بلديْن"، إلّا أنّ الجانب الاقتصادي في هذه العلاقات ما يزال ضعيفاً، فصادرات تركيا إلى أذربيجان و منها الأسلحة لا تتعدّى نسبة (1.3٪) من مجموع الصادرات التركية، أمّا شراء تركيا الطاقة من أذربيجان فيرجع مُعظمها إلى الاتفاقيات طويلة الأمد مع روسيا و إيران و لهذا ظلّت نسبتها دون الحدّ المطلوب. فالواردات التركية من أذربيجان توقّفت عند ٤١١ مليون دولار سنة (٢٠١٩ م) بينما لم تتعدّ صادرتها 1.8 مليار دولار.
أمّا الاستثمارات التركية المباشرة في أذربيجان فقد بلغت ٨ مليارات دولار سنوياً، لكن، بالاستناد إلى معطيات البنك المركزي فقد وصلت الاستثمارات التركية في العام الماضي إلى ٣٢٥ مليون دولار ممّا يشير إلى تراجع أحلام عالم التجارة التركي في بناء سوق عظيمة لها في أذربيجان22.
في مقابل ذلك فقد بلغت الاستثمارات الأذربيجانيّة في تركيا عام ٢٠١٩ م ما يقرب من ٦ مليارات دولار حيث يشكّل ذلك نسبة ٤٪ من مجموع الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في هذا البلد. و تتعلّق معظم هذه الاستثمارات بشركة (سوكار Socar) وقد بدأت بالعمل في عام  ٢٠٠٨ م عندما كانت الشركة التابعة لها و هي (SOCAR Turkey Enerji) تملك (٥١٪) من أسهم شركة (Petkim) التركية للبتروكيماويات. هذا و تعمل مجموعة من شركات الطاقة الأخرى في تركيا تحت إشراف شركة (SOCAR) كما أنّها تمتلك مُعظم الأسهم الخاصة بخط أنابيب الغاز الطبيعي لشركة (ترانس آناتولي)، و قد تمّ إنجاز هذا المشروع الكبير في السنة الماضية لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عن طريق تركيا و صرّحت هذه الشركة بأنّ حجم أسهم استثماراتها في تركيا سيبلغ (19.5) مليار دولار مع انتهاء جميع استثماراتها الحالية23.
٣) الولايات المتحدة
تسعى الإدارة الأمريكية في إطار التعاون مع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي إلى استغلال الأزمات القائمة في القوقاز الجنوبي مثل قره باغ و أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا في جورجيا و تحاول بكلّ وسيلة و ذريعة تثبيت وجودها في تلك المناطق رغم الاعتراضات الكثيرة التي واجهتها هذه السياسة من قِبل روسيا.
لقد استطاعت الولايات المتحدة منذ عام ٢٠٠٣ م توسيع نفوذها و تواجدها في منطقة القوقاز الجنوبي بعد أن ساعدت ساكاشفيلي على الوصول إلى دفّة الحكم في جورجيا، كما عزّزت وجودها الاقتصاديّ في أذربيجان منذ السنوات الأولى لانهيار الاتّحاد السوفياتي من خلال المشاركة في المشاريع النفطية و الغازية في هذا البلد، إلّا أنّ وجود الولايات المتحدة في جمهورية أذربيجان كان يواجه الكثير من العوائق و المصاعب، لكنّها استطاعت مع ذلك تعزيز علاقاتها مع هذه الجمهورية بفضل تطوّر علاقات الأخيرة مع إسرائيل.
ومنذ عام ٢٠١٨ م أي بعد وصول السيد (باشينيان) إلى السلطة في أرمينيا، تمكّنت الولايات المتحدة من تقوية وجودها في المنطقة لكنّها خلال العقود الثلاثة الماضية لم تُبد أيّ رغبة في حلّ قضية قره باغ بعد وقف إطلاق النار لأنّ حالة اللاحرب و اللاسلم توفّر لها أرضية التواجد في المنطقة المذكورة. و قد حاولت الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية تعزيز وجودها في هذه المنطقة من خلال النفوذ في الحديقة الخلفية لروسيا و كذلك المناطق التي تقع في شمال إيران، لأنّها تعلم جيداً بأنّ انتهاء حرب قره باغ بشكل عمليّ سيمهّد الأرضية لاستتباب الأمن والاستقرار و توسيع التعاون بين دول المنطقة ممّا يعني إضعاف الدور الأمريكيّ و تأثيره الفعّال على هذا التعاون المشترك نظراً للنفوذ الروسي في المنطقة.
والولايات المتحدة تعي جيداً أنّها إذا استطاعت تهيئة الظروف لجورجيا لتصبح عضواً في حلف الناتو فستتمكّن من توسيع نطاق الحدود الجنوبية للحلف من تركيا إلى جنوب روسيا في القوقاز، الأمر الذي سيُمثّل كارثة حقيقية بالنسبة لروسيا، و لذلك فإنّ موضوع حرب قره باغ مرهون بمسقبل العلاقات و التنافس بين أمريكا و روسيا في القوقاز الجنوبي. و يبدو أنّ اتفاق وقف إطلاق النار في قره باغ و عودة أجزاء واسعة من الأراضي المحتلّة إلى السيادة الأذربيجانية قد قلّل من حظوظ الولايات المتحدة لاستغلال هذه الأزمة القديمة في المنطقة لصالحها. والآن، لا بدّ من الانتظار لنرى ما إذا كان بمقدور روسيا حلّ مشكلة قره باغ وتقرير مصيرها في إطار توافق ثلاثيّ بين موسكو و باكو و إيروان فقط بعيداً عن مشاركة سائر اللاعبين من خارج المنطقة أم لا؟
تشير جميع القرائن و الأدلّة المتوفّرة إلى أنّ روسيا لا تستطيع وضع حلول نهائية لمسألة قره باغ و تحديد مصير هذه القضية الإقليمية من دون مشاركة إيران و تركيا و منظمة الأمم المتحدة، و ربّما هذا ما دفع الولايات المتحدة التي تعرف هذه الحقيقة إلى تعزيز علاقاتها بأرمينيا و حاكمها (باشينيان)، و لكن من غير المعلوم ما إذا كانت المقامرة على حصان باشينيان الخاسر ستخلو من العواقب الوخيمة.
٤) مجموعة (مينسك) و منظمة الأمن و التعاون الأروبي بمحورية فرنسا
تأسّست مجموعة (مينسك) في الثالث و العشرين من مارس/ آذار عام (١٩٩٢م) في اجتماع هلسنكي في فنلندة، و تشمل (١١) دولة هي: ألمانيا و الولايات المتحدة و فرنسا و إيطاليا و السويد و جمهورية التشيك و تركيا و روسيا البيضاء و روسيا و أذربيجان و أرمينيا. في البدء كانت رئاسة تلك المجموعة منوطة بممثّلين عن روسيا و فنلندة منذ ديسمبر/ كانون أوّل عام (١٩٩٤م)، لكن، و بعد عام (١٩٩٦م) اتّفق الأعضاء على أن يترأس المجموعة ممثّلون عن روسيا و الولايات المتحدة و فرنسا24.
وبسبب تعارض مصالح الدّول المشاركة في المجموعة المذكورة و لأنّ الدّول الأكثر تأثيراً فيها كانت ترغب في استمرار الأزمة في قره باغ لم يتمّ اتّخاذ أيّ قرار حاسم و عمليّ بشأن المشكلة خلال العقود الثلاثة المنصرمة و لا سيّما بعد أن استحوذت روسيا على جزيرة (القرم Crimean Peninsula) الوااقعة في شمال البحر الأسود عام ( 2014 م) و التي كانت تابعة لأوكرانيا و ضمّتها إلى أراضيها، و بسبب الأزمة التي حصلت في العلاقات بين روسيا و أوكرانيا منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا تحوّلت منظمة التعاون والأمن الأوروبي إلى ميدان للصراع بين روسيا و حلفائها من جهة و بين الولايات المتحدة و أوروبا من جهة أخرى، ممّا زاد في عجز المنظمة المذكورة عن حلّ مشكلة قره باغ و ذلك لوجود الكثير من الخلافات الجادّة بين الولايات المتحدة و فرنسا من ناحية و بين روسيا من ناحية أخرى حول عدد من القضايا المتنازع عليها.
وبالاستناد إلى ما تقدّم يمكن القول أنّ مجموعة (مينسك) هي الأقلّ تأثيراً في مجال التنافس في أزمة قره باغ في الوقت الحاضر، لكن من دون شكّ فإنّه في ضوء اللوبي الأرمني في الكونغرس الأمريكي و البرلمان الفرنسي، إلى جانب انحياز الولايات المتحدة و فرنسا الواضح لأرمينيا بالمقايسة مع جمهورية أذربيجان يمكن التأكيد على قدرة المجموعة المذكورة على التأثير إلى حدّ ما في مُعادلات القوى في منطقة القوقاز الجنوبيّ و تعيين مصير قره باغ و مستقبلها بفضل الوسائل التي تمتلكها في أرمينيا و كذلك أذربيجان نوعاً ما.
٥) إسرائيل
سعى الكيان التوسّعي في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة في سياسته الخارجية إلى إيجاد موطئ قدم له في الحدود الشمالية لإيران و لا سيّما في أذربيجان و أرمينيا لكي يتمكّن من تنفيذ عمليّاته و التأثير في أوضاع إيران من مسافة قصيرة25. و يدّعي الكيان الصهيونيّ أنّه لا بدّ من إيجاد موضع له بالقرب من الحدود الشمالية لإيران لمواجهة نفوذها و حضورها في جنوب لبنان المتاخمة لفلسطين المحتلّة26. و رغم أنّ أرمينيا كانت تتجنّب التّقرب من تل أبيب خلال السنوات الماضية للكثير من الأسباب، لكنّ وصول (باشينيان) إلى السلطة فتح الباب أمام تعزيز العلاقات بين أرمينيا و إسرائيل بحيث تمّ افتتاح سفارة أرمينيا في تل أبيب في التاسع عشر من أيلول (٢٠٢٠م)، أي قبل أيّام قلائل من بدء الحملات الجديدة بين أرمينيا و آذربيجان27؛ و أمّا علاقات أذربيجان بتل أبيب فقد كانت وطيدة منذ عهد حيدر علييف و ازدادت قرباً بحيث أصبحت اليوم تشمل الكثير من المجالات السياسية و العسكرية و الأمنية و الاقتصادية و حتى الجانب الثقافي. و تعتقد أذربيجان أنّها - و من خلال الاعتماد على الأسلحة المتطوّرة التي تستوردها من إسرائيل و الاستعانة بالتقنية التركية و الإسرائيلية في صناعة الطائرات من دون طيّار – فإنّ لها اليَد العليا في تدمير القوات الأرمنية و لا سيّما في مجال الدّروع، و قد سعت إلى تأكيد كونها الحليف الاستراتيجيّ لإسرائيل في منطقة القوقاز الجنوبي لكنّها في الحقيقة تجهل أنّ‌التفوّق العسكري وحده لا يمكنه أن يضمن الاستقرار و استتباب الأمن لأيّ بَلد.
وتشير تجربة شاه إيران أنّه لو كان للعتاد العسكري المتطوّر أن يضمن استمرار أيّ حكومة لَما انهار نظامه بهذه السرعة أمام أحداث الثورة الإسلامية عام (١٩٧٨م)، و كذلك الأمثلة الأخرى لبعض الحكومات و الدّول العميلة في العالم فكلّها تشير إلى حقيقة مفادها أنّ القوى اللاعبة تتصرّف وفقما تقتضيه مصالحها و قلّما تهتمّ بمصالح الأنظمة الحليفة لها و خصوصاً إذا ما شعرت بأنّ الطرف الآخر يمكنه أن يحقّق مقداراً أكبر من مصالحها.
ويشير بيتر وزمان عضو معهد بحوث السلام في ستوكهولم (SIPRI) إلى الخطر الأصلي في أزمة قره باغ و المتمثّل في اعتقاد أذربيجان بأنّها قادرة على أن تربح هذه الحرب من خلال اعتمادها على الأسلحة المتطوّرة؛ و في ذلك يقول: «من شأن هذا التصوّر و إن كان سهواً أن يُقلّل من فُرص المصالحة و الاستعداد للتخفيف من العنف!»28.
بناءً على ما ذكرنا فإنّه على الرغم من ضعف التأثير المباشر لنظام تل أبيب على التحوّلات الجارية في قره باغ إلّا أنّه بفضل حضوره الفعّال في أذربيجان و بيعه الأسلحة المتطوّرة لها استطاع أن يؤثّر على مسار الحرب الأخيرة بشكل كبير بحيث أمّن تصدير (٦٠٪) من الأسلحة إلى أذربيجان29 و على رأسها طائرات من دون طيّار من نوع (Harop) التي تستطيع حمل أسلحة هجومية و الوصول إلى أهدافها بسرعة فائقة، و يتمّ صنع هذه الطائرات من قِبل شركة (IAI) التي يقع مقرّها في الأجزاء المحمية في مطار (بن غوريون). و بالإضافة إلى ذلك تبيع إسرائيل لأذربيجان صواريخ بالستية و أنظمة رادار إلى أذربيجان30.
هذا و يحصل الكيان الصهيوني في الوقت الحاضر على ما يقرب من (٤٠٪) من حاجته من الطاقة (النفط) من أذربيجان عَبر خط الأنابيب الممتدّ عَبر باكو-تفليس-جيهان، ممّا جعل هذا الكيان مستغنياً عن مصادر الطاقة الموجودة في الخليج الفارسي. يُضاف إلى هذا فإنّ الكيان الصهيونيّ يُعدّ أحد المُستثمرين الرئيسيين في مشاريع الطاقة و خطوط الأنابيب في المنطقة المذكورة31.
يقول غاليا ليندن شتراوس عضو مؤسسة (INSS) للبحوث الأمنية الوطنية في تل أبيب: «كانت إسرائيل في الماضي تخشى على أمنها في مجال الطاقة بسبب عجزها عن الحصول على النفط من دول الخليج الفارسي و بذلك لم تكن تمتلك مصادر تضمن حصولها على الطاقة، إلّا أنّ تقرّبها من باكو و تعاونها الكبير معها جعل إسرائيل مطمئنة من ناحية توفير الطاقة لمدّة عَقديْن كامليْن».
إنّ تصدير أذربيجان النفط إلى إسرائيل أمّن لها دخلاً كبيراً بحيث أصبحت قادرة على استثماره في الحصول على المُعدّات العسكرية الإسرائيلية، لكنّ أذربيجان لا تعلم بأنّ إسرائيل و من خلال إقامة علاقات متبادلة و وطيدة مع أرمينيا إنّما تحاول إيجاد توازن جديد في منطقة القوقاز الجنوبي32، كما أنّها أصبحت قادرة على الوصول إلى مصادر الطاقة في الخليج الفارسي من خلال تطبيع علاقاتها مع عدد من دول الخليج و على رأسها الإمارات العربية المتحدة.
٦) إيران
إيران هي البلد الوحيد الذي يمتلك حدوداً مشتركة مع كلّ من جمهورية أذربيجان و أرمينيا و نخجوان، و رغم أنّ نخجوان تُعدّ جزءاً من أذربيجان إلّا أنّ مواصلاتها البريّة الوحيدة إلى أذربيجان تمرّ عَبر أراضي الجمهورية الإسلامية في إيران التي ضمنت ارتباط نخجوان بأذربيجان بريّاً خلال السنوات الماضية. و من ناحية أخرى فإنّ بين إيران و أرمينيا أيضاً حدوداً مشتركة و خصوصاً الممرّ الاستراتيجيّ المسمّى (مِغري) حيث يبلغ طول الحدود بين إيران و مدينة (مِغري) حوالي (٤٤) كيلو متراً، و لهذه الحدود تأثير حيويّ و مهمّ بالنسبة إلى أرمينيا لأنّه يضمن ربط شمالها بجنوبها عَبر هذا الممرّ و لا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار المشاكل المزمنة العالقة بين أرمينيا و تركيا في الغرب من جهة و بينها و بين أذربيجان في الشرق، و لهذا تلعب إيران في جنوب أرمينيا و جورجيا في شمالها دوراً مهمّاً في انتقال البضائع و التجارة و خطوط تأمين الطاقة بالنسبة لأرمينيا، كما توفّر الحدود المشتركة بين إيران و أرمينيا وصول إيران إلى جورجيا ثمّ البحر الأسود و منه إلى شرق أوروبا عَبر أرمينيا.
هذا، و قد أتاحت الحدود المشتركة بين إيران و كلّ من أذربيجان و أرمينيا و نخجوان لإيران و بشكل طبيعيّ مزايا عديدة لتلعب دوراً مهمّاً في حرب قره باغ لإحساسها بأنّ زعزعة الأمن و الاستقرار في القوقاز الجنوبي من شأنها أن تؤثّر مباشرة على أمن شمال إيران و استقراره، و لذلك فهي لا تستطيع تجاهل التطورات الحاصلة في تلك المنطقة، كما أنّ استتباب الأمن في القوقاز الجنوبي يمكنه أن يعود بالفائدة على إيران و الدول المحيطة و استقرارها بشكل واضح، و تحت مظلّة الأمن و استقرار السلم هناك ستتمكّن إيران و دول المنطقة من استثمار قدراتها و طاقاتها في التعاون بين الشمال و الجنوب إلى أقصى حدّ. و على هذا الأساس فإنّ السلام في قره باغ يمكن أن يُعزّز العلاقات و التعاون بين إيران و أذربيجان و روسيا من جهة، و من جهة أخرى يوفّر الظروف الملائمة للتعاون الإيراني الأرميني مع جورجيا و البحر الأسود و شرق أوروبا.
وبناءً على ذلك فإنّ المحافظة على علاقات طيّبة مع كلا البلدين المتخاصمين٬ جمهورية أذربيجان و أرمينيا، أمرٌ في غاية الأهمية بالنسبة لإيران فلكي تتمكّن الأخيرة من تثبيت السّلم و الأمن عند حدودها الشمالية لا بدّ لها من الحفاظ على حيادها بشكل فعّال و تعزيز موقفها من خلال الطرق الدبلوماسية المتعدّدة.
ج) الأهمية الاستراتيجية لحياد إيران في حرب قره باغ
بشكل عام لا يمكن لإيران الانحياز لأحد طرفيْ النّزاع في قره باغ بل و لا يصبّ ذلك في مصلحتها و استراتيجيتها إطلاقاً، فلو قامت إيران بدعم أذربيجان في الصّراع فستضع نفسها دون إرادتها في حرب مع أرمينيا بشكل عمليّ حيث تنطوي قضايا الجوار والارتباط البري معها على أهمية كبيرة، فأرمينيا هي الحائل الذي يمنع من أن تصبح سياسة تركيا في شمال إيران وسيلة للضغط على إيران، و عليه، فإنّ ما يهمّ إيران أكثر هو تجنّب دفعها إلى حرب تضرّ بالتعاون الإقليميّ في المنطقة و ذلك من خلال التزامها بالحياد الفعّال و لعب دور الوسيط في الصّراع لأنّ من شأن ذلك ضمان بقاء العلاقات الطيبة مع كلا البلديْن في الشمال و تعاظم قدرة إيران كلاعب مهمّ في منطقة القوقاز الجنوبي.
وفي المقابل أكّدت إيران منذ نشوب الحرب في قره باغ على سيادة أذربيجان على أراضيها و طالبت أرمينيا بإرجاع المناطق التي كانت قد احتلّتها، وعليه فإنّ عدم دعم إيران لأذربيجان لا يعني أبداً تأييدها لاحتلال مدنها السبعة، و خلافاً للدعاية الواسعة في جمهورية أذربيجان التي اتّهمت إيران بالانحياز لأرمينيا٬ فقد سعت إيران دوماً إلى الوقوف إلى جانب المصلحة و الخير، فمن جهة أدانت الاعتداء الأرميني على أراضي أذربيجان بكلّ صراحة، و من جهة أخرى أكّدت على سيادة أذربيجان على أراضيها و التشديد على حفظ حقوق الأغلبية الأرمينية التي تقطن في قره باغ. و بناءً على هذا فإنّ اعتماد إيران سياسة الحياد في حرب قره باغ لم و لن يعني تأييد الاعتداء على أراضي أذربيجان أو احتلالها بأيّ شكل من الأشكال. يُضاف إلى ذلك أنّ إيران قد صوّتت دائماً لصالح سيادة أذربيجان على أراضيها في الجمعية العامّة للأمم المتحدة. كما دأبت على ضمان حقوق الأغلبية الأرمينية في قره باغ و حقّها في تقرير مصيرها لأنّها تعلم أنّه ما لم يتمّ ضمان حقوق الأرمن لن يكون هناك أيّ نوع من التعايش السلميّ بين الأرمن و الآذريين كما كان الحال في السنوات الماضية. و لا ريب في أنّ الحفاظ على حقوق الطرفيْن في وقت واحد و على أساس ما تنصّ عليه القوانين و اللوائح الدولية هو الضمان الوحيد لاستتباب الأمن و السلام في قره باغ، و في غير هذه الحالة ربما يتمّ حلّ القضية بالضغوط العسكرية خلال فترة مُعيّنة لكنّ هذه الحلول ستكون بمثابة نار تحت الرماد.
ويمكن القول بإيجاز بأنّ الحفاظ على موقف الحياد الفعّال في حرب قره باغ يُعدّ استراتيجية رئيسة و مهمّة بالنسبة لإيران لكي تستطيع في حال موافقة الطرفيْن التوسّط لإيجاد حلّ دائم يقبل به طرفا الصّراع في الظروف المناسبة و ليس الظروف الإجبارية، و من جهة أخرى إيجاد الأرضية الملائمة لإقامة علاقات اقتصادية واسعة و وطيدة مع جارتيْها في الشمال.
د) ما هو السبيل لإنهاء أزمة قره باغ؟
تنوّعت الحلول و تباينت حتى الآن بشأن قضية قره باغ و لكنّ أهمّها ما قيل حول إنشاء كونفدرالية في قره باغ يتمّ فيها من جهة الحفاظ على سيادة أذربيجان على أراضيها لأنّ قره باغ ستكون جزءاً من تلك الكونفدرالية٬ ومن جهة أخرى يستطيع الأرمن في قره باغ تقرير مصيرهم بأنفسهم من خلال التمتّع بحرياتهم وحقوقهم ضمن جمهورية تتمتّع بالحكم الذاتي و ذات صلاحيات واسعة في داخل أذربيجان. ولو تمّ الاتّفاق على مثل هذه الصيغة فإنّ جميع مشاكل أرمينيا و أذربيجان ستُحلّ بشكل آنيّ، بل و يؤمَّل كذلك حلّ المشاكل العالقة أيضاً بين أرمينيا و تركيا نفسها، إلّا أنّ المسألة الرئيسة هي ارتباط أرمينيا بروسيا و ارتباط أذربيجان بتركيا ممّا يجعل دور إيران ذا أهمية كبيرة لأنّها تُمثّل عامل التوازن في هذه المنطقة و يمكن لهذا العامل أن‌يقود نحو السّلم و الثبات إذا ما سُمِــح لها بلعب هذا الدور و سيكون بإمكان روسيا و تركيا حلّ هذه المشكلة عَبر طاولة التفاوض الجادّ باعتبارهما بلديْن مُجاوريْن و ذلك من خلال تأسيس مجموعة (٣+٢) التي ستضمّ إيران و روسيا و تركيا من جهة و أرمينيا و أذربيجان من جهة أخرى. لكن لا بدّ لنا هنا من الاعتراف بأنّ المسألة ليست بهذه البساطة، فمن الواضح أنّ أرمينيا و أذربيجان ما زالتا تأملان في حلّ هذه القضية بوساطة روسيا، طبعاً هذه حسابات خاطئة لأنّه من دون تحديد مستقبل تقرير المصير في قره باغ و ضمان حقوق الأغلبية الأرمنية هناك لا يمكن توقّع إيجاد حلّ دائم و سريع لهذه المشكلة، كما أنّ طرفيْ النزاع لم يتوصّلا حتى الآن إلى حقيقة أنّ‌منظمة الأمن و التعاون الأوروبي لا تستطيع و لا ترغب في حلّ هذه المشكلة.
لكن، إذا أعرب كلا الطرفيْن عن استعدادهما في التحرّك نحو حوار جادّ و شامل يضمّ جميع الأطراف الفاعلة على المستوى الإقليميّ أمكن التفاؤل بحلّ الكثير من مشاكل القوقاز الجنوبي و منها أزمة قره باغ و إلى الأبد، بالإضافة إلى العديد من الموضوعات العالقة مثل محاربة الإرهاب و التطرّف و توسيع آفاق التعاون في مجال النقل البريّ و الجويّ و البحريّ و سكك الحديد و إيجاد تحوّل جوهري في المجالات الاقتصادية في المنطقة، كلّ ذلك يمكن تحقيقه في ظلّ السّلم و الأمن.
و هناك في داخل إيران مَن يظنّ بضرورة دعم أذربيجان و حمايتها بكلّ الوسائل و ذلك لوجود أغلبية شيعية و مسلمة فيها، في حين أنّ جميعنا يعلم بأنّ التشيّع في إطار الدولة العلمانية التي تحكم أذربيجان أمر غير ذي أهمية، فهذه المسألة لا تعدو كونها غطاءً للحصول على دعم الدول الإسلامية. فيما يقترح آخرون دعم و حماية الأرمن بكلّ الوسائل لمنع تركيا من التأثير في الشمال الإيرانيّ من خلال شعاراتها القومية الطورانية.
ووفق تقييم واقعي  لا تنطبق كلتا الرؤيتين على الأحداث الراهنة في حرب قره باغ، فالاستراتيجية التي يمكن أن تأتي بنتائج محمودة هي تعاون كلّ من إيران و روسيا و تركيا لإيجاد حلّ نهائي و دائم هناك.
صحيح أنّ هناك تنافس شديد بين الدول الثلاث على النفوذ في القوقاز الجنوبي، لكن و كما نجح التعاون بينهم في سوريا من قَبل فإنّه يمكن فعل ذلك و بشكل أفضل في القوقاز الجنوبي أيضاً و ذلك لوجود الكثير من المصالح المشتركة بين إيران و روسيا و تركيا في منطقة القوقاز الجنوبي بالمقايسة مع مصالحهم في سوريا.
فإذا تخلّت روسيا عن سياستها الأحادية في المنطقة و استطاعت تركيا أن تُخفض من سقف توقّعاتها و شعاراتها فيما يتعلّق بسياسة «البانطورانية» في المنطقة على الأقل فسيكون باستطاعة إيران كذلك اتّباع سياسة الحياد و إيجاد الأرضية المناسبة للتعاون بين الأرمن و الآذريين، و في هذه الحالة يمكن للمنطقة و أبنائها العيش بسلام و استقرار دائميْن بعد سنوات متمادية من الصراعات و النزاعات و التحديّات الفاشلة تحت مظلّة تعاون دول المنطقة بمشاركة روسيا و تركيا و إيران و أرمينيا و جمهورية أذربيجان.
خلاصة الورقة
يُعدّ اتّفاق وقف إطلاق النار الذي وُ قِّع في موسكو في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اتّفاقاً نهائياً نوعاً ما ولكن نظراً إلى أنّ الأطراف الثلاثة في الاتّفاق أرادت إنهاء الحرب بأيّ شكل فقد وقّعت عليه من دون التوافق على حلّ أساسي لمشكلة قره باغ.
و في ضوء قدرة روسيا على لعب دور مهمّ في إيجاد الاستقرار و السلم في القوقاز الجنوبي و حضورها الاستراتيجيّ الجديد في المناطق الحساسة في القوقاز الجنوبي كقوّة لحفظ السلام فإنّ ذلك يعدّ نجاحاً كبيراً بالنسبة لها، و أمّا جمهورية أذربيجان فقد عمّ الفرح أرجاءها لاستعادتها المناطق التي كانت محتلّة من قِبَل أرمينيا. و بما أنّ‌الاتفاق المذكور حال دون استمرار الحرب في قره باغ و أسفر عن تحرير الأراضي الأذربيجانية فإنّه يُعتبر اتفاقاً ناجحاً و إيجابياً، و لكن  بسبب عدم البتّ بمصير بعض المناطق الأخرى مثل (خوجالي) و (عسكران) و بقاء جوهر الصراع – أي قره باغ - بلاحلّ، فلا بدّ من القول أنّ أمام الاتفاق المذكور الكثير من الموانع و المراحل الصعبة من أجل الوصول إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار و السلام.
وهناك نقطة مهمّة أخرى ينبغي الانتباه إليها و هي أنّ أذربيجان لم تستطع عسكرياً سوى تحرير ثلاثة من مدنها المحتلّة فقط في حين كان إخراج القوات الأرمنية من المدن الثلاثة الأخرى على ثلاث مراحل هو ثمرة الحوار و الاتفاق بين الأطراف، فلا يظنّن أحد بأنّ الأسلوب العسكريّ هو السبيل الوحيد لحلّ النزاعات حول الأراضي المحتلّة بل مجرّد مقدّمة للوصول إلى اتّفاق و إلّا فإنّ تحرير جميع المناطق المحتلّة بالأسلوب العسكريّ غير ممكن. و مع ذلك يمكن القول بأنّ الاتفاق الذي حصل يُمثّل نجاحاً كبيراً لأذربيجان، و في المقابل إذا لم يتمّ الاهتمام بآراء الأغلبية الأرمنية في قره باغ فإنّنا لا شكّ سنشهد نشوب الصراع من جديد في المستقبل و هذه المرّة سيأتي الأرمن بإمكانيّات حديثة ليستعيدوا بها سيادتهم التي سُلبت منهم في الماضي.
وعلى الرغم من أنّ أرمينيا فقدت سيادتها على الأراضي التي كانت تحتلّها بسبب اتفاقية موسكو – و إن كان هذا هو المتوقّع في الحقيقة - لكنّها في المقابل حصلت على امتيازات أخرى مثل توفّر الاتّصالات البريّة مع قره باغ و أرمينيا عن طريق الممرّ المعروف بـ(شوشا-لاتشين) حيث يُعدّ ذلك نجاحاً نسبياً بالنسبة لأرمينيا و إن كانت قد أُجبِرت على توفير الاتصالات البرية بين نخجوان و زنكلان في الأراضي الأصلية لأذربيجان.
وفي هذا الخصوص كان الإعلام المنافس يبثّ الأكاذيب و يدّعي تقلّص الحدود بين إيران و أرمينيا أو زوالها كما قال بعضهم، لكن ليس لهذا الكلام أيّ صحّة على الإطلاق لأنّ لأرمينيا حدوداً مع تركيا من جهة الغرب و مع أذربيجان من جهة الشرق و ليس لها أيّ طريق بحريّ حرّ، و لهذا فهي بحاجة ماسّة إلى المواصلات عَبر إيران في الجنوب و جورجيا في الشمال؛ و لهذا السبب فإنّ أرمينيا لن توافق على أيّ اتفاق من شأنه أن يحرمها من الوصول إلى الحدود الجنوبية التي تُعدّ بمنزلة الرّئة التي تتنفّس بواسطتها.
وأمّا ما تمّ الاتّفاق عليه في الاتفاق الأخير و وضع طريق ترانزيت لأرمينيا تستطيع بواسطته الانتقال من نخجوان إلى (مِغري) و هي المنطقة التي تفصل نخجوان عن أذربيجان، و من (مِغري) إلى زنكلان داخل الأراضي الآذربيجانية، فإنّ‌ذلك لا يعني حرمان أرمينيا من حدودها الاستراتيجية مع إيران، كما أنّ إيجاد ممرّ الترانزيت المذكور لا يمثّل سدّ الحدود بين أرمينيا و إيران إطلاقاً، فهو كأيّ طريق شرقيّ أو غربيّ آخر يمكنه توفير المواصلات البريّة بين نخجوان و الأراضي الأصلية لأذربيجان عن طريق أرمينيا.
وكما أنّ أرمينيا لن تقبل أبداً بغلق حدودها مع إيران فإنّ هذه الأخيرة لن تتنازل عن حقّها في الحفاظ على التواصل مع الشمال من خلال حدودها مع أرمينيا، بل إنّ أذربيجان ليست ساذجة إلى هذه الدرجة لتستعين على المدى البعيد بممرّ الترانزيت بين نخجوان و مِغري وبين مغري و زنكلان فقط. لا شكّ في أنّ أذربيجان ستواصل تعاونها مع إيران من أجل الوصول إلى نخجوان لأنّ تعدّد طرق المواصلات من الناحية الاقتصادية يصبّ في مصلحتها بالدرجة الأولى فضلاً عن كونه استراتيجية مهمّة بالنسبة لكلّ من أذربيجان و أرمينيا و إيران أو أيّ بَلد آخر لا يمكنه الاستغناء عنها في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من ذلك كلّه لا بدّ من الاعتراف بأنّه في حال عقد اتّفاقية جديدة بحيث تجد نخجوان طريقها إلى أذربيجان بالمرور عَبر أرمينيا فإنّ ذلك سيقلّل من أهمية الممرّ الترانزيتيّ بين نخجوان و إيران و أذربيجان إلى حدّ كبير، لكنّ ذلك لن‌يعني أبداً غلق الطريق المذكور إذ لا يزال هناك وقت طويل من أجل إيجاد طرق المواصلات و استقرار الأمن و السّلم، ثمّ إنّ القدرة على التعاون و بناء الطرق البرية و سكك الحديد سوف تتجلّى بشكل أكبر عندما يكون الأمن و الاستقرار مستتبّيْن في المنطقة، و يؤمَّل حتى ذلك الوقت استمرار الانتقال عَبر الطرق الموجودة من و إلى نخجوان و إيران و آذربيجان.
هذا، و لا ينبغي في التقييمات التحليلية في الوقت الحاضر تأجيج التناقضات القائمة و إيقاف التعاون المستقبلي بين دول المنطقة، فبإمكان كلّ من أذربيجان و أرمينيا – باعتبارهما بلديْن متجاوريْن – إيجاد طرق مواصلات بينهما متى اقتضت الحاجة سواء رضيت إيران بذلك أم لم ترض، و عليه، فإنّ من الأفضل لإيران أن‌تشجّع على السّلم و الاستقرار في تلك المنطقة لكي تتمكّن بذلك من استمرار تعاونها الشامل و ضمان مصالحها و منافعها.
وكما ذكرنا آنفاً فإنّ بالإمكان زيادة التعاون بين الشمال و الجنوب بين إيران و أرمينيا و جورجيا من جهة و بين إيران و أذربيجان و روسيا من جهة ثانية، و بين نخجوان و إيران و أذربيجان من جهة ثالثة في الظروف الأمنية و السلمية المناسبة، و لكن، لا بدّ من توفير الانسجام المطلوب و الظروف المناسبة و الكثير من العوامل البسيطة و المُعقّدة الأخرى من أجل تحقيق التعاون الشامل و المطلوب في منطقة القوقاز الجنوبي.

(الحاشية)
1 يشير وجود ثلاث دول مستقلة و هي أرمينيا و جورجيا و جمهورية أذربيجان إلى جانب وجود ثلاث مناطق أخرى تحظى باستقلال ذاتي هي أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية و جمهورية قره باغ ثمّ ثلاث أو أربع مناطق مستقلّة ذاتياً و هي جمهورية أجاريا و مارنيولي و آخالكالاكي (في جورجيا) و طالش (في أذربيجان) يشير كلّ ذلك إلى وجود نظام فوضوي ضمن المجموعة الأمنية للقوقاز الجنوبي. 
http://pdc.ceu.hu/archive/00003503/01/balance_of_power.pdf
2 http://ensani.ir/file/download/article/1543661083-10170-2-1.pdf.
3 آدام ب. اولام، السیاسة و الدولة في الاتّحاد السوفياتي، ترجمة: علي رضا طیب، طهران، منشورات (قومس)، (١٩٨٩م)، صفحة 10٤.
4 أرفعي، عالیة: قضیة ناغورنو قره‌باغ، دراسات حول آسيا الوسطى و القوقاز، السنة الأولى، العدد الثاني، صيف (١٩٩٢م)، صفحة ۱۷٤.
5 غراهام سمیث، شعوب الاتّحاد السوفياتي، نخبة من المترجمين، طهران، شرکة المنشورات العلمیة و الثقافية، (١٩٩٦م)، صفحة 182.
6 زارع شاه ‌مرسي، برویز: قره ‌باغ نامه؛ منذ العصور القديمة إلى العصر الحديث، طهران، دار شیرازه للنشر و البحث، الطبعة الأولى، (٢٠٠٨م).
7 و اعظي، محمود: الوساطة في آسيا الوسطى و القوقاز: تجربة الجمهوریة الإسلامیة في إیران، طهران، مكتب الدراسات السیاسیة و الدولية في وزارة الخارجية، الطبعة الأولى، ٢٠٠٩ م.
8 کالجي، ولي الله: فصلية آسيا الوسطى و القوقاز، العدد 89، ربيع ٢٠١٥ م، ص 17٦. 
http://ca.ipisjournals.ir/article_19764_504c6f22abbf1a126c05887b56ca808d.pdf.
9 https://www.irna.ir/news/82908906.
10 https://www.tasnimnews.com/fa/news/1398/06/28/2099506.
11 طالب مجلس الأمن الدولي في عام ١٩٩٣ م و عَبر أربع قرارات: القرار رقم (۸۲۳) في ۳۰ أبريل/نيسان ۱۹۹۳ م، و القرار رقم (۸٥٤) في ۲۹ يونيو/حزيران ۱۹۹۳ م، و القرار رقم (۸۷۹) في ۱٤ اکتوبر/تشرين الأول ۱۹۹۳ م، و القرار رقم (۸۸٤) في ۱۲ نوفمبر/تشرين الثاني ۱۹۹۳ م و بإجماع جميع الأعضاء الدائميين والمؤقتين في مجلس الأمن، طالبَ فيها جميعاً بوقف إطلاق النار فوراً في النزاع هناك و خروج الأرمن من المناطق المحتلّة من أذربيجان، إلّا أنّ‌جمهورية أرمينيا لم تطبّق القرارات المذكورة بحجة تجاهلها لحقّ الأغلبية الأرمينية في قره‌باغ في تقرير مصيرها.
https://www.un.org/securitycouncil/content/resolutions-adopted-security-council-1993.
12 في هذه السنة احتلّت تركية الأجزاء الشمالية من قبرص و أسّست جمهورية قبرص الشمالية و ذلك بحجّة تجاهل حقوق الأتراك في قبرص الذين كانوا يشكّلون ثُلث مجموع السكان في قبرص و الأغلبية في الشمال و أنّهم كانوا يمثّلون جزءاً مهمّاً من الاستراتيجية في شرق البحر الأبيض، على الرغم من أنّ أيّ دولة في العالم لم تعترف بجمهورية شمال قبرص منذ ذلك الوقت سوى تركية وحدها.  
www.researchgate.net/publication/344296099_Identity_Entrepreneurship_in_Political_Commemorations_A_Longitudinal_Quantitative_Content_Analysis_of_Commemorative_Speeches_by_Leaders_of_Parties_in_Power_and_Opposition_Before_and_During_the_Greek_E?enrichId=rgreq-303e86cdffdaea0a534d97bce76984c6-XXX&enrichSource=Y292ZXJQYWdlOzM0NDI5NjA5OTtBUzo5MzcwMjA3OTY5NjA3NzdAMTYwMDQxNDU3NTY1NQ%3D%3D&el=1_x_2&_esc=publicationCoverPdf.
13 https://www.imf.org/en/search?NewQuery=Armenia#sort=relevancy.
14 https://www.al-monitor.com/pulse/originals/2020/11/turkey-russia-armenia-azerbaijan-nagorno-karabakh-deal.html.
15 اعتمد الاقتصاد في أذربيجان في العقد الأخير و إلى حدّ كبير على إنتاج و تصدير الطاقة، ففي الأوقات الاعتيادية كانت أذربيجان تنتج ما يقارب (٨٠٠) ألف برميل من النفط الخام يومياً ممّا جعلها في المرتبة الثالثة و العشرين للدول المصدرة للنفط في العالم. و بفضل امتلاكها احتياطيات تناهز (٧) مليارات برميل من النفط فإنّ أذربيجان تحتلّ المرتبة الثامنة عشرة من حيث الثروة النفطية، كما تمتلك أيضاً احتياطيات من الغاز الطبيعي تقدّر بحوالي (٩٩١) مليار متر مكعب ممّا يجعلها في المرتبة الخامسة و العشرين بين الدول المنتجة للغاز. و في الأوقات الاعتيادية فإنّ أذربيجان قادرة على إنتاج حوالي (١٧) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، و يبلغ عدد سكانها حوالي (١٠) مليون نسمة كما يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي (٥000) دولار. و يتمثّل معظم صادرات أذربيجان في النفط و الغاز  ممّا يدرّ عليها سنوياً  حوالي (١٥) مليار دولار، و تُعتبر تركية ثاني دولة مستوردة للنفط و الغاز الأذربيجاني بعد إيطاليا. و في الوقت نفسه بلغت واردات أذربيجان من الخارج حوالي (١٠) مليارات دولار و تُعتبر روسية من أولى الدول المصدّرة لأذربيجان.
www.imf.org/en/Publications/CR/Issues/2019/09/18/Republic-of-Azerbaijan-2019-Article-IV-Consultation-Press-Release-Staff-Report-and-Statement-48684
16 https://knoema.com/atlas/Azerbaijan/Arms-imports.
17 https://p.dw.com/p/3kgYq.
18 تُعتبر غيومري ثاني أكبر مدينة من حيث عدد السكان في جمهورية أرمينيا بعد مدينة إيروان، و هي مركز محافظة (شيراك) في الشمال الغربي لأرمينيا. هذا و تقع مدينة غيومري على بُعد (١٢٦) كيلومتراً شمال إيروان.
19 خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي السابق ميدفيديف إلى أرمينيا في 19 و 20 أغسطس/آب 2010 م وقّعت كل من موسكو وإيروان على تعديل جديد لتمديد العقد الثنائي في 16 مارس/آذار 1995 م٬ حيث كانت مدة العقد 25 سنة فقرّر زعيما البلدين تعديله ليصبح 49 سنة أي حتى عام 2044 م.
20https://www.reuters.com/article/armenia-azerbaijan-russia/russia-says-nagorno-karabakh-risks-becoming-launch-pad-for-terrorists-ifax-idINKBN26R1VI.
21www.al-monitor.com/pulse/originals/2020/10/turkey-russia-syria-fighter-transfers-azerbaijan-armenia.html.
22 www.tcmb.gov.tr/wps/wcm/connect/TR/TCMB+TR/Main+Menu/Istatistikler/Odemeler+Dengesi+ve+Ilgili+Istatistikler/Uluslararasi+Yatirim+Pozisyonu/.
23 http://www.socar.com.tr/en/about-us/socar-global.
24 https://www.osce.org/minsk-group/108306
http://ensani.ir/file/download/article/20170315103636-10054-61.pdf.
25 https://snn.ir/fa/news/865815/.
26 https://csr.ir/fa/news/1048/.
27 https://ir.sputniknews.com/world/202009196940835.
28 https://p.dw.com/p/3jkzd.
29 https://p.dw.com/p/3klWq.
30 https://p.dw.com/p/3jkzd.
31 https://www.radiofarda.com/a/30860916.html.
32 https://www.timesofisrael.com/azeris-use-israeli-made-drones-as-conflict-escalates-with-armenia-report/.


قراءة: 546