فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

العوامل المؤثرة على السياسة الخارجية للأردن تجاه فلسطين (عهد الملك عبدالله الثاني نموذجاً)

السيد إسماعیل ياسيني
السید اسماعیل یاسینی – ماجستير في الدبلوماسية و المنظمات الدولية من كلية العلاقات الدولية في وزارة الخارجية٬ و الوكيل الثالث في سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عَمان.أردن

ملخص
كان الأردن - نظراً لموقعه الجغرافي- من جملة اللاعبين الإقليميين الذين انخرطوا بشدّة و منذ البداية في الحوادث ذات الصلة باغتصاب فلسطين٬ بما فيها مسيرة السلام. و لهذا السبب تحتل القضية الفلسطينية حيّزاً مهماً في سياسته الخارجية٬ و قد ظلّ على مدى السبعين سنة الماضية يسخّر جزءاً رئيسياً من قدراته السياسية و الاقتصادية و الأمنية لخدمة هذه القضية. و من حيث أنّ موقف الأردن فيما يخصّ حلّ القضية الفلسطينية كان حتى اليوم متماهياً مع مواقف القوى الغربية إلى حدّ بعيد، فقد كانت الأجواء مناسبة دائماً لكي يلعب الأردن دوراً جاداً في هذا الموضوع. 
ويمكن تلخيص أهمّ العوامل المؤثّرة على السياسة الخارجية للأردن تجاه فلسطين في الموقع الجيوسياسي و الهواجس الأمنية و وجود الملك نفسه. فالموقع الجيوسياسي لهذا البلد فرض عليه اضطراراً التعاطي مع الملف الفلسطيني٬ بحيث أضحت فلسطين٬ شاء أم أبى٬ أولوية قصوى في السياسة الإقليمية و الدولية للأردن. أضف إلى ذلك الهواجس الأمنية الناجمة عن القضية الفلسطينية و الاحتلال الإسرائيلي و هي من العوامل المهمة جداً في السياسة الخارجية للأردن. و في ضوء تركيبة النظام السياسي و تمركز السلطة في البلاط و في شخص الملك فإنّ العامل الثالث المؤثّر هو الملك نفسه و مواقفه المعلنة. كما قلنا فإنّ التعاطي مع الملف الفلسطيني و ما ترتّب عليه شكّل بالنسبة للأردن ضرورة قبل أن يكون خياراً٬ و على هذا الأساس٬ سعى عبر خفض مستوى التهديدات و زيادة الفرص إلى تأمين مصالحه الوطنية على الدوام.

 

 

مقدمة:

يعدّ الأردن من جملة اللاعبين الإقليميين الذين انخرطوا بشدّة منذ البداية في الحوادث ذات الصلة باغتصاب فلسطين٬ بما فيها مسيرة السلام. و قد ظلّت التطورات الخاصة بهذه القضية تترك تأثيراتها على الأردن في مختلف المجالات و لأكثر من سبعين عاماً٬ حتى أنّ مساحة واسعة من القضايا السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الأمنية و الثقافية في هذا البلد كانت رهينة التأثيرات٬ السلبية في معظمها٬ لهذه القضية. 
من هذا المنطلق تحوّلت الجهود الرامية لإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية في العقود الماضية إلى إحدى أهم أولويات السياسة الخارجية للأردن و الذي كان له الدور الرئيس في دفع عملية السلام بين فلسطين و إسرائيل إلى الإمام. 
ومن حيث أنّ موقف الأردن فيما يخصّ حلّ القضية الفلسطينية كان حتى اليوم متماهياً مع مواقف القوى الغربية إلى حدّ بعيد، فقد كانت الأجواء مناسبة دائماً لكي يلعب الأردن دوراً جاداً في هذا الموضوع. إضافة إلى أنّه و انسجاماً مع مواقفه بما في ذلك حل الدولتين و قيام الدولة الفلسطينية المستقلة و عاصمتها القدس الشرقية ضمن حدود عام 1967 م أعلن دعمه و تأييده لأيّ مبادرة سلام عربية أو غربية أو إقليمية أو دولية.
وفي ضوء ما تقدّم فإنّنا في هذا التقرير بصدد دراسة أهم العوامل المؤثّرة على السياسة الخارجية للمملكة الأردنية الهاشمية تجاه فلسطين في عهد الملك عبدالله الثاني (منذ 1999 م و حتى اليوم). و بناءً عليه يمكن أن نقول بوجود ثلاثة عوامل في هذا الإطار هي: الموقع الجيوسياسي٬ الهواجس الأمنية٬ و وجود الملك عبدالله (بوصفه المقرّر الأصلي للسياسة الخارجية).

1. الموقع الجيوسياسي
ينطوي الموقع الجيوسياسي للبلدان على فرص و تهديدات في آنٍ معاً٬ لذلك يلعب هذا العامل دوراً حيوياً على صعيد السياسة الخارجية لتلك البلدان. أن يكون البلد في قلب الأزمات الإقليمية و الدولية و يجاور قوى كبرى و  ... كل ذلك من أمثلة التأثير الجيوسياسي على السياسة الخارجية. و يعدّ الأردن مثالاً جديراً بالاهتمام لجهة موقعه الجغرافي و آثار ذلك على مناحي السياسة و الاقتصاد و الأمن و الثقافة.
من الناحية التاريخية تنبع أهمية هذا البلد من موقعه الجغرافي كونه يمثّل ملتقى الطوائف المسيحية و اليهودية و المسلمة في الأرض المقدسة. تأسّس هذا البلد الصحراوي الذي يُعرف باسم الأردن كنتيجة لمعاهدة سايكس بيكو عندما تقاسمت فرنسا و بريطانيا بموجبها العالم العربي. و اليوم أيضاً تعود الأهمية الجيوسياسية للأردن إلى وقوعه في قلب الشرق الأوسط بين البلدان النفطية الثرية في شبه الجزيرة العربية و بين إسرائيل. حيث تحدّه سورية شمالاً٬ و العراق شرقاً٬ و المملكة العربية السعودية من الجنوب الشرقي٬ و إسرائيل غرباً. و قد مكّن هذا الموقع الجيوسياسي المتأزم الأردن للعب دور أكبر من حجمه بكثير في معادلات الشرق الأوسط. كتب رودني ویلسون في عام 1991م في كتاب تحت عنوان «السیاسة و الاقتصاد في الأردن» النقاط التالية حول موقعه الجيوسياسي:
الأردن محاصر من خمس دول٬ كل منها تملك أحد منابع القوة التي حُرم منها الأردن. ففي الغرب توجد إسرائيل التي تتفوق عليه عسكرياً و تمثّل إحدى أهم حلفاء الولايات المتحدة. و تحيط به من الشمال سورية و هي من حلفاء الاتحاد السوفيتي و تشكّل شريطاً عسكرياً يحيط بالأردن٬ و من الشرق يحدّه العراق الذي يشكّل قدرة عسكرية و اقتصادية و سكانية معروفة٬ و كانت تربطه معاهدة صداقة بالاتحاد السوفيتي. و هناك في الجنوب الغربي جمهورية مصر العربية التي تمتلك قدرة عسكرية و ثقافية كبيرة. و أخيراً هنالك المملكة العربية السعودية في الجنوب المعروفة بقدراتها المالية الهائلة. أضف إلى ذلك أنّ الأردن هو أقرب دولة عربية إلى فلسطين و يمتلك أطول حدود معها1.
هذا الوضع الجغرافي الخاص لهذا البلد و وقوعه بين دول قوية و مقتدرة و ذات نظرة عدائية٬ جعلته عرضة للضغوط و ممارسة النفوذ من قبل جيرانه٬ و هذا الأمر حدّ بشكل كبير من حريته في التحرّك و خياراته المتاحة على صعيد السياسة الخارجية2. علاوة على ذلك٬ فإنّ الأردن لم يكن قويّاً في أيّ وقت مضى بحيث يستطيع أن ينتهج سياسة إقليمية مستقلة خاصة به٬ و في ضوء التوجهات العدائية للجيران الأقوياء٬ فإنّه لطالما اتّبع سياسة خارجية محافظة٬ و هو ما اضطرّه دائماً إلى الاعتماد على الحلفاء الدوليين لصيانة استقلاله و الحؤول دون التورّط في حروب كبرى. و في الحقيقة٬ إنّ الأخذ بالاعتبار مسألة ضعف الأردن تعدّ أهم مفتاح لفهم مسار رسم السياسة الخارجية لهذا البلد3.
طبعاً تأثيرات الموقع الجغرافي للأردن على السياسة الخارجية لا تقتصر على الجوانب السلبية٬ بل كان لموقعه الاستراتيجي و أهميته الجيوسياسية بالنسبة للقوى الإقليمية و العالمية انعكاسات مهمة على هذه السياسة مكّنته للعب دور خاص على المستوى الدولي4. و نظراً للعوامل الجيوسياسية و الجيوستراتيجية لعبت عمان تقليدياً دوراً سياسياً إقليمياً مهماً و لا سيّما فيما يخصّ القضايا ذات الصلة بالعلاقات بين العرب و إسرائيل و الأماكن المقدسة للمسلمين٬ الأمر الذي يفسّر تجاوز مصالحه و طموحاته لحدود موارده المحدودة دائماً و هو ما يُحسب للسياسة الخارجية للأردن5.
من ناحية أخرى٬ لم يكن الدور الإقليمي للأردن سهلاً أبداً٬ فقد كان عليه دائماً أن يوازن بين الضغوط السياسية لمختلف الجهات و ذلك بسبب افتقاده للموارد المالية. و لذلك كانت علاقاته بدول الجوار محكومة بالقيود على طول الخط. و قد اضطرّه موقعه الجغرافي الخاص في مراحل تاريخية معينة لمواجهة التطورات الإقليمية و الدولية. و هي تطورات حدثت نتيجة لسياسات زعماء المنطقة٬ و منها تلك التي شهدتها المنطقة في عقدي الخمسينات و الستينات من القرن الماضي بقيادة جمال عبد الناصر٬ و السباق المحموم بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي طيلة فترة الحرب الباردة، و القضية الفلسطينية٬ أو التيارات الأيديولوجية مثل القومية العربية أو الأصولية الإسلامية6.
ومن المعلوم أنّ الموقع الجيوستراتيجي للأردن كان بمثابة فرصة و تهديد في الوقت نفسه٬ و إليها تعزى القيود و في نفس الوقت الاستقرار الذي شهده الأردن. طبعاً لم‌يخفَ هذا التأثير الواسع على رجال الدولة في الأردن٬ فعمل ملوكه على توظيف هذا الموقع الخاص لضمان الدعم الخارجي للولايات المتحدة و الدول الغربية7.
الملف الفلسطيني هو من أهم ملفات المنطقة التي وجد الأردن نفسه منخرطاً فيه بشدّة بمقتضى موقعه الجغرافي. فجيرته لفلسطين و المشتركات الكثيرة التاريخية و السياسية و الثقافية التي تجمع البلدين جعلت من الأردن في العقود الماضية أحد اللاعبين الرئيسيين في القضية الفلسطينية و الصراع العربي الإسرائيلي. و في الحقيقة٬ إنّ الموقع الجغرافي للأردن و انخراطه المبكر في الموضوع الفلسطيني أدّى بهذا البلد لأن يكون جزءاً لا يتجزأ من أيّ مشروع سلام للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وقد ترتّبت على الحدود المشتركة بين الأردن و إسرائيل و الضفة الغربية نتائج منها استضافة الأردن لأعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين٬ و أن تكون لحكّام الأردن الولاية على المقدسات الفلسطينية (طبقاً لمعاهدة السلام في وادي عربة 1994م)٬ و نظراً لكون الأردن بلداً صغيراً و ضعيفاً و ذا موارد قليلة، فإنّ التعامل مع إسرائيل كان يمثّل بالنسبة إليه من ضرورات سياسته الخارجية8. و من بين جميع العوامل الإقليمية٬ فإنّ السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطين عملت على تحجيم السياسة الخارجية للأردن٬ و على الرغم من أنّ هذا الأخير كان بصدد التعاون مع إسرائيل في عملية السلام إلّا أنّ السياسات التوسعية و الهجومية لإسرائيل كشفت عن الضعف النسبي للأردن في مواجهته لإسرائيل9.
إنّ القرب الجغرافي و الواقع السكاني يجعل تفادي التأثيرات المحتملة على الأردن بسبب أيّ نزاع أو مشاريع حلول حول القضية الفلسطينية مسألة متعذّرة و مستحيلة. و في الوقت نفسه٬ لطالما سعى هذا البلد إلى الحفاظ على مصالحه الوطنية في القضية الفلسطينية عبر التغيّرات الاستراتيجية. مثلاً في حربي 1948 و 1967م تلقّى الأردن مساعدات عسكرية من جميع الدول العربية٬ لكنّه سعى دائماً بالتوازي مع ذلك إلى المحافظة على صيغة من التفاهم و التعاون مع إسرائيل10. 
إنّ انخراط الأردن في القضية الفلسطينية و إن كان يخلق له فرصاً عديدة مثل حضوره الفعال في عملية السلام٬ لكنّه أيضاً يعرّضه لتهديدات جدية. و من بين القائمة الطويلة من التهديدات نذكر مثلاً التأثيرات الهوياتية. 
فنقطة الضعف الكبرى التي يعاني منها الأردن هي فقدان الهوية الوطنية الموحدة و المشاكل الديموغرافية بسبب استضافته لجالية فلسطينية كبيرة على أراضيه الذين لا يعتبرون أنفسهم أردنيين و بالتالي غير مستعدين للتضحية للمحافظة على الاستقرار و الأمن. في الحقيقة٬ إنّ الأردن يعاني من ضعف و وهن بسبب امتلاكه كتلة سكانية غير متجانسة و غير موحدة مكونة من مواطنين أردنيين و وافدين فلسطينيين. و قد تجلّى هذا التقسيم السكاني في جميع الميادين الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية٬ و أثار خلافات جوهرية بين الطرفين. كما أنّ عدم وجود مؤسسة اجتماعية مشتركة في الأردن ترك تأثيراً عظيماً على سياسته الخارجية11.
من ناحية أخرى٬ فإنّ غياب قاعدة قومية و اجتماعية موحدة في المجتمع الأردني – الشرخ الفلسطيني الأردني – خلق مشاكل سياسية و إلى حدّ ما مشاكل اقتصادية لهذا البلد. فالتقسيم و الشرخ العرقي مشهود في جميع الميادين الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية٬ و يعبّر عن نفسه من خلال التوتّر الشديد القائم بين الفريقين. و لطالما كانت طموحات الفلسطينيين تنحصر في الهيمنة على الاقتصاد٬ بينما كان الأردنيون – القاطنون في شرق نهر الأردن- يُمسكون بالسياسة و الجيش12.
2. الهواجس الأمنية:
العنصر الثاني المهم و المؤثّر في السياسة الخارجية للأردن في القضية الفلسطينية٬ هو الهواجس الأمنية للبلد. فالقضية الفلسطينية منذ عام 1948 م و حتى اليوم تسبّبت بنتائج سياسية و اقتصادية و ثقافية و اجتماعية بالإضافة إلى تهديدات خطيرة على الأمن في الأردن. و ذروة هذه التهديدات برزت على صعيد المنطقة في حربي 1967 و 1973 م و على الصعيد الداخلي في أزمة عام 1970 – 1971 م فيما عُرف لاحقاً بأيلول الأسود. 
لقد واجه الأردن تهديدات خارجية كثيرة بسبب موقعه الجغرافي٬ منها تهديدات عسكرية مباشرة و تحديات اقتصادية و سياسية داخلية عرّضت وجود البلد و استقراره للخطر. و قد تبيّن في فترات معينة مثل عامي 1970 و 1971 م كيف أنّ العوامل الخارجية و اللاعبين الإقليميين يمكن أن يشكّلوا تهديداً للأمن القومي للنظام السياسي في الأردن13. من هنا فالهواجس الأمنية كان لها أثر جدّ كبير في تبلور السياسة الخارجية للأردن. و المتغيرات الرئيسية في تشكّل النظام الأمني في هذا البلد عبارة عن الموقع الجغرافي و الصراع العربي الإسرائيلي. صحيح أنّ الأردن اصطفّ مع سائر الدول العربية مرتين في حربي 1967 و 1973 ضدّ إسرائيل و ذلك لعوامل أمنية و اقتصادية و سياسية و داخلية، إلّا أنّ موقعه الجغرافي اضطرّه و منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي أن يتبنّى موقفاً محايداً في نزاعات المنطقة14.
على هذا الأساس٬ يمكن القول بأنّ مواقف الأردن فيما يخصّ عملية السلام٬ متشابكة مع هواجسه الأمنية٬ و أنّ حاجته الماسة للاستقرار و الأمن الداخلي هو سبب تعزيز توجهاته نحو عملية السلام. و من هنا أقدم على التوقيع على اتفاقية وادي عربة للصلح مع إسرائيل في عام 1994 م انطلاقاً من الهواجس الأمنية التي تساوره. و قد صرّح رئيس الوزراء المؤقت عبد السلام المجالي، و رئيس الوفد الأردني في مؤتمر السلام في مدريد 1991م في كلمة له في 24 حزيران/يونيو 1994م في جمعية السياسة بواشنطن٬ قائلاً: إنّ الهدف النهائي للأردن يتمثّل في إرساء أسس السلام الشامل بينه و بين إسرائيل و سائر الدول العربية15.
في الحقيقة٬ أنّ الملك السابق حسين٬ و بعيداً عن القضايا الثانوية و التحديات الداخلية و الخارجية٬ كان يوظّف قضية السلام مع إسرائيل كأداة لاستمرار نظامه السياسي و كخيار استراتيجي. و كان يحمل اعتقاداً راسخاً بأنّ المحافظة على استقرار البلاد و استمرار الحكم الملكي في الأردن يمرّان عبر المحافظة على خيار السلام مع إسرائيل. و ليس بمقدور أحد أن ينكر تلهّف الملك حسين و خليفته عبدالله الثاني على السلام مع إسرائيل. ففي كتابه «فرصتنا الأخيرة و الفضلى» حذّر الملك عبدالله الثاني من أنّ جميع شعوب المنطقة قلقة من حرب وشيكة مدمرة أخرى ... و أنّ إسرائيل بسبب  سياساتها هي من تتحمل مسؤولية هذا الوضع المفجع٬ و يقيناً هنالك الكثير ممّن يشارك الملك عبدالله الثاني رأيه هذا. فالغالبية العظمى من الأردنيين يتّفقون على أنّ إسرائيل هي التهديد الأكبر لبلادهم16. 
لقد كان الثمن الذي دفعه الأردن جراء الصراع العربي الإسرائيلي و التحدّي الأمني المتمثّل بإسرائيل باهظاً. و الرؤية السائدة في الأردن هي أنّه لو قُدّر لعملية السلام بين العرب و إسرائيل أن تتحقّق بصورة كاملة فإنّ ذلك سوف يساعد على ترسيخ الاستقرار و الأمن في المنطقة ٬ و يمكن للأردن من هذا الطريق أن يعزّز علاقاته مع إسرائيل و المجتمع الدولي٬ و من ثمّ تحقيق المصالح الوطنية للأردن في نهاية المطاف17.

3. الملك (بوصفه المسؤول الأول عن رسم السياسة الخارجية)
العامل الثالث المؤثّر على السياسة الخارجية للأردن في الموضوع الفلسطيني هو الملك نفسه و المقاربات التي يطرحها. في الأردن كما في الكثير من بلدان الشرق الأوسط٬ يمتلك الملك٬ بوصفه زعيم البلاد٬ صلاحيات واسعة في رسم السياسات الداخلية و الخارجية. و هناك عوامل عدّة أدّت إلى تمركز السلطة و القرار في شخص الملك٬ منها مثلاً عدم وجود إجماع عام على طبيعة العملية السياسية٬ و كذلك الافتقاد إلى سابقة تاريخية في المشاركة الشعبية في العملية السياسية18.
ولم يحدث عبر تاريخ الأردن أن مارست مؤسسات المجتمع المدني و مجموعات الضغط تأثيراً يُذكر على السياسة الخارجية. و النظام السياسي الأردني – النظام الملكي – مركّب على نحوٍ بحيث تنحصر معظم السلطات في شخص الملك. و لهذا السبب اعتقد المحلّلون و أصحاب الرأي أنّ شخصية الملك و أفكاره هي الملهم الرئيسي للسياسة الخارجية. و تعدّ وزارة الخارجية الأردنية الحلقة الأضعف في سلسلة رسم السياسة الخارجية في هذا البلد. فوزير الخارجية و وزارته لا حول لهم و لا قوة في اتّخاذ القرارات الخاصة بالسياسة الخارجية فهم لا يمارسون و لا حتى دوراً استشارياً. فغالباً ما اضطلعت هذه الوزارة بدور تنفيذي بحت يقتصر على تنفيذ القرارات التي تُتّخذ في مكان آخر19.
وفي ضوء الدور الأوحد للملك في رسم السياسة الخارجية٬ فإنّ العوامل الجيوسياسية المذكورة آنفاً و الأمور ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي و تولية شؤون المقدسات الإسلامية و المسيحية في القدس جعلت الأردن يمارس دوراً مهماً في تحولات منطقة الشرق الأوسط. و من هنا قولنا بأنّ مصالح و طموح الأردن أكبر من موارده٬ و قد ساعد هذا الأمر بشكل ملموس السياسة الخارجية الأردنية20.
مع جلوس الملك عبدالله الثاني على العرش في (7 شباط/فبراير 1999م) بعد وفاة والده الملك حسين بدأ عصر جديد٬ حيث واصل الملك الجديد استراتيجية والده في بعض مجالات السياسة الخارجية٬ و في مجالات أخرى خطا خطوات أبعد ممّا ذهب إليه والده. لقد سعى الملك السابق حسين التقارب مع إسرائيل عبر إبرام معاهدة السلام و عقد شراكة اقتصادية معها. كما يعدّ التقارب مع الغرب و بخاصة الولايات المتحدة من أهم الخصائص التي وسمت السياسة الخارجية للأردن في عهد الملك الراحل. في هذين المجالين واصل الملك عبدالله و بجدية النهج الذي اتّبعه والده٬ مع حذر شديد لئلا يُرمى بالتقصير فيما يخصّ التوترات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. بالنسبة للانتفاضة الثانية في عام 2000 م لم يتبنّ موقف الحكومات العربية في تحميل إسرائيل كامل المسؤولية عن الأزمة و الامتناع عن إيجاد حلّ للقضية. و مضى الملك عبدالله الثاني٬ على غرار ما فعل والده٬ في تعزيز الدور الأمريكي في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية٬ لاعتقاده أنّ الدور الأمريكي الفعال يمكن أن يساعد على إرساء أسس السلام و الاستقرار في المنطقة٬ بما يخدم التنمية الاقتصادية في الأردن و في نفس الوقت تسكين هواجسه الأمنية21.
ومنذ تسلّمه الحكم بذل عبدالله الثاني محاولات حثيثة لإيجاد حل سلمي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني  نظراً لأهميته القصوى في تعزيز السلم في المنطقة و الاستقرار و الثبات في الأردن. و تجلّت تلك المحاولات في أوضح صورها في مشاركة الأردن في بلورة مبادرة السلام العربية في عام 2002 م و هي المبادرة الأشمل للسلام حتى اليوم22.
وقد أراد الأردن من تلك المبادرة التي طرحت أثناء انعقاد القمة العربية في بيروت عام 2002 م أن يحصل على إجماع عربي حول مفاوضات السلام مع إسرائيل و أن يكون له دور مهم في تأمين الدعم الدولي وصولاً إلى حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي. و بالفعل فقد تحقّق ذلك الدور للملك عبدالله الثاني عندما استطاع اقناع الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن بأهمية خارطة الطريق المتضمّنة حل الدولتين. في تلك الفترة ركّزت الدبلوماسية الأردنية المتعلّقة بفلسطين على الدور الأمريكي في احتمال الوصول إلى سلام محتمل لأنّ الملك عبدالله الثاني كان يرى أنّ بإمكان الولايات المتحدة أن تمارس الضغوط اللازمة على إسرائيل للقبول بمبادرة السلام العربية. الأمر الذي يفسّر الدور المؤثّر الذي لعبه الملك خلال السنوات الماضية للدفع بحلّ الدولتين إلى الإمام23.
وعلى الصعيد الداخلي كان للدعم القاطع للملك لحل الدولتين و قيام الدولة الفلسطينية المستقلة آثار مهمة على الرأي العام الداخلي في الأردن. ففي الوقت الذي كانت فيه بعض النقاشات العامة في البلاد تركّز على بعض المشاريع مثل جعل الأردن وطناً بديلاً لفلسطين٬ قام الملك بتفنيد هذه الطروحات باعثاً برسالة اطمئنان إلى الشعب و معلناً بأنّ حل الدولتين هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يخدم مصالح الأردن و الفلسطينيين. و على مدى السنوات الماضية ما فتئ الملك يؤكّد صراحةً و في مناسبات عدّة أنّ الأردن هو الأردن و فلسطين هي فلسطين24.
ومن الفوارق الأخرى التي تمايز الملك عبدالله الثاني عن والده فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية طبيعة النظرة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية. فعبدالله الثاني عمل على إغلاق مكاتب حركة حماس في الأردن في تشرين الأول/ أكتوبر 1999 م  و طرد الكثير من كبار زعمائها بغية ضمان أمن حدود الأردن مع إسرائيل. و على الرغم من أنّه لم تتمخّض عن هذه الخطوات تحديات خطيرة بالنسبة للحكومة الأردنية إلّا أنّها أبرزت تباين نظرة الملك تجاه الفصائل الفلسطينية مقارنةً بنظرة والده٬ و بذلك دخلت علاقات الأردن مع تلك الفصائل مرحلة معقدة و صعبة٬ ناهيك عن أنّ عبدالله الثاني لم يصغِ إلى مطالبات حماس و سائر الفصائل الإسلامية بقطع العلاقة مع إسرائيل25.
وبعد صعود إدارة دونالد ترامب و طرح مبادرة السلام المعروفة بصفقة القرن واجه الأردن تحدياً خطيراً. فقد كان مضمون المبادرة المذكورة يشكّل تهديداً صريحاً للأردن الذي عمل بدوره على توظيف القدرات الإقليمية و الدولية لمواجهة هذه المبادرة آخذاً في الحسبان محدودية إمكاناته. و قد استند موقف الأردن بالنسبة لصفقة القرن التي طرحها ترامب على بلورة موقف عربي متحدّ و مشترك و دعم المجتمع الدولي لحل الدولتين. من بين الهواجس الرئيسية التي خالجت الملك عبدالله الثاني و الذي كان قد انتقد قبل ذلك خطوات ترامپ يشأن القدس و وكالة الأنروا هي التبعات السلبية التي قد تعكسها عدم موافقته على صفقة القرن على العلاقات الثنائية بين عمان و واشنطن و حجم المساعدات الخارجية التي تقدمها الولايات المتحدة للأردن. فسياسات ترامب الغير قابلة للتنبؤ كانت مصدر قلق للأردن٬ و كان الملك يعوّل على علاقاته الشخصية مع أعضاء الكونغرس الأمريكي للتقليل من تلك التبعات. في الوقت الحاضر يأمل الأردن في أنّ التوقّف عن تطبيق المبادرة لمدة أربعة أشهر قد يغيّر الوضع الراهن26. و بناءً على هذا فقد تجنّب الملك عبدالله الثاني توجيه انتقادات مباشرة لسياسات ترامپ الشرق الأوسطية بهدف إحداث نوع من التوازن بين السياسات الأمريكية و الهواجس الفلسطينية٬ لكنّه في نفس الوقت سعى إلى حشد المجتمع الدولي من أجل دعم حلّ الدولتين و قيام الدولة الفلسطينية المستقلة27. 

خلاصة البحث:
تحظى القضية الفلسطينية بأهمية كبيرة في السياسة الخارجية للأردن٬ و قد ظلّ هذا البلد على مدى السبعين سنة الماضية يسخّر جزءاً رئيسياً من قدراته السياسية و الاقتصادية و الأمنية لخدمة هذه القضية. و أهم العوامل المؤثرة على السياسة الخارجية الأردنية تجاه فلسطين الموقع الجيوسياسي و الهواجس الأمنية و الملك نفسه (بوصفه المقرّر الأصلي للسياسة الخارجية). و الموقع الجيوسياسي لهذا البلد فرض عليه اضطراراً التعاطي مع الملف الفلسطيني٬ بحيث أضحت فلسطين٬ شاء أم أبى٬ أولوية قصوى في السياسة الإقليمية و الدولية للأردن. أضف إلى ذلك الهواجس الأمنية الناجمة عن القضية الفلسطينية و الاحتلال الإسرائيلي من العوامل المهمة جداً على السياسة الخارجية للأردن٬ بحيث أنّ السعي لدفع عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية في مختلف المراحل التاريخية منذ 1948 م و حتى اليوم كان أهم برنامج في السياسة الخارجية للأردن. و في ضوء تركيبة النظام السياسي و تمركز السلطة في البلاط و في شخص الملك فإنّ العامل الثالث المؤثّر هو الملك نفسه و مواقفه المعلنة. و منذ جلوسه على العرش بذل الملك عبدالله الثاني بالاستناد إلى القوى العالمية و بخاصة الولايات المتحدة دفع عملية السلام في إطار مبادرة السلام العربية و حلّ الدولتين. و في الحقيقة أنّ التعاطي مع الملف الفلسطيني و ما ترتّب عليه شكّل بالنسبة للأردن ضرورة قبل أن يكون خياراً٬ و على هذا الأساس٬ سعى عبر خفض مستوى التهديدات و زيادة الفرص إلى تأمين مصالحه الوطنية على الدوام.

إعداد: 
السید اسماعیل یاسینی – ماجستير في الدبلوماسية و المنظمات الدولية من كلية العلاقات الدولية في وزارة الخارجية٬ و الوكيل الثالث في سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عَمان. 


(الحاشية)
1- Atallah Al Sarhan, “United States' Foreign Policy toward the Hashemite Kingdom of Jordan: 1990-2014”, Atlanta University Center, May 2016, p 104 - 105                                                         https://www.semanticscholar.org/paper/United-States'-Foreign-Policy-toward-the-Hashemite-Sarhan/04195656533595055cf102dc41dfe23715a66f8c
2-. Basel A. Al Kayed, “The Process Of Change In The Foreign Policy Of Jordan: The Role Of The Leadership In The Cases of The 1991 Gulf War and The 2003 Iraq War, A THESIS SUBMITTED TO The GRADUATE SCHOOL OF SOCIAL SCIENCES OF MIDDLE EAST TECHNICAL University, November 2015, p. 75-76
http://etd.lib.metu.edu.tr/upload/12619762/index.pdf
3-. Brent E. Sasley, "Changes and Continuities in Jordanian Foreign Policy", Middle East Review of International Affairs, Vol. 6, No. 1 (March 2002), p.36 https://pdfs.semanticscholar.org/1cd7/ba8b4cc863d05a398e4c0dd4646578cdc568.pdf
4-. Al Kayed, op. cit. P. 79
5-. E. Sasley, op. cit. p.37
6-. Hassan A. Barari, “Jordan and Israel, A Troubled Relationship in a Volatile Region”, Published in 2019, 2nd Edition by Friedrich-Ebert-Stiftung Jordan & Iraq, p. 29
http://library.fes.de/pdf-files/bueros/amman/15279.pdf
7- Ibid. p. 28 - 29
8-. Yossi Mekelberg and Greg Shapland, “Israeli–Palestinian Peacemaking, The Role of the Arab States”, CHATHAM HOUSE, The Royal Institute of International Affairs, Middle East and North Africa Programme, January 2019
https://www.chathamhouse.org/publication/israeli-palestinian-peacemaking-role-arab-states
9- A. Barari, op. cit. p. 29 - 30
10- Dr. Nader Ibrahim, Dr. Abdulrahman A. Al-Fawwaz and Dr. Ahmad Kh. Al-Afif, “Jordanian Foreign Policy toward The Palestine Issue”, British Journal of Arts and Social Sciences, Vol.8 No.I (2012)
https://www.researchgate.net/publication/315911084_Jordanian_Foreign_Policy_toward_The_Palestine_Issue.
11- Al Kayed, op. cit. p. 76
12- E. Sasley, op. cit. p. 37
13-. Al Kayed, op. cit. p. 79
14-. Ibid, p. 85
15- Dr. Ghazi Saleh Nahar, Dr. Rima Lutfi abu humaidan. “The Factors Affecting the Foreign Political Behaviors in Jordan on its Strategic Position in the Middle East, and Especially its Conflict and Peace Process with Israel during the 1990s”, International Journal of Humanities and Social Science, Vol. 3 No. 4, p. 66
http://www.ijhssnet.com/journals/Vol_3_No_4_Special_Issue_February_2013/7.pdf
16-A. Barari, op. cit. p. 88
17-. Nahar and abu humaidan, op. cit. p. 72
18-. Ibid. p. 68
19- Curtis R.Ryan, “Jordan in Transition, From Hussein to Abdullah”, Lynne Rienner Publishers 2002.
20-E. Sasley, op. cit. p. 37
21-. Ibid. p. 42
22- Martina Ponížilová, “THE REGIONAL POLICY AND POWER CAPABILITIES OF JORDAN AS A SMALL STATE”, 2013, Central European Journal of International and Security Studies
https://www.academia.edu/3549341/The_Regional_Policy_and_Power_Capabilities_of_Jordan_as_a_Small_State
23-. A. Barari, op. cit. p. 100 - 101
24- Ibid, p. 147
25- E. Sasley, op. cit. p. 43
26-. Osama Al Sharif,”Jordan was so quick to reject Trump’s peace plan” Middle East Institute, February 3, 2020  https://www.mei.edu/publications/why-jordan-was-so-quick-reject-trumps-peace-plan
27- Jeremy M. Sharp, “Jordan: Background and U.S. Relations” Congressional Research Service, Updated December 4, 2019                                                                                                https://crsreports.congress.gov/product/pdf/RL/RL33546


قراءة: 512