فصلنامه مطالعات سیاست خارجی تهران
 

اليمن والثقب الأسود في الإستراتيجيات الأميركية؛ مقتل الإستراتيجية

ناصر قنديل
نائب لبنان سابق و رئيس تحرير جريدة "البناء" اللبنانية

 

الخلاصة 
إذا كان فائض القوة في معادلات محور المقاومة، يتمثل في تنامي مقدرات إيران وحزب الله، وظهور الحشد الشعبي والمقاومة الفلسطينية بإمكانات فاصلة فإن القيمة المضافة الإستراتيجية في معادلات المنطقة كانت لليمن، وإذا كانت إصابة الإستراتيجيات الأميركية قد تحققت في سورية والعراق، فإن تعطيل مفاعيل الإستراتيجيات الأميركية قد تحقق في اليمن، وربما تكمن القيمة الأعلى للنموذج اليمني في تقديمه قوة مثال نادرة، قابلة للتكرار في فلسطين، لكيفية بناء صمود يقارب الأساطير بإمكانات محدودة وفي قلب حصار مميت، وكيفية الإمساك بزمام المبادرة العسكري في جغرافيا معقدة أمام جيوش نظامية مقتدرة ومحترفة، وفي النجاح بفرض معادلات ردع حتى عمق البر والبحر، رغم إمتلاك الخصوم لمنظومات عسكرية متقدمة تكنولوجياً. اليمن هو الثقب الأسود في الإستراتيجيات الأميركية.

الكلمات الأساسية: اليمن، أمريكا، أنصارالله

 

 


مقدمة 
من المهم توضيح أن الترابط الذي يقوم على مستوى النظرة الإستراتيجية لموازين القوى بين ساحات المواجهة في المنطقة، لا يمس بـ ولا ينال من ولا يحل مكان، الهوية الوطنية والإعتبارات الوطنية للقوى المعنية بالصراع، التي تخوض مواجهاتها من منطلق حساباتها الوطنية الخالصة، لكنها تستثمر على ما يحدثه حلفاؤها من تغييرات كما يستثمرون على التغييرات التي تحدثها، دون أن يكون أحداً من الطرفين في وارد القبول بحلول وتسويات تنال من المصالح الوطنية لأي من الأطراف المتحالفة، وهذا المعيار الأخلاقي الذي تلتزمه إيران وقوى المقاومة في علاقاتها، يتيح مناقشة موضوعية لموازين القوى وتحركها، دون إتاحة المجال لوقوع أي إنطباع خاطئ يجعل قوى محور المقاومة في وضع شبيه بحلفاء واشنطن، الذين يدفعون أثمان خسائر لم‌تقع في جبهاتهم نيابة عن واشنطن، ويتحملون عنها وعن أنفسهم نتائج الخسائر التي تقع في الجبهات التي يقاتلون فيها، تكفي المقارنة بين درجة الشعور بالقوة والقدرة في ممارسة الإستقلالية التي تظهر في خطاب أطراف محور المقاومة بخصوص كل من ساحات عملها، في لبنان وفلسطين واليمن والعراق وسورية، وبالمقارنة خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع حلفائه بلغة تنضح بالإهانة والتعالي والإمرة .1
الإختبار الإستراتيجي لفرص التسوية 
يمكن القول أن قرار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بشن ضربة عسكرية قاصمة ضد سورية لتعديل الموازين التي بدأت تميل لصالح الدولة السورية بإضطراد منذ تموضع حزب الله في معركة القصير – جنوب حمص، ربيع العام 2013، كان آخر المحاولات العسكرية الأميركية الجادة للزج بفائض قوة لا يستدرج حرباً، ويمكن تسميته إستراتيجياً بمعركة بين حروب، وهذا هو الإطار الذي يمكن أن توضع فيه عملية تحرك الأساطيل الأميركية نحو سورية في صيف عام 2013، وما سبقها ورافقها من تمهيد سياسي ودبلوماسي وتعبوي، بحيث أن الفشل في تنفيذ العملية دون التورط في مواجهة مفتوحة الذي عبر عنه التراجع عن الضربة التي كانت وفقاً لما رافق التمهيد لها نصف حرب،2 قد اقفل الطريق أمام الخيار العسكري الأميركي المباشر مع التسوية التي رعتها موسكو لسحب السلاح الكيميائي السوري، وتوجها قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي،3 لينفتح الباب فوراً لعودة واشنطن إلى صيغة التفاوض حول الملف النووي مع إيران ضمن صيغة خمسة زائداً واحد، بعد توقف دام لأكثر من سنة، بعدما فشلت جولة بغداد التفاوضية في دفع إيران للقبول بوضع قضايا النزاع الإقليمي وفي مقدمتها سورية على جدول الأعمال التفاوضي، وجاء إستئناف التفاوض في تشرين الثاني 2013، دون هذا الشرط الأميركي تأكيداً لقرار إدارة الرئيس أوباما الدخول في إختبار إستراتيجي لفرص التسوية مع إيران، حيث الملف النووي لم يكن إلا واجهة دبلوماسية وقانونية لصراع الإرادات على مستوى المنطقة، لأن مفاوضات بغداد كانت قد بلغت حد التوصل لتفاهم نهائي في الملف النووي كان ينتظر الإشارة السياسية من واشنطن،4 ولذلك كانت التفاصيل التقنية التفاوضية التي إمتدت لعام ومن بعده لسبعة شهور، حتى التوقيع في تموز 2015، عبارة عن مسرح لتركيز رؤوس جسور لمرحلة الإختبار الجديد، عنوانها تهيئة الحلفاء لإحتواء نتائج التسوية، وتحويلها من تحد إلى فرصة، كما قال جيفيري فيلتمان لصديقه رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي في لبنان وليد جنبلاط على مائدة عشاء في لندن في توصيف الجهوزية للإتفاق، مطلع العام 2015، مشيراً إلى حاجة حلفاء واشنطن لمزيد من الوقت للإستعداد، ليتأقلم الحلفاء مع هذه الحاجة، ونشر جنبلاط مضمون الكلام في تغريداته على تويتر، وجاءت أحداث ملأت الفترة الفاصلة بين بدء المفاوضات وتوقيع الاتفاق وصولاً للخروج الأميركي منه في منتصف الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، لتشكل مسرحاً زمنياً لسباق بين واشنطن وحلفائها من جهة، وقوى محور المقاومة من جهة موازية، على من يملء بصورة أفضل الجغرافيا الإقليمية الممتدة بين البحار والمضائق والممرات المائية .
السباق على الجغرافيا 
شهد العام الممتد من صيف 2014 إلى صيف 2015 تعبيراً عن سباق مواز على الجغرافيا بين جبهتين، حلفاء واشنطن من جهة وقوى المقاومة من جهة مقابلة، وكانت سورية واليمن والعراق ساحات هذا السباق، حيث شهد صيف العام 2014، رعاية أميركية واضحة مباشرة وعبر الحاضنة التركية، لإطلاق تنظيم داعش وتمكينه من السيطرة على أجزاء واسعة من الجغرافيا السورية والعراقية، وبالتوازي إنطلقت إنتفاضة أنصار الله في اليمن لتبدأ بالسيطرة على العاصمة صنعاء وتتوسع خلال شهور لتبلغ العاصمة الثانية عدن ومضيق باب المندب، بالتزامن مع بلوغ تنظيم داعش أطراف العاصمتين السورية دمشق والعراقية بغداد، بينما شهد العام 2015، دخولاً تركياً عسكرياً مباشراً في عمق الجغرافيا السورية، إستكمل التهديد الذي مثله تنظيم داعش لسيطرة الدولة السورية، فسيطر الأتراك ومعهم تنظيم القاعدة بفرعه السوري المعروف باسم جبهة النصرة على محافظة إدلب، وبالتوازي شن جيش كيان الاحتلال غارات إستهدفت مواقع حزب الله والمستشارين الإيرانيين ودروياتهم جنوب سورية خصوصاً، في محاولة لتغيير قواعد الإشتباك، حدد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أهدافها، بمنع نشوء معادلة في جنوب سورية تشبه المعادلة القائمة في جنوب لبنان، وكان الرمح الثالث للتموضع الإستراتيجي الإستباقي لإختبار التسوية، بقرار شن الحرب على اليمن بشراكة سعودية إماراتية، ورعاية أميركية وغربية شارك فيها كيان الاحتلال بصورة مباشرة، كما نشرت الصحف العبرية.5
في حصيلة الإختبار السريع  قبل توقيع الاتفاق النووي، بدا أن حزب الله نجح في إحتواء الضربات التي شنها جيش الاحتلال ورد الإعتبار لمعادلات الدرع، عبر العملية النوعية في مزارع شبعا اللبنانية، التي إمتنع جيش الإحتلال من الرد عليها بنصيحة أميركية، وردت على لسان الرئيس أوباما، قال فيها، إن الضربة مؤلمة لكنها لا تستحق إشعال حرب، وبدا أن نهوض الحشد الشعبي مدعوماً من إيران، شكل مكافئاً دفاعياً لتمدد تنظيم داعش، لتكون الإختبارات الفعلية حول حاصل المواجهة بين الحشد وداعش  في العراق، واحدة من ركائز الموازين الإستراتيجية لمرحلة الإتفاق النووي، التي إمتدت حتى العام 2017، بينما شكل الإختراق التركي في سورية، بالتكافل مع ما نتج عن تمدد داعش، وما رافقه من تموضع أميركي تحت شعار التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، تحدياً للإنجازات التي كان الجيش السوري ومعه حزب الله وقوى المقاومة قدنجحوا بتحقيقها في العام 2013، إستدعى إنتاج مكافئ إستارتيجي له وللحضور الأميركي المباشر في سورية، بتموضع القوات الروسية بعيد توقيع الاتفاق النووي، ضمن تفاهم إيراني روسي سوري ترجم بصورة واضحة في معركة تحرير حلب وما تلاها من معارك توسع السيطرة الجغرافيا للدولة السورية، وصولاً لإحتواء الدور التركي ضمن إطار صيغة أستانة .6
اليمن الساحة الفاصلة 
إذا كان السباق على البحار الخمسة المحيطة بالمنطقة، كما وصف الرئيس السوري بشار الأسد إطار النشاط الإقليمي عام 2009 ،7 قاصداً بحر قزوين والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر وبحر عمان، فإن توازنات ومعادلات ثلاثة من البحار هي المتوسط وقزوين والأسود، بدت بحكم الحضور الروسي فيها الأشد تعقيداً على واضع الإستراتيجية الأميركية، ليتشكل من البحرين الآخرين مدى الحركة الحيوية للأميركيين وحلفائهم، حيث يشكل اليمن حلقة محورية، وهو المطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب والمشاطئ لبحر عمان، والواقع على حدود برية طويلة مع السعودية، فيما يشكل خزاناً نفطياً غير مستهلك، وكثافة سكانية تجعله أكبر دول الخليج من حيث عدد السكان، ليصير صاحب القيمة الإستراتيجية الأعلى بين دول الخليج، مع نجاح أنصار الله في التموضع على مساحة الجغرافيا اليمنية نهاية العام 2014، وظهور ضعف منافسيهم اليمنيين عن إظهار أي قوة محلية حقيقية، من جهة، و من جهة مقابلة ظهور إمتلاك أنصار الله لثقافة وأدوات، لقتال كيان الاحتلال والإستعداد للمشاركة في أي حرب تشكل فلسطين بوصلتها، والتصدي للسيطرة الأميركية على الخليج، وقد أظهرت الخطابات القيادية والتظاهرات الشعبية عمق هذه الثقافة،8 بينما أظهر سلاح الصواريخ البعيدة المدى حجم خطورة الأدوات،9 ما جعل من سيطرتهم على الجغرافيا اليمنية، تهديداً إستراتيجياً خطيراً للحسابات الأميركية والمصالح الأميركية، خصوصاً تلك المتصلة بمستقبل أمن الخليج وأمن كيان الاحتلال .
في سورية تجمعت مصالح أمن كيان الاحتلال مع المصالح التركية والسعودية وحسابات أنابيب النفط والغاز، لتجعل من الحرب عليها أم المعارك في الحسابات الأميركية، حتى ثبتت إستحالة الفوز بها، وصار الحضور الروسي صاحب الكلمة الفصل على الصعيد الإستراتيجي في سورية وعبرها صاحب الدور الأول في البحرين المتوسط والأسود، فبدأ التراجع السعودي والخليجي، وظهرالتموضع التركي، وتحول الأميركي نحو إدارة الأزمة بدون إستراتيجية تحقيق الأرباح، مكتفياً بالإمساك بحق الفيتو المالي والدبلوماسي في أي حل يعيد نهوض سورية تستعيد من خلاله مكانتها في العالم وفي الإقليم، ويوفر شروط إعادة الإعمار، بينما في العراق حيث يدرك الأميركي أبعاد وتداعيات الجوار مع إيران، ويعرف التركيب الديمغرافي للعراق وتأثيراته على توازناته السياسية، وشروط تفرض خوض الصراع تحت سقوف منخفضة، وتوتر متوسط، ما جعل حرب اليمن الركيزة التي يتوقف عليها النجاح والفشل في إقامة توازن إستراتيجي، مع روسيا وإيران، بمعيار السيطرة على البحار والمضائق والممرات المائية، ومعيار حماية الحليفين الأهم في المنطقة الأشد تاثراً بأي إتفاق مع إيران، السعودية وكيان الإحتلال، في ظل خصوصية تركية قديمة إقتصادياً مع إيران، تجددت سياسياً مع صيغة آستانة حول سورية، فكيف إذا كانت الحرب على اليمن بذاتها حرباً لأمن السعودية وكيان الاحتلال، كما تقول الصحف العبرية بلا تردد وإحراج.10
مسارات الحرب 
يربط الكثير من المحللين بين مشروع أميركي لتصعيد صورة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والحرب على اليمن،11 بينما لا يمكن الفصل بين هذا التصعيد والآمال المعقودة على فرص الإنطلاق من نصر اليمن المفترض لمحمد بن سلمان نحو تكامل وتحالف يتخطى التطبيع، بين السعودية وكيان الاحتلال، وفقاً لكل الآمال المعلقة على صفقة القرن، التي أعلنت متأخرة عن موعدها وتم تأجيل إعلانها مراراً، بإنتظار النبأ السار بإعلان النصر في اليمن،12 وهو نصر كان متوقعاً في الأسابيع الأولى للحرب، وقبل حلول موعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، الذي تأجل مرتين بإنتظار النجاح السعودي في الحسم السريع، في حرب بداً لاحقاً أنها نسخة عسكرية عن حرب تموز 2006 التي شنها جيش الاحتلال برعاية أميركية على المقاومة في جنوب لبنان، بالإستثمار المفرط على سلاح الجو، مستهدفاً سحق حزب الله تماماً كما إستهدف بن سلمان سحق أنصار الله.13
قاتل اليمنيون ضمن تحالف ضم أنصار الله والجيش اليمني الذي أعيدت هيكلته، في ظل تفاهم ضم معهم شخصيات وأحزاب كان أبرزها في البداية الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وكان عنوان القتال هو إحتواء الهجوم السعودي الإماراتي، ومنعه من تحقيق أهدافه، عبر رسم خط أحمر بري وآخر بحري، نجح اليمنيون بمنع قوات التحالف من إجتيازهما، وقدمثلت العاصمة صنعاء وإمتدادها الجغرافي نحو محافظات مأرب والجوف، عنوان الخط الأحمر براً، ومثل ميناء الحديدة عنوانه بحراً، وشكل الإنتقال لفرض توازن ردع صاروخي مع السعودية في نهاية عام 2016، نقطة التحول التي أكدت فشل الحرب في خلق معادلات جديدة، وفرضت الإعتراف بالفشل، الذي بدأ الحديث عنه يتصاعد تدريجياً،14 وصولاً لتبلور رهان إستراتيجي جديد عنوانه، الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، والتموضع ضمن حلف ثلاثي أميركي خليجي ركنه الثالث كيان الاحتلال، في مواجهة إيران وقوى المقاومة، جبهته الرئيسية في الخليج، حيث شكل الحضور الأميركي المباشر ترجمته الأبرز في ظل تصريحات تبشر بالجهوزية لخوض حرب شاملة، تكشف لاحقاً أنها حرب نفسية تخفي ذات المعادلات التي منعت الإدارات الأميركية السابقة من التورط في حرب مع إيران، وهو ما ظهر جلياً بعد إسقاط إيران لطائرة التجسس الأميركية العملاقة فوق مضيق هرمز.15
خلال ثلاثة أعوام ممتدة من صيف العام 2017 حتى صيف العام 2020، نجح اليمنيون رغم التغييرات التي لحقت بهيكل التحالفات السياسية، مع إنفراط عقد التحالف مع جماعة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، بنقل المعركة إلى صفوف خصومهم بعد النجاح في إحتواء تداعيات أزمة صالح، فظهر الصراع السعودي الإماراتي إلى السطح، وظهرت هشاشة تشكيلة حكومة عبد ربه منصور هادي وضعف جيشه الذي بناه ورعاه السعوديون، وعاد تحدي ظهور تنظيم القاعدة وتنظيم داعش إلى الواجهة في مناطق سيطرة جماعة هادي، وبرز التناقض بين الثنائي القطري التركي مع الثنائي السعودي الإماراتي، حول دور الأخوان المسلمين، وتجسد ذلك عسكرياً بإمساك انصار الله بزمام المبادرة العسكري في الميدان بهجمات نوعية واسعة النطاق، دمرت خلالها وفككت تشكيلات عسكرية ضخمة لجيش هادي وقوات الحلف السعودي الإماراتي،16 ولم تنجح حالة الحصار التي طوقت اليمن براً وبحراً وجوّاً من خلق بيئة سياسية تتيح الرهان على تغيير المشهد الذي يتصدره أنصار الله، رغم الجوع والكوليرا، ووباء كورونا لاحقاً، وظهر ما هو أهم، وهو أن أمن الخليج في اليابسة والبحار بات في قبضة أنصار الله، الذين تمكنوا من شن هجمات صاروخية إستهدفت ممرات وصناعات الطاقة التي تشكل العصب الأشد جذباً للإهتمام الأميركي في مفهوم أمن المنطقة.17
هجوم آرامكو 
في خريف العام 2019 وتحديداً يوم 19 تشرين الأول – أكتوبر – شن انصار الله هجوماً بالصواريخ والطائرات المسيرة على منشآت النفط الحيوية في آرامكو، في قلب منظومة الأمن الأميركي السعودي، حيث بلغت الصواريخ أهدافها، ونجحت الطائرات المسيرة بتنفيذ هجمات معقدة تقنيا، وإشتعلت النيران في أغلب منشآت التكرير ما أدى إلى تعطيل توزيع المشتقات النفطية في المملكة،18 وقدم الكاتب السياسي الأميركي البارز في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان، الذي سبق وأعد نسخة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز للسلام مع كيان الاحتلال، يوم كان ولياً للعهد عام 2002، قراءة شاملة في معاني هذه الهجمات وأبعادها، معتبراً أنها التحول الإستراتيجي الأبرز في المنطقة منذ بداية الحرب على سورية، وفشلها في تحقيق أهدافها، واضعاً الهجوم في سياق تظهير قدرات محور المقاومة، وإمساكه بمستقبل أنظمة الخليج، وأمن كيان الاحتلال، وأمن القوات الأميركية في المنطقة، لأن ما حدث في الهجوم قابل للتكرار في أي من جبهات المواجهة الأخرى،19 وجاءت التعليقات داخل كيان الاحتلال على الهجوم وأبعاده بذات الإتجاه الذي تحدث عنه فريدمان.20
لم يتغير المشهد في الخليج بعد نجاح الأميركيين بإغتيال القائدين في محور المقاومة  قاسم سليماني وابي مهدي المهندس، فقد حمل شهر أيار وشهر حزيران، هجمات صاروخية مكثفة ومتكررة على الرياض، قالت أن زمام المبادرة في معادلات الردع لا يزال يمنياً، وأن المعادلة التي رسمتها هجمات آرامكو لا  تزال سائدة، بينما بقيت الصورة اليمنية الداخلية راجحة لصالح تثبيت مكانة أنصار الله العسكرية في هجمات مارب والجوف،21 وطغيان التفكك على جبهة التحالف الإماراتي السعودي، عبر حروب الوكالة بين جماعة حكومة هادي وجماعة المجلس الإنتقالي الجنوبي، وصعود مناخ دولي عنوانه الحاجة لتسوية سياسية تعترف بمكانة أنصار الله، وشروطهم لوقف النار، وفق معادلة ربطها بفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، وفقاً لما أكدته مبادرة المبعوث الأممي مراتن غريفيث.22
إذا كان أمن الطاقة في قلب الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، مرتبطاً بتدفق نفط الخليج، وفي قلبه السعودية صاحبة أكبر إنتاج نفطي في السوق العالمية، بإعتبار الإنتاج الأميركي والروسي مخصص في أغلبه للأسواق الداخلية، فإن هذا التدفق كان مرتبطاً بقدرة إيران على الإمساك بمضيق هرمز، وهو ما سلم به الأميركيون عملياً بعد إسقاط طائرتهم، وحرب الناقلات التي نفذها الإيرانيون في الخليج الفارسي رداً على إحتجاز إحدى نقالاتهم في مضيق جبل طارق، فإن هذا التدفق بات بعد هجوم آرامكو بيد اليمنيين، الذي أثبتوا أن مفاتيح أقفال النفط السعودي بين أيديهم، يغلقون ويفتحون متى يشاؤون .
وإذا كان أمن كيان الاحتلال الركن الثاني مع أمن الطاقة لأي إستراتيجية أميركية في المنطقة، فإن هذا الأمن كان مرتبطاً بتطور مقدرات حزب الله الصاروخية، خصوصاً إمتلاكه للصواريخ الدقيقة، ثم صار مشتركاً بين حزب الله والمقاومة في فلسطين التي أظهرت قدرتها على تهديد عمق الكيان بصواريخها،23 فهو قد صار مثلثاً مع ظهور القدرة الصاروخية لأنصار الله، وإعلان قيادتهم أنها ستكون جزءاً من أي حرب قادمة في مواجهة كيان الاحتلال.24
وإذا كانت القيادة السعودية للنظام العربي صمام الأمان السياسي للإستراتييجية الأميركية في المنطقة، منذ أيام المواجهة مع جمال عبد الناصر، عندما كان اليمن ساحة المواجهة المصرية السعودية في سيتينيات القرن الماضي، فإن الحقبة السعودية التي حكمت المشهد العربي الرسمي منذ رحيل عبد الناصر، ظهرت هشة وضحلة وواهنة، بعدما بدا أن أمن النظام الحاكم في الرياض صار رهينة بيد أنصارالله، لدرجة بدأت أقرب دول الخليج تسعى للتميز والتفرد، من الإنشقاق القطري، إلى الخصوصية العمانية، والتمايز الإماراتي، والإنكفاء الكويتي، بينما تزامن تراجع القبضة السعودية والهيبة السعودية مع تراجع مؤسسة الجامعة العربية كإطار للنظام العربي الرسمي، وظهرت السياسات الأميركية التي تأسست على إستثمار هذه المكانة السعودية، باهتة وبلا جاذبية، كما هو حال صفقة القرن ومؤتمرات التطبيع، بحيث أنيط بدولة هامشية كالبحرين التسويق لها،25 وتجرأت السلطة الفلسطينية على رفضها،26 وصارت خطوات ضم الأراضي الموعودة بالنسبة لكيان الاحتلال في ظلال صفقة القرن، موضع شكوك وتساؤلات .
سقوط الإستراتيجية الأميركية 
رسمت وثيقة زعامة القرن الحادي والعشرين التي أقرت عام 1999 كرؤية رسمية للولايات المتحدة الأميركية وتبناها البيت الأبيض في مطلع الولاية الأولى للرئيس جورج بوش الإبن،27 إطارا لحركة سياسية عسكرية ترجمتها الحروب الأميركية لاحقاً، وكان محورها وفقاً لما قالته الوثيقة منطقة الشرق الأوسط كما يسميها الأميركيون، وهي في الواقع غرب جنوب آسيا، حيث تقع إيران في قلب خارطتها، ويقع أمن الطاقة وأمن كيان الاحتلال في قلب أهدافها، وتشكل القيادة السعودية للعالم العربي الإستثمار الرئيسي فيها، وجاءت النسخة المجددة للإستراتيجية الأميركية في ولايتي الرئيس باراك أوباما لتجد في الإستثمار على نتائج ما عرف بالربيع العربي، خلق قيادات جديدة، وشكلت سورية ساحة الإختبار الرئيسي لها، لخدمة ذات الأهداف، ومثلما أسست الحروب التي فشلت في تحقيق أهدافها، وفقاً للتوصيف الأميركي لنتائج حروب أفغانستان 2001 والعراق 2003  ولبنان 2006 28، للرهان على محورية التغيير الجيوإستراتيجي الذي تمثله السيطرة على سورية، والتي أصيبت بإنتكاسة بنيوية منذ التموضع الروسي في سورية عام 2015، فإن الفشل في سورية جعل الرهان الأميركي ينتقل إلى إقامة توازن عنوانه السيطرة الأحادية على الخليج مقابل التشارك في السيطرة على المشرق، وفقاً للمسار الذي سلكه الرئيس دونالد ترامب مع إعلان إنسحابه من الاتفاق النووي وجلب الأساطيل إلى مياه  الخليج، تحت عنوان الخيارات المفتوحة29، وقد جاءت الإصابة القاتلة التي حرمت واشنطن من إمكانية إمتلاك إستراتيجية، من التحول الذي فرضه اليمن على موازين القوى، بحيث يمكن إعتبار النص الذي نشرته مجلة الفورين أفيرز التي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، والتي تعتبر أشد الدوريات الاميركية رصانة، في مقاربة الشؤون الإستراتيجية ورسم السياسات الخارجية، نصاً محكوماً بنتائج ما فرضه اليمن من متغيرات على المشهد، حتى تحدث كتاب الوثيقة الجديدة عن نهاية زمن الإستراتيجيات الكبرى30، قراءة غير مباشرة في الحدث اليمني، حيث تكثر الوثيقة من إشتراطات وجود الإستراتيجية، بما يتخطى إمتلاك الرؤى والمصالح والمقدرات، لتضيف إليها، القدرة على التوقع، والإستباق، والإنخراط، وهي عناصر كانت عملياً موضع إختبار حقيقي في اليمن، حيث حلت المفاجآت مكان التوقعات، وحل اللهاث وراء الأحداث مكان الإستباق، وحل الإنكفاء مكان الإنخراط .
الحاشية 
1- ترامب للملك سلمان للمرة الثالثة: أنا جاد جداً.. إدفع مقابل حماية العرش السعودي 
https://arabic.euronews.com/2018/10/05/trump-to-saudi-king-salman-this-time-i-m-very-serious-you-have-to-pay-for-protection
2- القصير نصر استراتيجي – الغارديان
- https://www.theguardian.com/world/2013/jun/05/syria-army-seizes-qusair  و أوباما ومفهوم الضربة https://web.archive.org/web/20190415104030/https://www.theguardian.com/world/2013/aug/30/john-kerry-syria-attack-clear-evidence
3- نص القرار 2118
 https://shrc.org/wp-content/uploads/2014/01/security-council.pdf
4- نتائج مفاوضات بغداد حول الملف النووي
  https://al-akhbar.com/International/70371
5- صحيفةهآرتز : تدخل في حرب اليمن 
https://arabi21.com/story/1138431/صحيفة-تكشف-دور-إسرائيل-العسكري-في-حروب-اليمن-تفاصيل
6- آستانة – مؤتمر -
 https://web.archive.org/web/20170202013322/http://www.alwatanonline.com/archives/15952
7- البحار الخمسة
https://www.alalam.ir/news/3079231/منظومة-البحار-الخمسة-التي-ستقود-العالم
8- اليمن وفلسطين
 https://al-akhbar.com/Yemen/246826
9- في مرمى الصواريخ اليمنية
https://www.alalam.ir/news/2020414/شاهد-بالفيديو--اسرائيل-في-مرمى-الصواريخ-اليمنية
10- مشاركون في حرب اليمن
http://www.masa-press.net/2019/08/26/كاتب-إسرائيلي-في-اعتراف-جديد-الجيش-الإ/
11- بن سلمان واليمن
https://arabic.sputniknews.com/arab_world/201901061038033900-اليمن-قطر-ابن-سلمان-بشار-الأسد-يتوقع/
12- اليمن يؤجل صفقة القرن
https://www.raialyoum.com/اليمن-والضفة-بداية-نهاية-صفقة-القرن-ك/
13- حرب اليمن عسكرياً
  https://studies.aljazeera.net/ar/article/4658
14- فشل الحرب في اليمن
https://www.aa.com.tr/ar/أخبار-تحليلية/حرب-اليمن-تداعيات-قد-تنتهي-إلى-زلازل-جيوسياسية-مقال-تحليلي/1615119
15- إسقاط طائرة أميركية
 https://www.raialyoum.com/إيران-تعلن-إسقاط-طائرة-مسيرة-أميركية-ع/
16- انتصارات يمنية
  http://almanar.com.lb/3932139
17- ضربات صاروخية 
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2018/3/26/أبرز-الهجمات-الصاروخية-الحوثية-على
18- هجوم أرامكو
https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/9/16/أميركا-السعودية-أرامكو-هجمات-العراق
19- توماس فريدمان
https://arabi21.com/story/1214108/الغارات-على-أرامكو-صدمت-أبو-ظبي-والرياض-وكشفت-ترامب
20- ديمونا على طريقة أرامكو
http://www.alnour.com.lb/news/security/389160/-اسرائيل--تخشى-تكرار-تجربة-ضرب-شركة--ارامكو--السعودية-على-مف
21- الجوف بيد أنصار الله
https://www.aa.com.tr/ar/الدول-العربية/كيف-سقطت-الجوف-اليمنية-في-أيدي-الحوثيين-/1752706
22- غريفيت ومطار صنعاء وميناء الحديدة
https://www.aljazeera.net/news/politics/2020/4/17/اليمن-غريفيث-إطلاق-النار-الهدنة-مجلس
23- الصواريخ الفلسطينية تهدد عمق الكيان
  https://al-akhbar.com/Palestine/267793
24- اليمن صواريخ
https://www.alquds.co.uk/نتنياهو-يكشف-سر-التهديد-الإيراني-على-إ/
25- البحرين والتطبيع
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/organizationsandstructures/2017/12/11/هذه-هي-البحرين-قاطرة-التطبيع-البحريني
26- السلطة الفلسطينية ترفض طلب سعودي بقبول صفقة القرن 
https://al-sharq.com/article/06/08/2018/لماذا-تراجعت-السعودية-عن-صفقة-القرن؟?_cf_chl_captcha_tk
27- زعامة القرن الـ21 
https://www.albayan.ae/one-world/1999-05-28-1.1076963
28- تقرير بايكر هاملتون
 https://elaph.com/Web/Politics/2006/12/196017.html
29- تحدي أميركي لإيران عسكرياً
  https://www.bbc.com/arabic/trending-46083359
30- مهاية الاستراتيجيات الكبرى – فروين افيرز -
 https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2020-04-13/end-grand-strategy


قراءة: 505